الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 67الرجوع إلى "الرسالة"

الترجمة في الأدب العربي ، وتراجم عظمائنا المحدثين

Share

في العام الماضي فكر جماعة من الأساتذة والكتاب في  إصدار مجموعة من التراجم القوية المحققة لعظماء مصر في العصر  الحديث. وكانت الغاية من إصدار مثل هذه المجموعة علمية قومية  قبل كل شئ؛ فليس في تراثنا التاريخي المعاصر مثل هذه  السلسلة؛ وما زالت سير الكثيرين من عظمائنا مجهولة مغمورة،  وما زال شبابنا المتعلم يتوق إلى استعراض هذه السير في بحوث  محققة ممتعة تغري بالقراءة والدرس فلا يجدها. وسير العظماء زينة  التاريخ القومي، والتاريخ القومي غذاء للشعور الوطني.ولكن  هذا المشروع العلمي الجليل لم يجز مع الأسف طور التفكير،  وطوي كما طويت مشاريع مثله من قبل.

إن تراجم العظماء تشغل في آداب الأمم العظيمة وفي تاريخها  أسمى مكانة، فأقطاب الأمراء والساسة والقادة والعلماء والشعراء  والأدباء والفنانين، هؤلاء جميعاً يأخذون مكانهم في التاريخ القومي  العام، ثم يأخذون مكانهم في تراجم خاصة، تذهب أحياناً إلى  البحوث النقدية المستفيضة التي تشغل مجلدات بأسرها وتخصص  للمراجعة العلمية والدراسة العليا؛ وتقتصر أحياناً على صور  موجزة، ولكن قوية ممتعة تخصص لدرس الشباب وللقراءة  العامة. ويخص هؤلاء العظماء بالدرس في كل عصر ووقت،  ويحظون بمختلف البحوث والدراسات، وقد تصدر عن أحدهم  عشرات التراجم والسير، ولكل مقامها العلمي والأدبي. أما  نحن فكما أن النقص يعتور تاريخنا القومي، وكما أن هذا التاريخ  لم يكتب بعد بما يجب من تحقيق وإفاضة، فكذلك يعتور النقص  لدينا هذه الناحية الخاصة، أعنى ناحية التراجم والسير المفردة؛  وقلما حظيت آدابنا التاريخية بترجمة محققة وافية لعظيم من  عظمائنا المحدثين.

على أن هذه الناحية الخاصة من الباحث التاريخية تشغل في

الأدب العربي القديم مكانة هامة . وقد بدأت العناية بها فى عصر مبكر جدا .. فمنذ القرن الثاني للهجرة يعنى الرواة والمؤرخون المسلمون بالسير والتراجم المفردة . وقد لبثت تراجم العظماء الخاصة حتى أوائل القرن الثالث عشر الهجري تملأ فراغا كبيرا فى الآداب التاريخية العربية ؛ ولم تقف الترجمة الخاصة عند نوع معين أو طائفة معينة من العظماء , بل تناولت رجال السيف والقلم , والملوك والوزراء , والقادة والمفكرين , والكتاب والشعراء من كل ضرب ومنها الموضوعات العامة , ومنها المجموعات الخاصة لطوائف معينة , ومنها التراجم والسير الفياضة , ومنها الوجزة . وفى الآداب العربية من هذه وتلك تراث شاسع قد لاتحظى به أية آداب أخرى , اذا استثنينا العصر الحديث الذى وأكدت فيه الآداب العربية , ونهضت فيه الآداب الأخرى . غير ان هذا التراث الحافل يقف مع الأسف عند بدء تاريخنا الحديث ، وينقطع سيره انقطاعا تاما , فلا نكاد نظفر فى ذلك العصر بآثار قيمة فى التراجم العامة أو الخاصة ؛ وهذه ثغرة فى آدابنا التاريخية لم نوفق الى تداركها حتى اليوم .

ويجدر بنا أن نستعرض بهذه المناسبة طرفا من تراث التراجم والسير الخاصة فى الأدب العربى , لنذكر شبابنا التعلم بما خص به هذا الفن فى أدبنا من العناية والاهتمام , وما انتهى اليه من النضج والتقدم . وما ذكره هنا هو على سبيل التمثيل فقط ، إذ يقتضى الالمام بجميع آثار هذا الفن فصولا بأسرها . وفي مقدمة هذه الآثار السيرة النبوية الكريمة , وأشهرها وأنفسها سيرة ابن اسحاق التى دونت فى منتصف القرن الثاني من الهجرة وكتب ابن النديم كتاب الفهرست الشهير فى أواخر القرن الرابع , وألم فيه بطائفة كبيرة من تراجم الفلاسفة والمفكرين والكتاب وآثارهم حتى عصره ؛ ومنذ القرن الخامس يعظم ميدان هذا الفن ويتسع , وتوضع فيه الموضوعات الكبيرة  فتجد الخطيب البغدادي المتوفى فى أواخر هذا القرن يستعرض فى كتابه الضخم " تاريخ بغداد " مئات من تراجم العظماء الخاصة فى جميع الدول الاسلامية ؛ وفى القرن السابع وضع القاضى الآجل شمس الدين بن خلكان موسوعته العامة " وفيات الأعيان " فى تراجم العظماء من كل ضرب . ولا ريب أن معجم ابن خلكان

من أنفس آثار الترجمة العربية إن لم يكن أنفسها جميعا . فهو موسوعة شاسعة تحتوى على أكثر من ثمانمائة ترجمة لأعلام الأمم الاسلامية , ومنها تراجم ضافية تملأ صفحات كبيرة ، ومنها تراجم موجزة , ولكنها تمتاز جميعا بالتحقيق ودقة التصوير ؛ وقد عني ابن خلكان عناية خاصة بتحقيق الأسماء والتواريخ , ونستطيع أن نقول إنه أول مؤرخ عربي جعل من الترجمة فنا حقيقيا ، وما زال معجمه إلى عصرنا من أهم المراجع التاريخية وأنفسها . وبلغ فن الترجمة ذروة ازدهاره فى القرنين  الثامن والتاسع  وظهرت فيه الموضوعات الفنية الشاسعة , وخص كل عصر وكل قرن بأعيانه وأعلامه ، ونستطيع أن نذكر من آثار هذا العصر , كتاب " أعيان العصر وأعوان النصر " لصلاح الدين الصفدى المتوفى سنة  764 ه ، وهو موسوعة كبيرة فى تراجم الاعلام المعاصرين لم يصلنا منها سوى بضع مجلدات . وللصفدى أيضا كتاب " الوافي بالوفيات ،" وهو موسوعة عامة فى تراجم أعلام الأمم الاسلامية من سائر الطبقات والطوائف منذ الصحابة إلى عصره ، ولم يصلنا منها أيضا سوى بضعة مجلدات ؛وقد ذيل عليها مؤرخ مصر أبو المحاسن بن تغري بردي بكتاب عنوانه " المنهل الصاق والمستوفى بعد الوافى " ضمنه تراجم الاعلام منذ منتصف القرن السابع إلى عصره أى إلى منتصف القرن التاسع . ولدينا منذ القرن الثامن سلسلة متصلة من معاجم الترجمة , يختص كل معجم منها بقرته , وأولها كتاب " الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة " محافظ بن حجر العسقلاني ؛ ثم كتاب " الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع " لشمس الدين السخاوى , وهو من أنفس معاجم الترجمة وأقواها من الوجهة النقدية ؛ ثم كتاب " الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة " لنجم الدين الغزى العامرى ، ثم " خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر" للمحي الحموي ! ثم " سلك الدرز فى أعيان القرن الثاني عشر" أبي الفضل المرادي . وقد ترجم لنا عبد الرحمن الجبرتى مؤرخ مصر فى عهد الفتح الفرنسى طائفة كبيرة من أعيان مصر فى القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر, وهو يصل بذلك سلسلة التراجم . وترجم لنا المغفور له العلامة علي باشا مبارك كثيرا من أعيان مصر فى العصر الأخير فى كتابه " الخطط التوفيقية " ووضع المغفور

له العلامة أحمد تيمور باشا عدة تراجم لبعض أعيان مصر فى القرن الرابع عشر, وهى التى نشرتها "الرسالة" تباعا فى أعدادها الأخيرة .

هذا عن التراجعم العامة . وأما عن الترجمة المفردة التى تقتصر على سيرة شخص معين , والترجمة الخاصة التي تعالج طائفة خاصة من الأعلام , فلدينا منها الكثير أيضا , ونستطيع أن تمثل للترجمة المفردة بسيرة عمر بن عبد العزيز لمحمد بن عبد الحكم المتوفى فى أوائل القرن الثالث ؛ وسيرة المعز لدين الله لابن زولاق المصرى المتوفى فى أواخر القرن الرابع , وقد ضاعت ولم يصلنا منها سوى شذور قليلة ؛ وسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي من علماء القرن السادس , وتاريخ تيمورلنك المسمى " بعجائب القدور " لا بن عربشاه الدمشقي من علماء القرن الثامن وترجمة المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون بقله ؛ وترجمة الحافظ ابن حجر بقلم تلميذه السخاوى , وترجمة ابن الخطيب للمقرى , وغيرها . ولدينا الكثير أيضا من تراجم الطوائف الخاصة كالفلاسفة والأدباء والقضاة والنحاة وغيرهم ، مثل أخبار الحكماء للقفطى , وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة , ويتيمة الدهر للثعالي , ومعجم الأدباء الياقوت , وقضاة مصر لابن حجر , وكثير غيرها هذا عدا كتب الطبقات الخاصة بتراجم فقهاء المذاهب المختلفة وهي كثيرة لا يتسع المقام لذكرها .(١)

والخلاصة أن الأدب العربي غنى بترائه فى فن الترجمة , وقلما تنافسه فى ذلك آذاب أخرى , إذا استئنينا العصر الحديث . ولكن هذا التراث الحافل يقف مع الأسف عند بدء تاريخنا الحديث ؛ ولو لم يوهب لمصر مؤرخها البارع عبدالرحمن الجبرتى فى القرن الثاني عشر( القرن الثامن عشر الميلادي ) ويتحفنا بموسوعته النفسية  "عجائب التراجم والآثار" لضاعت إلى الأبد حقائق ومعالم كثيرة عن تاريخ مصر فى هذا العصر , ولطمست سير الكثيرين من أعلامه . نعم إن الترجمة العربية لم تعرف الأسلوب النقدي , ومنهج التحقيق العلمى ، لأنها ازدهرت فى

عصر كان التاريخ فيه أقرب إلى الرواية ولكنها مع ذلك تتمتع فضلا عن غزير مادتها بكثير من التحقيق التاريخى , وفي وسع المؤرخ الحديث أن يستخرج منها نفائيس مادته وقد كان الجبرتى خاتمة هذا الثبت الحافل من مؤرخين عنو بتدوين الحوادث والتراجم المعاصرة , ولم يقع لتراثنا مثل هذا الأثر النفيس منذ الجبرتى أى منذ أوائل القرن التاسع عشر. وقد تقدمت المباحث التاريخية فى العصر الأخير تقدما واضحا , وبدىء بكتابة تاريخ مصر الحديث (١)؛ ولكنا حتى فى هذه الناحية العامة ما زلنا فى مستهل جهودنا ؛ ومما يبعث على أشد الآسف والألم ان يجد عناية الكتاب الغربيين بكتابة تاريخنا الحديث سواء من الوجهة العامة أو من بعض الوجوه الخاصة أوفر من عتايتنا ، وأن نجد فى مختلف اللغات الأوربية من الآثار المتعلقة بتاريخنا أكثر مما نجده فى لغتنا العربية .

أما النواحى الخاصة فى تاريخنا القومى , وأما سير عظمائنا , وهى  التى أوحت الينا بكتابة هذا الفصل , فما زالت مغمورة منسية . وأى نسيان , بل وأى نكران أشد من أن يبقى ذلك الثبت الحافل من عظمائنا ومفكرينا فى العصر الحديث دون ذكر محقق منظم ؟ أليس مما يشين نهضتنا العلمية والأدبية أن يحرم رجال مثل عرابى والبارودى وعلى مبارك ومحمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول وغيرهم من أبطال نهضتنا القومية من تراجم ضافنة , نقدية محققة يقرأها الشباب والخلف ؟ إن العظماء فى الأمم المتمدينة يذكرون دائما أثناء حياتهم بما يخلد ذكرهم بين مواطنيهم فاذا توفى أحدهم صدرت عنه غداة وفاته الفصول والكتب المحققة , هذا عدا ما يكون قد صدر منها أثناء حياته . أما نحن فتنظر الى التاريخ المعاصر نظرة الجمود والاستخفاف , ونكتفى يوم يذهب أحد عظمائنا بأن نشيعه الى قبره يبعض المقالات والمرائى , ثم لا يلبث أن يغمره النسيان الى جانب أسلافه ! وهكذا يتكدس أمامنا ثبت عظمائنا فلا نتلق من سيرهم وأعمالهم الا صورا مشوهة , بينما نعرف الكثير عن عظماء الأمم الأخرى , لأننا نجد فى سيرهم كتبا . محققة ممتعة تشوق قراءتها .

ولاريب ان معظم التبعة فى ذلك الاهمال المشين ترجع إلى نوع . الثقافة التاريخية الذى نتلقاه في مدارسنا ؛ فهذه الثقافة ماتزال قاصرة, بعيدة عن أن تخصص التاريخ القومى بما يجب من عناية , بعيدة عن ان نذكى الشعور الوطنى فى نفوس النشء . والشعور بالكرامة القوية هو أول دافع للشباب والباحثين على استقصاء سير عظماء الوطن ثم على تحقيقها وتدوينها.

هذه كلمة أخرى ترسلها على صفحات " الرسالة " لننبه على احدى مواطن الضعف في ثقافتنا وآدابنا التاريخية ؛ ولنذكر بها إخواننا الذين فكروا منذ عام فى وضع تراجم وافية محققة لعظماء مصر فى العصر الحديث أن يعاودوا البحث فى هذا المشروع العلمى الوطنى الجليل , ولعلهم موفقون هذه المرة الى تحقيقه وإخراجه ؛ فيسدون بذلك ثغرة مشيئة فى تاريخنا القومى ويضعون سنة حسنة فى آدابنا التاريخية , ويستحقون بذلك عرفان الجيل الحاضر والأجيال القادمة .

اشترك في نشرتنا البريدية