أخي الأستاذ الزيات يسرني أن أقدم إليك القصة الآتية: لما ظهر كتاب التصوف الإسلامي كنت أنتظر أن يقع من جميع الباحثين موقع القبول، ثم أزعجني أن يتلقاه بعض الناس بالكدر والامتعاض. وقد دلني ذلك على أن التضامن منعدم بين أدباء هذا الجيل.
وأعيذك أن تظن أني خائف على نفسي من لجاجة بعض الحاقدين. وكيف أخاف وذلك (البعض) واحد من جملة الذين عادوني وخاصموني ثم ارتدوا على أعقابهم خاسرين؟
أما الخوف على كتاب التصوف الإسلامي فهو لا يخطر في البال، لأن الكتاب سيشق طريقه إلى القلوب والعقول، ولو تظاهر الناس كلهم على دفع أمواجه الأدبية والفلسفية.
وإنما أشغل نفسي بهذه القضية لسببين: الأول حق التاريخ، والثاني حق الواجب.
أما حق التاريخ فهو تسجيل ظاهرة من ظواهر الأخلاق، لأن ذلك الأستاذ الذي يحارب كتاب التصوف الإسلامي هو رجل دفعت عنه كيد خصومه بكلمة قوية نشرتها في مجلة الرسالة، وما أمن عليه بما صنعت من جميل، وإنما أسجل أننا قد نخطئ مواطن الجميل في بعض الأحيان.
أما حق الواجب فهو دفع الأذى عن العقول التي تقبل على مؤلفاتي، فما يجوز أن أترك أنصاري عرضة لأراجيف المتقولين والحاقدين.
فما الذي عابه ذلك الأستاذ المفضال؟ ١ - قال: إني كتبت في التصوف ولست صوفياً، ولا يجوز عنده أن يكتب في التصوف غير الصوفية!
وأجيب بأني درست التصوف من الوجهة الأدبية والفلسفية وقد وصلت من ذلك إلى ما أريد. أما القول بأني لست صوفياً فهو قول مردود، فتلك أسرار يعلمها الله ويجهلها الناس وأنا أكره أن أصف نفسي بالتقوى والزهد والتنسك لئلا أقع في بلية الرياء؛ وقد قلت ألف مرة إني أحب أن ألقي الناس بالفجور وألقي الله بالعفاف، وأنا راض عن نصيبي عند علام الغيوب. ٢ - وقال: إني لوثت كتاب التصوف الإسلامي بالحديث عن أبي العتاهية، وساق كلمة سفيهة وصف بها أبو العتاهية في كتاب الأغاني.
ولو أن هذا الناقد كان اطلع على كتاب (النثر الفني) لعرف قيمة الأخبار الواردة في كتاب الأغاني.
وهل يصح في حكم العقل أن نمحو أسم أبي العتاهية من سجلات الأدب بسبب كلمة سخيفة كتبها صاحب الأغاني؟
أنا لا أنظر إلى أبي العتاهية إلا من جهة واحدة: هي أنه أنشأ في الأدب العربي فناً جديداً حين نظم قصائده الزهديات. ولن نستطيع أن نقاوم أبا العتاهية بعد أن أمد اللغة العربية بهذه الثروة الشعرية. وكيف نستطيع ذلك وفي المؤلفين من عد أبا العتاهية من أمراء الشعر في العصر العباسي؟
٣ - وعاب على أن أتحدث عن زهديات أبي نواس في كتاب التصوف الإسلامي.
وما العيب في ذلك؟ أنا أتحدث عن الندم الذي عاناه أبو نواس يوم هداه الله إلى المتاب، فهل يغض ذلك من كتابي؟
وهل هناك فرصة روحية أعظم من فرصة الفاجر حين يتوب؟ وهل كان أبو نواس أسوأ خلقاً من بعض شعراء اليونان الذين بقيت آثارهم على وجه الزمان؟
إن الذين يعيبون على أن أتحدث عن زهديات أبي نواس في كتاب التصوف ينظرون إلى الأخلاق نظرة سوقية لا فلسفية، وأمثال هؤلاء لا يقام لآرائهم وزن وإن لبسوا مسوح الرهبان.
٤ - وعجب حضرة الناقد من ألا أكتب عن الحلاج غير إحدى عشر صفحة، ولو أنه كان تأمل لعرف كيف اختصرت القول في الحلاج، لأن الحلاج درسه المستشرقون من قبل، وأنا أبغض الحديث المعاد.
وأنا مع ذلك أقول إن الصفات التي كتبتها عن الحلاج ستكون نبراساً لكل من يكتب عن الحلاج، ولن يستطيع باحث مهما اعتسف أن يجهل أني هديته إلى معالم الصواب
5 - وهناك مسألة سكت عنها هذا الناقد وتعرض لها بعض الأزهريين في كلمة نشرها بجريدة الدستور، وهي أنني قلت: إن الحلاج صلب كما صلب المسيح.
- وأنا قلت ذلك في كتاب التصوف الإسلامي، ولكن له تأويل سجلته في الجزء الثاني من كتاب (ليلى المريضة في العراق) . وقد فرغت من طبع هذا الجزء قبل أن ينشر ذلك النقد بجريدة الدستور بأسابيع طوال.
وهل يفطن ذلك الناقد إلى السر في أن ينفي القرآن صلب المسيح؟ إن لذلك سراً سنذيعه يوم نأمن كيد الذين لا يهمهم غير مضغ الأحاديث، فقد شقينا بأراجيف الناس أعنف شقاء، ومن الله وحده ننتظر حسن الجزاء.
