الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 80الرجوع إلى "الرسالة"

التصوف الاسلامى

Share

يبدأ

يدبأ الدين في أول أمره عقائد راسخة ومناسك ثابتة لاتسامح  في أوامره ولا هوادة في نواهيه. ثم لا تلبث - بعد أن يتطاول  الزمن وتمر السنون - أن تلين العريكة وتأخذ المياسرة مكان  المعاصرة فيدب الشك الى العقائد الموروثة والسنن المرعية؛  إذ ذاك يبحث الانسان عن عقيدة تسوي ما بين نفسه وبين الكون  تسوية مقبولة يرتضيها العقل ويقرها المنطق، وعندئذ تنشأ الصوفية والصوفية منحى في الفكر، لا بل في الشعور ويصعب تحديده،  يظهر في محاولة العقل الانساني تفهم الطبيعة الروحية لحقيقة  الأشياء، ويبرز في بِشر المرء وسروره بنعمة الارتباط الروحي مع  الخالق العظيم

صفي لفظة صوفى

لقد تباينت الآراء وتضاربت الأهواء في المصدر الذي  اشُتقت منه لفظة صوفي، فمن قائل إنها من الأصل اليواني  (سوف بمعنى حكمة كما ذكر أبو الريحان البيروني في  كتاب الهند، ومن قائل - وهم الصوفيون أنفسهم - من صفا  صفاءً. قال أبو الفتح البُستي

تنازع الناس في الصوفي    قدماً وظنوه مشتاً من الصوفِ ولست أنحل هذا الاسم غير فتىً    صافي فصوفي حتى لُقب الصوفي

وذهب آخرون الى أنها متحدرة من معنى ديني، فينسبونها  الى أصحاب   (الصفة)  وهم قوم من الصحابة كانوا يجلسون على  باب المسجد يوزعون الصدقات على الفقراء. على أن الرأي الأكثر  شيوعاً والأقرب للعقل والمنطق هو نسبتها الى   (صوف)  أي  الى ظاهر اللباس. فأبو نصر السراج مؤلف كتاب اللمع -  وهو أول كتاب ظهر عن الصوفية - يقول:   (إن لبسة  الصوف دأب الانبياء وشعار الأولياء، فلما اضفتهم الى ظاهر اللبسة  كان ذل اسماً مجملاً عاماً. . . .)

وقد أيد العلامة   (نوالدكه)  هذه النظرية وشاركه في الرأي العالم  الانجليزي الشهير ( برون Browne ) وان مما استدل به على ذلك  الكلمة الفارسية (باشمينابوش)  التي يسمون بها عادة، ومعناها  اللفظي   (لا بسو الصوف)  وجبب الصوف كانت منذ القدم  علامة الحياة البسيطة الساذجة

منشأ التصوف الاسلامي

يرجع بنا البحث عن منشأ التصوف الاسلامي الى الحركة  الزهدية التي قامت في القرن الأول للهجرة تحت التأثير النفسي  العميق المتكشف عن خوف من الله تعالى يوجب التسليم لأرادته  سبحانه والانقياد لمشيئته. وعلى هذا يجمل بنا أن نبحث التصوف  في طورين مختلفين

١- الطور الزهد:

لم يكن لتصوف في هذا الطور نظاماً  فلسفياً ولا مسلكاً دينياً وإنما هو طريقة في الحياة والمعيشة خاصة،  تمتاز بالزهد في الملذات والابتعاد عن الدنيا حباً في الآخرة، فهو  إذن إسلامي خالص لا أثر للعوامل الخارجية والعناصر الأجنبية  فيه من نصرانية ويهودية وهندية وفارسية. ول ما هنالك أنه  ظهر في صدرالعصر الأموي جماعة من المسلمين رغبوا عن هذه  الحياة الاجتماعية الملأى بألوان اللهو والتهتك والخلاعة، وتطلعوا  إلى حياة هادئة وفورة مرضية لضمائرهم التي تتشوق إلى الابتعاد  عن صغائر الحياة وسخافاتها مطابقة لعقائدهم التي ما زالت شديدة  التمسك بالحياة الاسلامية الخالصة من بساطة وسذاجة. زد على  ذلك أن الحياة السياسية كانت قلقة مضطربة، فالفتنة قائمة بين  الفرق والشيع، والمعارك مستعمرة بين مختلف القادة والأمراء، كل  ينشد جاه الحكم ومجد السلطان غير ملتفت إلى ما يجره ذلك من  هدر دماء المسلمين وتشتيت كلمتهم ورجوعهم إلى جاهليتهم  الأولى. كل هذه العوامل غدت الحركة الزهدية وبعثت في قلوب  بعض المؤمنين الميل عن المادة والانصراف إلى العمل الصالح في  نفسه وتذكير الناس بأمور دينهم وعقائدهم. ويأتي   (نكلسون)   العالم الانجليزي الضليع في هذه الأبحاث فيضيف إلى هذه العوامل  عاملاً آخر لا يقل عنها قوة وأثراً، ذلك أن الصورة التي يبرزها  القرآن الكريم   (للخق)  عز وجل هي في نفسها تدعو إلى الخوف  والرهبة، فهي صورة إآله جبار شديد البطش سريع العذاب.  فالشعور بالخوف من جهنم الذي يكتنف قاريء القرآن يدعو حتماً  إلى التصوف والزهد واحتقار لمادة والابتعاد عن سبل الضلال

ومن أهم الشخصيات الممتازة فى هذا الدور الحسن البصري الذي عرف بالزهد والورع والرجوع إلى السنة فى بساطة العيش وسمو الغاية . ومنهم أبو هاشم الكوفى الذى يقال إنه أول من أطلق عليه لقب " الصوفى " واس ديرا للمتصوفين فى رملة فلسطين . م ظهر ثلاثة نفر فيما وراء النهر فى فارس فى أواخر القرن الثاني الهجري وهم : ابراهيم ن ادهم وشقيقالبلخىوفضيل بن عياض , فترى عندهم بدء نظام فلسفى , فهم يمثلون دور الانتقال من حياة الزهد إلى نظام التصوف الفلسفى , ولعلهم كانواعاملين على الامتزاج بالتعاليم الهندية الفارسية لقرب موطنهم من هذه البلاد التي كانت تفاعل فيها هذه المبادئ' المختلفة . ويظهر ذلك بجلاء عند الزعيمة المتصوفة رابعة العدوية التي كانت كما يقول نكلسون اول من ادخل نظام الحب الفلسفي والوجد والاتحاد بالله بدل الخوف والرهبة

٢-  اطور الثاني: التصوف الفلسفي

لقد أخذ التصوف في هذا الطور شكلاً فلسفياً ونظاماً  مستقراً في الدين يميل العلماء إلى نسبته إلى عوامل خارجية من  نظريات فلسفية وأديان أخرى. فمن ذلك:

أ - الأخرى : يعتقد بعضهم أن لهذا التشابه بين كثير من العقائد الصوفية فى صورها الراقية الناضجة وبين بعض . النظم الهندية وعلى الأخص ال Vandata اساسا واحدا ومنبعا مشتركا يجب أن يبحث عنه فى الهند , فان معظم المتصوفة الاول نشاوا فى خراسان وظهرت فلسفتهم الصوفية فيها ؛ ولعل مبدا الفتاء الذى يندمج فيه المتصوف بالله ويفقد شخصيته الفردية , مستمد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من عقيدة " النار فانا " Narvana الموجودة فى الديانة الهندية

ب - المصدر النصراني: يعتقد المتصوفة أن غاية كل  الأديان واحدة، وأنها كلها تصل بالأنسان الى الهدف المقصود  والغاية المرجوة، فليس إذن أن يحتك المتصوفون بالرهبان  السيحيين، ويمزجوا بهم فيظهر أثر ذلك في تعاليمهم وأنظمتهم،  خصوصاً وقد ظهرت هذه النزعة التنسكية الزهدية في الكنيسة  المسيحية في القرنين الأول والثاني للهجرة

ج - الافلاطونية الجديدة: ظهر هذا النظام الفلسفي في  أوائل القرن الثالث المسيحي على يد   (أمونياي ساكاس)  وبلغ  أوجه في زمن تلميذيه بلاتينيوس وفرفوريوس النحوي شارح

تعاليمه. وإذا ما دققنا في تعاليم هذا المذهب الأدبية رأيناها تؤدي  حتماً الى التصوف، إذ يعلم أن طريق الخلاص هو بالتجرد التام  عن المادة، وأنفصال النفس عنها؛ بذلك يتصل الانسان   (بالعقل  الأول)  اللفظ الفلسفي للحق سبحانه، وينال الغبطة التي يعبر  عنها المتصوفون بالفناء. لقد انتشرت هذه التعاليم الفلسفية  في العالم الاسلامي، وكان أثرها في الفلاسفة المسلمين واضحاً جلياً

فلسفة المعرفة : Grosticism جماعة هذا النظام الفلسفة الذي نشأ بين القرنين الاول والسادس للمسيح يعتقدون انالايمان وحده لا يكفى للخلاص , بل إنالمعرفة هى متممته . ويعنون بهذا أن يعرف المرء أنه من عنصر إلى ، وأنه لابد أن يرجع فى نهايته إلى هذا العنصر الذي نشأ منه , حينذاكوعند ما ينغمس فى هذا الاعتقاد مخلص نفسه من شوائب المادة ويقرب من الله . وقد انتشر هذا المذهب فى العراق وفارس وتاتر بالمانونة واتر فها فأخذت منه عقيدة الظلمة والنور . أما إنه اثر فى العقائد الصوفية فانا نلمس هذا فى القول بأن الانسان يخلق اللهيا , وكلما تقدم فى العمر خلع حجابا إلهيا واستبدل يه اخر إنسانيا الى ان يمر بسبعين ألف حجاب فى اردل الغمر . ولا يجاة له الا باتباع التعاليم الصوفية والانصراف عن المادة إلى الروح , بذلك يلك طريق النجاة

هذه أهم المؤثرات الخارجية التي عملت على تغذية العقيدة  التصوفية الاسلامية وخلقت منها طريقاً فلسفيً خاصاً. وليس  من المستطاع رد كل من العقائد التصوفية الفردية الى أصلها الذي  استُمدت منه، فعقيدة في مثل هذا الانتشار العظيم ذات مباديء  كثيرة ونظم واسعة لايمكن أن تقع تحت تأثير عامل واحد مهما  حل شأنه واتفقت الظروف على تقدمته والميل اليه.

كانت الصوفية دائماً مخيرة تنتقى من كل العقائد ما تستهي  وتشاء. نظام شامل يمتص ويهضم - بعد بعض تغيير وتحوير -  من كافة الآراء والمعتقدات المختلفة حوله، يكتسب أناساً من  كافة الملل والنحل من موحدين ومشركين، معتزلة وسنيين،  فلاسفة ورجال دين. هذه الاعتبارات كلها تضعنا في موقف  دقيق يضطرنا الى القول بأن منشأ الصوفية الاسلامية الفلسفية  لايمكن أن يجاب عنه بجواب شاف مريح

( يتبع )

اشترك في نشرتنا البريدية