ليست هذه الكلمة مناقشة للأستاذ أحمد أمين في رأيه التحرر من سلطان الأدب الجاهلي، وإنما هي تعليق على مقالته الثانية في الثقافة وقوله فيها: ( أناشد الأدباء والشعراء أن يستمدوا تشبيهاتهم واستعاراتهم مما بين أيدينا من مخترعات، وألا يستعملوا مالا يحسون ولا يعلمون من تشبيه، وأناشد المعلمين أن يعلموا بالخط الأحمر على الاستعمالات التي يستعملها الطلاب الخ. . . )
كيف يستطيع المدرسون ذلك وأمامهم الأكبر ومن تجب عليهم طاعته يذهب من مصر إلى العراق ليرثي ملكا عصرياً توفي من أربعين يوماً، فلا يجد من التشبيهات والاستعارات إلا ما كان يستعمله الشعراء من ألف سنة، فالقدر له سهم (ولن يستطيع العالمون له رداً) والمصاب له سهم آخر أصاب
الهاشمية (بعد ثلاثة أبيات)، فهل يقاتل الجيش المصري اليوم بالسهام؟ فما قيمة هذا التشبيه إذن في رأي أستاذنا الجليل أحمد أمين؟ وما قوله إذا كان هذا السهم (العجيب) قد هدّ من العلياء أركانها هدًّا، (فلم يبق للعراق بعده ركن في العلياء قائم. أليس هذا هجاء لأمة في رثاء رجل؟) وإذا كان قد أطفأ نور الشمس وأضرَم المجدا، هل شاهد الأستاذ الجارم الشمس منطفئة فاستعمل ما يحسّ ويعلم من تشبيه؟ وهل رأى هذا (الند) الذي يذكره مع المسك أم كل ما يعرف عنه انه شيء ذكره المتقدمون؟ وذكرُه السيف وسيوف الليالي، أهو من وحي هذا العصر عصر النار والغاز والبارود أم هو التقليد؟ وهؤلاء الذين يبطشون أسداً، أعن حسّ وعلم بالأسد وصفهم الجارم، أم هو قد أخذ المثال النحوي (كرّ على أسداً) من بحث الحال في الكتاب النحو الذي ألّفه؟ ويسأل السيف عن جند العراق كيف صال بكفهم، وهو يرى جند العراق يتنكبون البنادق ويحاربون بالبارود، أفعن تقليد قال ما قال، أم عن مشاهدة وعيان؟ والسلاف تمزج في حانات مصر بالشهد، وتخلط الشمبانيا في خمارات عماد الدين بالعسل، أم الأستاذ يقلد؟ وأياً ما كان الأمر فما هو وجه الشبه بين غبار النصر وهذه السلاف؟
وقوله في غازي رحمه الله: (فتى تنبت الآمال من غيث كفه) أليس إعادة لأقوال المتقدمين يوم كانوا يتمدحون بالكرم ويوم كان الغيث حياتهم في الجزيرة، وتتمة البيت (فلله ما أولى ولله ما أسدى) أليس كلاماً فارغاً، وتشبيه تلال الصحراء بالجمال أعن حسن كان وعلم؟ أفي رحبة وزارة المعارف حيث يقيم الأستاذ، أم في شوارع القاهرة رأى هذه الجمال (التي لا تساق ولا تحدي) أي ولا يحدي بها. . . وكيف رأى في ثنايا وجه فيصل الصغير
الوديع (الأسد الوردا) مع أنه لم يشاهد في حياته أسداً إلا محبوساً في قفص الحديقة؟ وقوله في الختام: (سلام على غازي سلام على الندى، إذا ما بكى من بعده الترب والندى)، أيعد له في باب التقليد والجمود شيء؟ أي ندى وأي ندّ يا سيدي إليك؟
فمن أين يستطيع المدرسون اتباع رأي الأستاذ أحمد أمين وإمامهم الجارم بك هذه حاله وهذا مقاله. وأنى لوزارة المعارف أن تحرر الأدب وتعلو به في مدارج العلا وهؤلاء السادة يمسكون بتلابيبها أن تتزحزح أو تريم؟ (بغداد)
