إن الذى يستعرض حالتنا الاجتماعية والخقلية كما تبدو في معاملاتنا ، لا يسمه إلا أن يعترف بأنها حال لا تسر وتحتاج إلي تغيير جوهرى . فقل من ينطق بالصدق بسجيته ، ويلتزم الحق بطبيعته ، ويصارحك القول ، وإذا وعدك أنجز ، وإذا اؤتمن صان الأمانة ، وإذا ولى عملا أداه على الوجه الأكل ، مراعيا المصلحة العامة لا مصلحته الخاصة . وللانسان أن يتساءل عن سبب هذا النقص الخلقى ، وعما إذا كان نتيجة لتطور طبيعى ، أو لعوامل سوء سلطت علينا . ولعل من الخير أن نستعرض هنا التطورات التى طرأت على التعليم عندنا ، والعوامل التى أثرت في الحالة الاجتماعية ، لكي نعثر على ما يهدينا إلى الخطة التي تؤدي بنا إلى تحسين حالنا من هذه الناحية
كان التعليم الغالب فى مصر إلى الجزء الأخير من القرن الماضي تعليما دينيا للصغار في الكتاتيب ، وللكبار في الأزهر وغيره من المساجد ، يدور كله حول القرآن الكريم وما يتصل، مضافا إليه قليل من الحساب في المدارس الأولية وملحقاتها . وكان هذا التعليم ينتج طبقة محدودة الأفق من جهة الثقافة العامة ، ولكنها مهذبة ومتحلية بالأخلاق والآداب الإسلامية ، ترى الواحد منهم يعامل الناس بصدق وأمانة ، ويحفظ الكلمة التى يرتبط بها ، ويوفى الكيل والميزان ، ويؤدى للناس
حقوقهم ويعيش عيشة نقية متواضعة في حدود دخله مدخرا منه ما ينفعه وقت الشدة وكان حرصه على الوضوء والصلاة يجعله دائما نظيفا طاهرا كما أن صيانته لنفسه بالعفة كانت تحميه من الأمراض الخبيثة كذلك كان هذا المواطن سعيدا في بيته لأنه السيد المطاع فيه فالمرأة قد رتبت حياتها على أن البيت مستقرها ورضا الزوج غايتها وتربية الأولاد وظيفتها .
ثم حدث تطور جوهرى في التعليم بمصر دفعها إلى الأخذ من العلوم الحديثة بنصيب كبير فسافر عدد من أبنائها إلى أوربا فى بعوث علمية وكان هؤلاء في بدإ الأمر يعودون لمصر وهم لا يزالون محتفظين بالروح الأزهرية ، فكانوا يجمعون بين المدينتين ، لا سيما وأن القائمين على الأمر في تلك الآونة كانوا يحاسبونهم على ذلك ، فلما انتقلت مقاليد الأمور إلى الإنجليز ومن على شاكلاتهم ، ضعفت بالتدريج تلك الروح الدينية ، واحتلت العلوم الدنيوية الحديثة المكانة الأولى من اهتمامنا.
ثم زاد عدد المتعلمين ودخل عنصر التنافس بينهم وعقدت لهم الحكومة امتحانات منظمة اهتمت بها اهتماما صرف المدارس إلى تحسين نتائجها وبذلك قضى على البقية الباقية من العناية بالتربية الخلقية في المدارس فأصبحت معامل لحشو الأذهان بالعلومات فحسب ومما ساعد على إهمال الناحية الروحية انغماس الطلبة فى السياسة والإضرابات مما بث فيهم روح الزهو والخيلاء
وجر ذلك كله إلى شئ من الاستهتار والإباحية لم يصب الشبان وحدهم ، بل تعداهم إلي الفتيات ، لأنهن خرجن . أيضا للمساهمة فى الحركة الوطنية
فالباحث يرى إذن أن الظروف هى التي دفعت البلاد دفعا إلى ما وصلت إليه من حالة اجتماعية يأسف لها الجميع ويرجون لها علاجا سريعا حاسما ، لا سيما وأن الاستقلال الذي نالته مصر قد بعث فيها روحا جديدة ، وأيقظ فيها شعور العزة والطموح إلى ذروة المجد . وقد أحس كل مفكر بأن تدعيم هذا الاستقلال يتطلب أن يتحلى الجيل ، الجديد من الشبان والشابات بصفات رفيعة وأخلاق نبيلة . ومثل عليا تدفعهم إلى خوض غمار الحياة بقوة وحماسة ومن الطبيعى أن نعتمد فى تحقيق هذه الغاية على الطعلم قبل كل شئ ، ولهذا يجب أن تررسم له خطة واضحة وأن نتأكد من إدراك معلم الغد لمهمته هذه حتى يجعلها نصب عينه ويعد نفسه لها . وهذا يقتضى منه درسا لشخصه ليصلح نفسه : بالصفات الضرورية للنجاح ، وهي على ما نري ثلاث:
أولها الرغبة الصادقة فى القيام بهذه الوظيفة . فتربية النشئ ، ليست بالعمل الهين ؛ بل تستنفد من المدرس مجهودا شاقا لا يحتمله ويصبر عليه إلا من كان مدفوعا برغبة صادقة ، وإقبال طبيعى ، واهتهام قلبى . وثانيها العطف الكبير على التلاميذ والصبر على مسابرتهم ومعالجتهم بالهدوء والحسنى ، حتى بكسب ثقتهم ويأنسوا له ويفضوا إليه بما فى نفوسهم وبمتاعبهم وصعوباتهم . وبغير ذلك لا أمل . للمدرس فى أن يؤثر فى التلميذ من ناحية التربية الخلقية والثالثة ممارسة الصفات التي يريد أن يزرعها في نفس التلميذ ، فمن العبث أن يحاول إنسان تعويد الطفل على الصدق وهو كاذب ، أو على العدل وهو ظالم ، أو على الرأفة وهو قاس.
تلك الصفات الثلاث هى مفتاح نجاح المربى ، فإذا استوثق من وجودها فيه فعليه بعد ذلك أن يتسلح بفهم ، عقلية التلميذ والقوانين النفسية التي تتحكم فى هذه العقلية وهذا ما يجب أن نقول فيه كلمة.
العلم ان الغرائر هى أساس السلوك ، فغريزة الهرب ويصحبها الخوف تدفعنا إلى الابتعاد عن كل موقف نحس بأن فيه تهديدا لحياتنا بأقل خطر . وغريزة البحث عن الطعام ويصحبها الجوع ، تدفعمنا إلي الجرى وراء ما يسد ، الرمق وإن بشىء من المخاظرة . وغريزة حب الاجتماع ويسبقها شعور بالوحدة ثم رغبة في الاثتئناس ، ندفعنا إلى البحث عن رفاق نجتمع بهم ، وإلى إقامة أما كن للاجتماع وتبادل الرأى . فإذا تكررت الانفعالات حول شئ معين أو شخص بالذات ، أو أحد المثل العليا ، تكون من هذه الانفعالات مجتمعة ما يسمى بعاطفة خاصة نحو هذا الشئ أو الشخص أو المثل الأعلى.
من أجل ذلك كانت الخطوة الأولى فى التربية عبارة عن مهيئة الوسط ، وإيجاد السبل لتوجيه الغرائز وانفعالأتها حول ما يتصل بالصفات المراد إيجادها في الطفل ، حتى تتكون حولها عواطف تشتد وتزداد عمقا كلما جرت انفعالات جديدة ؛ وهذه العواطف بعد تكوينها تحل محل الغرائز ، أو تعمل معها جنبا إلى جنب ، كدوافع لسلوكنا.
وعملية تكوين العواطف نحو الأشياء والأشخاص سهلة وتأتى بصورة طبيعية ؛ فكل منا يشعر بعاطفة نحو المدارس التي تعلم فيها فى صغره ، والأماكن التي كان يرتادها فى صباه ، والشخص الذي كان على الدوام يقص . عليه القصص فى طفولته ، وينفحه بالهدايا فى صغره الخ ومن السهل أن تنتقل الانفعالات الشديدة والعواطف العميقة من الشئ الأصلي الذي سبب السرور والانفعال
اللذيذ إلى شئ متصل به ، كما نحس بعاطفة نحو كرسى كان يجلس عليه الوالد الرحيم ، أو نافذة كان يطل منها حبيب . لكن تكوين العواطف نحو المعنويات ليس بالأمر الهين لصعوبة إدراك تلك المعنويات ، فمثلا إذا أردنا تكوين عاطفة نحو فضيلة من الفضائل كالصدق أو العدل ، فيجب أولا أن نهيى الجو أو الوسط الذى يحيط بالطفل لتوضيح معنى هذه الفضيلة والتشبع بفكرتها ولمس فوائدها بالتجربة الشخصية ، وذوق المرارة الناتجة عن الصفة المضادة لها كالكذب أو الظالم ، فمتى لمس الشخص نتائج الصدق أو العدل ، واستشعر فوائدها صحب ذلك انفعالات سارة ترتبط بهذه الفضيلة ، كما أن الإحساس بمرارة الظلم ، والتأثر بالعواقب السيئة للكذب ، يؤدى إلى انفعالات قوامها الألم والضيق ، ترتبط بالرذيلة الخاصة التى نحن بصددها (الظلم والكذب) فتكون عاطفة ضدها ؛ وبتكرار الانفعالات السارة المتصلة بفضيلة ما ، تزداد العواطف المتكونة حولها قوة وشدة ، وتصبح هذه العاطفة قوة هائلة ، تدفع الشخص نحو تلك الفضيلة ، كما . تصبح العاطفة ضد نقائضها موانع تحمى الانسان منها
كذلك إذا أراد المعلم زرع فضيلة الشفقة أو النظافة أو الشجاعة اجتهد فى أن يلصق انفعالات سارة بالأعمال التى هى نتيجة لتلك الفضائل ؛ وانفعالات مؤلمة بالإعمال التى هى نتيجة لنقائضها ، فمثلا يمدح التلميذ الذى يظهر رأفة بحيوان ضعيف ، ويلام من بقسو على مثله ، وتعرض كراسات التلميذ ، النظيف لتكون محل إعجاب إخوانه والمدرسين والزوار ويعاد التلميذ القذر إلى منزله لتغيير ملابسه ، وتختار القصص أو تؤلف بحيث ينال كل من يقوم فيها بالأعمال التى تتطلب الشجاعة جزاء طيبا ، وينزل بالجبان شر البلاء . وبذلك كله يعمل المعلم على أن يثير انفعالات سارة حول الولد الشفيق والطفل النظيف والبطل الشجاع ، وبذلك تتكون
عواطف حولهم تنتقل سهم إلى الشفقة والنظافة والشجاعة . بوجه عام
وخير الطرق لإعطاء التلميذ فرصة لممارسة الانفعالات التى تؤدى إلى خلق العواطف هو إطلاق نشاطه فى مختلف النواحى الدراسية والاجتماعية والرياضية . فالدراسة إذا ، كانت عن طريق النشاط كما هو الشأن فى المدارس الحديثة والحياة الاجتماعية التى تملأ جو تلك المدارس ، والمباريات الرياضية الكثيرة ؛ كلها ميدان فسيح تظهر فيه على الدوام فرص عديدة لظهور الانفعالات المختلفة التى تتصل بالفضائل والرذائل والتى تعطى المدرس فرصة ذهبية لقرن الانفعالات السارة بالفضائل ، والانفعالات المؤلة بالرذائل ، لا سيما فى . خلال احتكاك التلميذ بإخوانه وأسائدته
والمهم فى كل تلك العمليات ضرورة تعرض الشخص للتجارب العملية التى تجعله يلمس بشخصه كل تلك الآثار الطيبة أو السيئة . على أن هذه التجارب الشخصية قد تكون خيالية إلى حد ما ، ويحدث ذلك بواسطة القصص . التاريخية القوية ، وسير البطولة الخلقية ، وتاريخ عظماء الرجال كل هذا إذا كتب بعناية ودقة وطريقة جذابة ووضع تحت نظر التلمذ ليقراء ساعد على توضيح الفكرة عن مختلف الفضائل ؛ لأن لهذه القصص والسير والتواريخ قوة تثير الانفعال الشديد فى نفس المتعلم وتجعله يحس بها كما يحس بالأشياء المادية فتكون عنده عواطف قوية حولها ، وتثبتها . فى نفسه كمثل عليا
وهناك بعض الخصائص النفسية التى تلعب دورا هاما فى تكوين تلك العواطف وفى تثبيت الفضائل فى نفس التلميذ وهى : أولا قابلية الاستهواء التى يجعل الأفكار والآراء تتسرب من شخص لآخر ، وعلى الأخص من شخص رفيع إلى من هو دونه ؛ أو بعبارة أخرى من الآباء
والأسائدة والتلاميذ الممتازين إلى التلاميذ العاديين . وقد يحدث الاستهواء دون أن يشعر به هذا التلميد العادى وهناك ثانيا ما يسمى فى علم النفس بالمشاركة الوجدانية التى تنقل الميول والنزعات والعواطف والانفعالات من شخص لآخر ولو من غير أن يشعر أيضا ؛ ويضاف لهاتين الخاصتين النفستين خاصة ثالثة لا تقل عنهما اهمية وهى خاصة . حب التقليد
وهناك عامل نفسانى آخر على أعظم جانب من الأهمية . يؤثر فى الطفل من الداخل ، وهو عاطفة اعتبار الذات فالطفل بعد أن يحس بنفسه ككائن حى مستقل ممثلى نشاطا وطاقة ، وبعد أن يكتسب من اتصالاته الاجتماعية بالناس قوة التفكير والانتقاد (فى نفسه ولها على الأقل) ويدرك أن غيره من الناس يصدر الأحكام على أعماله وتصرفاته مدحا وذما ؛ كل ذلك بعوده بالتدريج أن ينظر : إلى نفسه من ناحيتين الأولى : ككائن مفكر ، والثانية ككائن يفكر فيه الغير . ونتيجة هذه النظرة المزدوجة عند الطفل وسلوك الآخرين بإزائه أن تنشأ عنده عاطفة اعتبار الذات هذه ، فيكون فكرة محدودة عن نفسه بأن لها خلقا معينا ، وأن لها صفات وقدرات معينة ، وتصبح هذه الفكرة بالنسبة له معيارا للسلوك على الأقل إن لم تكن مثلا أعلى ، بحيث يربأ بنفسه عن أى سلوك يسىء إلى الصورة التى رسمها ، ومن ثم تأتى النجدة للقائمين على تربية الناشئ فتراهم يقولون له : " هذا لا يليق بك " أو " أنت تدني نفسك بهذا الفعل " ، كذلك يجد التلميذ يقول لنفسه إذا سولت له عمل السوء : " هذا دون مستواى ولا يصح أن أنحدر إليه " وهذا القول يقوى إرادته ضد ارتكاب . العمل محافظة على كرامته
وعاطفة اعتبار الذات هذه من أقوى العوامل التى تعين الصبى فى التغلب على العواطف ، فالمشاهد عادة أنه
إذا تنازعت العواطف المعوية والمادية ، فإن الأخيرة تقهر ، الأولى إلا إذا هبت الإرادة لنصرة العواطب المعنوية لذلك يحرص المربون على تقوية عاطفة اعتبار الذات إلى أكبر حد ، وكل مدرس يأتى فى معاملاته للطفل بما . يضعف هذه العاطفة بهدم أكبر عامل فى تكوين أخلاقه
وهذه الصورة التى يرسمها التلميذ لنفسه يصل إليها من طريقين ، فهى ترجع من جهة إلى مواهبه الموروثة ، ومن جهة أخرى إلى الطريقة التى يعامله بها الغير ، ومن هنا تظهر أهمية عمل المربى الذى يجب أن يشعر الصبي دائما بأنه أمين وصادق ومجد الخ ، وإذا صدر عنه خطأ اشعره بأنه بطبيعته طيب ، وإن كان عرضة لبعض الهفوات التى ، يستطيع بشئ من الجهد والإرادة أن يعالجها فى نفسه وبهذه الوسيلة يجعل المدرس فرصة لهذا الصبي أن يصبح طيبا بالفعل أكبر من فرصة الصبي الذى ينعته مريبه بأنه "مشاكس " . ومن ثم يجب أن نتحاشى فى المدرسة وصم تلميذ بأنه بليد وآخر بأنه قذر وثالث بأنه كذاب الخ . حتى لا ينخفض المستوى الذي يضع التلميذ نفسه فيه
وهذه العوامل النفسية الأربعة التى أُتينا عليها فى غاية الأهمية ، فالثلاثة الأولى تمهيدا على طبع التلميذ بطابع المثل الصالح فى شخص الوالد أو المدرس او الرميل البارز ، ومن هنا تظهر اهمية صفات المدرس . فنعلم من خصائص المراهقة أن الصبى يتخذ لنفسه فى هذا الدور من الأشخاص المتصلين به بطلا أو أبطالا يحتذبهم على الدوام ؛ ويغلب أن يكون هذا البطل من بين المدرسين الممتازين القائمين على تربيته . وسندع النظر فى بعض الصفات التى يغلب أن ينقلها التلميذ عن مدرسه بالاستهواء أو المشاركة الوجدانية أو التقليد إلى مقال آخر نفصل فيه كذلك الصورة التى يجب . أن تأخذها الحملة الخلقية عندنا لتكون مثمرة ودائمة الأثر
