وكان لإبراز الصور بهيئة مجسمة على يد أبولودور الأثينى أثر عظيم فى الاتجاه الفنى، فلم ينته القرن الخامس ويبدأ القرن الرابع قبل الميلاد حتى كانت المدرسة اليونانية قد تأسست واشتغلت بإكمال الحلقة التى بدأها أبولودور، فتقدم تصوير اللوحات؛ وظهر زوبكس Zeuxis of Heraklea فى الميدان وكذلك بارازيوس Parrasios of Eohesus الذى اشتغل فى أثينا وإيفيزوس. وكان كل منهما قادراً على التأثير فى المشاهد بالنظر إلى ما بدا على رسومهما من تجسيم خادع
أما التلوين فقد ظل عندهما بسيطاً كما كان. وأما الموضوع الإنشائى فقد اتجه نحو تسجيل الجمال الهادئ، فضلاً عن بحثهما عن الموضوعات الجديدة اللافتة، فكان هذا سبباً لأن تصبح رسوماتهما ذات تأثير خاص، وحاولا إيضاح المعالم النفسية فى تصوير الأشخاص.
وصورة زويكس لهيلينا(1) Helenain Croton وصورته لزويس محاطاً بالآلهة جديران بالذكر والاعتبار
ومن ضمن ما تخيره بارازيوس موضوعاً للرسم تصويره بروميتيوسPrometheus فى الأغلال، وبروميتيوس هذا هو الذى سرق - كنص القصة الإغريقية - النار من زويس لإعطائها للناس وعوقب بضغطه فى الصخر حتى جاء هرقلس
وخلّصه من محنته. وله صورة أخرى لا تقل عن هذه تمثل فيلوكتيتPhiloctet الصارخ الذى ورث نشاب هرقلس وقتل باريس فى تروادة وغير ذلك للأشخاص ولأوديسيوسOdysseus
وثالث مصوري هذه المرحلة تيمانتيس Timanthes of Kynthouالذى تفوَّق على بارازيوس، وكان مولعاً بتصوير المناظر المعبرة عن خوالج النفس المتصلة بالعقل. فصور (تضحية إيفيجانى) Offer of Iphigenie ابنة أغاممنون وكلينيمنسترا Klymnestra التى قُدمت قرباناً لأرتميس Artemis ابنة الإله زويس، والتى تقابل ديانا عند الرومان. وقد وجدت صورة حائطية فى بمباى على نفس النمط، وهى من أروع الصور بالنظر إلى أهمية القصة.
ولم يصل إلى أيدينا من آثار تلك المرحلة إلا بضعة مصورات حائطية من باستوم (بمتحف نابولي الآن). وهى ترجع إلى آخر
القرن الخامس. وصرة المحاربين العائدين تحت لواء النصر وصور الراقصات التي رسمت على أرضية بيضاء وتمتعت بقسط وافر من دقة الإخراج والحياة.
أما فى القرن الرابع فقد وصل التصوير الإغريقى إلى أزهى أيامه لا من حيث الناحية الفنية والدقة فحسب، بل كذلك من حيث العمل الصناعى. وتُعد مدرسة سيكيونSchool of Sykion التى رأسها بامفيلوسPamphilos من أبرز المدارس وأهمها. وكان بامفيلوس نفسه عالماً وكاتباً فى فن التصوير، وقد صور لوحات صغيرة لتمثيل المناظر الاجتماعية فى دائرة محدودة، ولكنه تخصص فى تصوير الزهر والأغصان، وله لمعشوقته جليكيراGlykera صور عديدة، كما أن له صورة مشهورة أسماها محاربة الثيران
وقد وجدت مدرسة هامة من مدارس التصوير لها تاريخ مجيد، ألا وهى المدرسة الطيبية(1) الأتيكية التى برز بعض العاملين فيها مثل نكوماخوسNikomachos الذى اشتهر بسرعة العمل والإنتاج المبسط، وابنه وتلميذه أرستيدسAristides الذى كان مولعاً بالمواقف الممثلة للحالات النفسية العنيفة وله فيها صورة فذة تمثل أماً تنظر إلى ابنها الرضيع يحتضر. وله تلميذ هو أويفرانورEuphranor الذى اشتغل حينا فى أثينا، وكان نحاتاً إلى جانب كونه مصوراً، كما كان كاتباً وعالماً، وله طابع مميز هو تصويره الرجولة فى أكمل معانيها. وله قطعة معروفة أسماها (عراك الفرسان فى مانتيناMantinea الواقعة فى أركاديا الشرقية والتى تم النصر لايباميثنداس على الاسبرطيين فيها سنة ٣٦٢ ق. م وغير ذلك فى أثينا.
ولعل تلميذه وقريبه نيكياسNikians of Athena من أحسن
مصوري تلك المرحلة، فقد كان معاصراً لبركسيتلس(1) ولون له بعض تماثيله، واشتهر بالتصوير بالشمع ووصل إلى دوجة عليا فى صناعة الألوان، وكانت له عناية خاصة باختيار الموضوعات الجديرة بالتصوير، فصور مناظر القصة الإغريقية وأبدع فى تصوير أبطالها من الرجال والنساء.
أما أعظم مصوري الإغريق إطلاقاً فهو أبيلليس الكلوفونى Apelles of Klophonالذى عاش فى إفيزوس Ephesos والذى تمتع بأكبر قسط من التقدير والشهرة؛ فأسموه بحق (بوكسيتلس التصوير) أو (رفائيل العصر القديم). عاش فى النصف الثانى من القرن الرابع، ودعاه الملك فيليب إلى قصره، ثم عمل كمصور فى بلاط اسكندر الأكبر، وقد قدره أحسن تقدير ورعاه أجمل رعاية. ومما هو معروف عنه أنه كان على غاية التواضع ولين العشر، وكانت له كلمات خالدة ذهبت مثلاً بين الناس.
وينحصر طابعه المميز فى أنه وحّد بين الاتجاه الهادئ للمدرسة اليونية وبين الميل العنيف
السيكيونية فضلاً عن أنه كان مصوراً تخطيطياً من الطراز الأول. ولا يزال معدوداً من الطبقة الأولى، بل ولم يكن لغيره فى العصر القديم أن يصل إلى مرتبته فى العمل الصناعى والتكوين الإنشائى والجمع بين الظل والنور وحسن استخدام اللون.
هذا إلى جانب القدرة الهائلة فى تمثيل الطبيعة أصدق تمثيل؛ فدل بذلك على دقة الملاحظة في أكمل معانيها؛ فيرى الناظر إلى مجموع إنتاجه مما وصل إلى أيدينا أنه كان مَثلياً فى اختيار الجمال وتكييفه وعرضه فى ثوب الأناقة والمباهاة التى أصبحت له وللوحاته دون غيره من مصورى عصره مع توافر البساطة فى الإخراج.
وقد اقتصر على تصوير اللوحات فلم تكن له صور على أوانى الزهر أو على الحوائط. وأهم ما تركه من العمل الفذ حقاً صورة لأفروديت أناديومينAphrodite Anadyomene فى معبد أسكليبيوس بقوصAsklepiostempel in Kos والتى أخذت إلى روما فى وقت ما. صور أفروديت تظهر خلال أمواج البحر، فبدا نصفها الأعلى وأخذت تنثر شعرها بيديها. وكانت لهذه الصورة منزلة عظيمة عند معاصريه، وأثر كبير على الفنانين إلى حد أن بعض النحاتين مثّلها فى الرخام بنفس طريقته وعلى نمط إنشائه.
وله غير ذلك صورة (لأرتميس وعرائس البحر) وصورة لهرقليس وخاريس، ولوحات لاسكندر الأكبر فى صورة الإله زويس بمعبد أرتميس فى إفيزوس؛ وصورته له كفارس محاط بأوضاع رمزية لحاشيته. وكانت له معشوقة هى بانكَسَبا Pankaspe التى كان لها حظ التخليد على يديه.
ووجد غيره من الفنانين، منهم من كان على اتصال به مثل بروتوجينيسProtohenes of Rhodos الذى عمل صوراً فردية ولكنها كانت على أعظم جانب من صدق المحاكاة وأبرع قسط من جمال الإخراج. وأهم ما نذكره له صورتان إحداهما لياليزوس هيروس وأخرى لسانير متعب
وللمصور آتيونAetion صورة مشهورة لزواج الإسكندر من روكسانا. ولا بد لنا من ذكر المصور تيون Theon فى ساموس والمصور أنتيفيلوس Antiphilos الذى عاش وانتج فى مدينة الإسكندرية(1)
وفى هذه المرحلة تطور فن التصوير من حيث الرغبة فى إخراج اللوحات الصغيرةPhopographie التى يمكن لأكثر الناس اقتناؤها. وأول من اتجه هذا الاتجاه الفنان بايريكس Peiraeikos الذى صور مناظر دكاكين الحلاقين وصانعى النعال وبائعى الخضروات والمأكولات فأظهرها إظهاراً بديعاً
وإذا بدا الجفاف على هذا المقال فذلك لأنه مقال علمى خال من حشو القول، ولا غاية لنا منه سوى توجيه القارئ إلى نواحى الفن العريق؛ فيحصل على قسط من المعرفة يكسبه شيئاً من الميزة والدراية والتثقيف الواجب، فيكبح من جماح إعجابه السريع بكل ما يراه لصغار الفنانين الذين يدعون لمجرد عرض بعض لوحاتهم وإطناب الصحافة التى ليس لها فى قياس الإنتاج الفنى معيار، أنهم وصلوا إلى القمة. أما أولئك الذين يشتغلون بالفن ويعتبرون أنفسهم من تلاميذه، فإليهم أيضاً أكتب آملاً أن يكون فيه بعض التوجيه لما يفيد وبعض التهيئة لإنتاج جدير بالاعتبار والتقدير
