الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 305الرجوع إلى "الثقافة"

التطور والطفرة

Share

رغم ما يقام من اعتراض في مدى وراثة الصفات البيئية ، فانه لا يمكن ان نجهل اثر البيئة في إحداث تغيرات لابد ان ثورث ، وإلا هدمت نظرية التطور واستحال التفكير فيها ؛ لذا كان من الضروري ان يكون للبيئة أثر يورث . واستمرار حدوث هذه التغيرات يحدث تغيرا بنقل بواسطة الخلايا الجنسية ، ولذا لابد من تأثير الخلايا الجنسية ، وهذه كفيلة بنقل هذا التغير .

وهذا ما يحدث في الطبيعة ؛ فقد يوضع الكائن تحت ظروف معينة ، وتؤثر هذه الظروف في الكائن ويستمر أثرها إلي أن يؤثر ذلك في تكوين الجاميطات التي لا تلبث أن تصبح واسطة لنقل هذا التغير ، فيظهر فجأة نتاج يحمل صفات جديدة ، يرثها الخلف عن السلف جيلا بعد جيل

مدة قرون ، دون أن تعاني تغيرا مهما غيرت من بيئتها وهذه ما يعبر عنه بالطفرات .

وفي عام ١٧٩١ فوجئ أحد مربي الأغنام بظهور حمل غريب ، له جسم طويل وأرجل قصيرة ؛ ولم يظهر مثل هذا الحمل من قبل وكان هذا التاجر في حيرة من امره ، إذا تعودت أغنامه أن تقفز الحواجز إلي حقول جيرانه .

أما النوع الجديد ذو الأرجل القصيرة فلم يتمكن من ذلك . وقد كان هذا الفرد ذكرا ، فتركه مع نعاجه بعد ان تخلص من الكباش الآخرى . وسمي النوع الجديد " Ancon" . وقد وجد أن اجتماع هذا الكبش الانكوني بنعاج عادية ينتج أغناما من نوعين ، انكوني وعادي .

وبانتقائه النوع الانكوني يمكن بعد بضع سنوات من إحراز قطيع كبير وفر عليه متاعبه التي عاناها من جراء اقتحامها للحواجز . وقد انتشر هذا النوع في جميع مقاطعة مساكوزيث بأمريكا .

ومن الابحاث  التي أوعزت بوجود الطفرات ما اجري على حيوان قشري يعيش في الماء العذب ، ويسمى براغيث الماءDaphuin ، فهذه البراغيث أعطت ما يقرب من ) ٣١٣ ( جيلا يعيش في درجة ٢٠ م ، وتموت إذا ارتفعت الحرارة إلي درجة ٢٦ م أو انخفضت تحت ١١ م . وبعد مضي ١٤ عاما على تربية هذه الحيوانات ظهرت سلالة جديدة ) طفرة ( تتحمل درجات حرارة تخالف السابقة . فصغارها تحوت إن بقيت في درجة ٢٠ م ، وتعيش بحالة جيدة إن عاشت في درجة ٢٧ م ، وتموت بعد درجة ٢٠ م .

ويتفق هذا النوع مع سابقه في شكله وتركيب اجزائه ، ولا يختلف عنه إلا في تحمل درجة حرارة اعلي . وظهور مثل هذا النوع الجديد يساعد الحيوان على المعيشة في بيئة جوها أكثر دفئا .

وفي الولايات المتحدة ظهر نوع من التبغ لايزهر في المناطق الشمالية ، بينما كان النوع الأصلى يزهر في هذه المناطق . وتبين ان هذا النوع الجديد يزهر إذا اضئ إضاءة اصطناعية تتناسب وطول النهار في اشهر الصيف بالبلاد الحارة . وقد ظهر هذا النوع فجأة ، واعطى سلالات ثابتة تتصف بهذه الصفة الجديدة وأصبحت تتحمل جوا جديدا

هذه الأمثلة المختلفة تسمى طفرات ، إذ أننا حصلنا على نوع جديد توالد وأنتج أفرادا تشبه الآباء ، ولكنها تختلف عن الأجداد . وقد علل ظهورها بحدوث تغير في تركيب أجزاء النواة في الخلية الجنسية

وقد اهتم علماء الحياة بهذه الطفرات ، وبحثوا في كيفية حدوثها وحاولوا ان يحدثوها صناعيا . ومن اهم الابحاث في هذه الناحية ما أجري على ذبابة الفاكهة ، التي تبين ان تركيب النواة في خلاياها الجنسية قابل للتغير المستمر الذي يعطي طفرات باستمرار وقد حول تهجين الطفرات مع

بعضها فأنتجت أفرادا تختلف تماما عن الحشرات العادية ؟ ولولا معرفة نشأتها من هذا النهجين لما عرفت علاقتها بذبابة الفاكهة

وقام العلامة muller بتجارب كثيرة علي ذبابة الفاكهة ، وتتلخص أهم تجاربه في تعريض هذه الحشرات لأشعة x . ولم يظهر اثر الأشعة في هذا الجيل ، بل ظهر في صغارها ، إذ نتجت افراد تخالف أباءها من حيث لون العين وحجم الأجنحة

وقد لوحظ أن هذه التغيرات ثابتة ، إذ ان هذه الأنواع الجديدة عندما تكاثرت أعطت أفرادا تحمل صفات هذا الجيل الذي ظهرت عليه التغيرات الجديدة ؛ ومعنى ذلك ان اشعة  x أو الأشعة السينية اعطت طفرات ، وقد توبعت هذه الدراسات وجرب التهجين بين هذه الطفرات ، فوجد انها تتبع قانون مندل ، كما وجد ان بعض هذه الصفات يكون متغلبا اي يظهر على غيره ، بينما يكون الآخر متنحيا أي لا يظهر . وقد وجد ايضا ان الطفرات التي ظهرت كان بعضها معروفا من قبل والبعض الأخر كان حديثا ؛ وهذا معناه ان استخدام هذه الاشعة قد عجل بظهور الطفرات .

وعلل هذا الظهور بأن الأشعة السينية موجودة في الطبيعة ولكن بمقدار بسيط ، ولذا لا تظهر الطفرات في الطبيعة بسرعة التجربة . ولا تنفرد الأشعة السينية بإحداث الطفرات ، إذ وجد أن لبعض المواد الكيماوية أثر كبير في ) أحداث الطفرات واثبت ذلك العالم البيولوجي Harison

فقد لاحظ قلة نوع معين من الفراش الأسود في بعض المناطق بانجلترا ، وكان هذا النوع معروفا بكثرته منذ سنين مضت . ثم حدث بعد ذلك ان كثر هذا الفراش إلى حد كبير ، ووجد ان كثرته تتناسب وعدد المصانع فكلما زادت هذه الأخيرة زاد الفراش ؛ أما في الريف فإن هذا الفراش يكون نادرا . ولوحظ ايضا في المناطق

الصناعية تغلب أنواع الفراش الأسود وقلة الأنواع البيضاء

وقد أخذ Harison في بحث المناطق الصناعية من حيث نباتاتها التى تتغدي عليها هذه الحشرات ، فوجد أن أوراق النباتات يكون عليها طبقة سوداء ، بها أملاح معدنية سامة ترسبت عليها مما تلفظه مداخن المصانع ، فخطر لهاريسن Harison أن تكون هناك علاقة بين هذه المواد وحدوث الطفرات ، فغذي الحشرات بغذائها الطبيعي مضافا إليه مقادير بسيطة جدا من املاح المعادن الثقيلة ؛

وقد تحقق ما خطر له ، فظهرت طفرات ذات أجنحة سوداء ، وهذه تعطى افرادا ذات اجنحة سوداء رغم تغذيتها بغذاء عادي لا يحتوي على أي مقدار من الأملاح . ولذا يكون للمواد الكيماوية أثر كبير في إحداث تغير في تركيب محتويات النواة في الخلية الجنسية

ومعنى ذلك أن عوامل البيئة سواء كانت طبيعية أو كيماوية تؤثر على الكائنات فتحدث فيها تغيرات ، وهذه التغيرات تقوي شيئا فشيئا ، حتى إذا ما اثرت في الخلايا الجنسية أمكن نقل هذا الأثر من جيل إلى جيل ، ويظهر هذا على شكل طفرات ، ويلاحظ أن هذه الطفرات لا تكون موجهة نحو غرض خاص لملاءمة ظروف معينة ، بل قد لا توافق البيئة التي تظهر فيها ويكون مصيرها الانقراض ، وقد تلائم البيئة فتبقى وتتكاثر ويكتب لها البقاء

فالنباتات التي تنمو بالقرب من شواطئ البحار تكون اوراقها لحمية ، وهذه صفة وراثية لا تتغير مهما غيرنا من بيئتها . فكيف نشأت هذه النباتات ؟ من المعروف اننا لو أخذنا نباتا كالجارونيا وروي بماء مالح نوعا ، تكونت له أوراق لحمية ، وإذا روي بماء عذب فقد هذه الخاصية ؛ وعلى هذا فقد كانت نباتات الشواطئ نباتات

عادية في بدايتها ، ثم تلحمت أوراقها جيلا بعد جيل ، حتى ظهرت طفرة بعد ذلك تحمل صفة ثابتة لا تتغير مهما تغيرت ظروفها ، فساعدها ذلك على ان تصارع الحياة وكتب لها البقاء . أما ما دون ذلك فقد انقرض واختفى

وبالمثل يمكن تفسير سواد اللون في أهالي المناطق الإستوائية ، فاللون القاتم ضروري لحماية الأنسجة الداخلية للجسم من اشعة الشمس فوق البنفسجية . ويلاحظ دائما ان الاشخاص ذوي الجلد الابيض تكتسب سمرة عند ذهابهم للشواطئ وتعرضهم لاشعة الشمس . وهذا اللون القاتم ضروري لحماية الانسجة طالما وجد الإنسان في هذه البيئة ؛ أما إذا انتقل إلى بيئة اخرى أقل اشعة فسرعان ما يعود لون جلده إلي طبيعته . أما الزنوج فلونهم ثابت لا يتغير ، وهؤلاء الزنوج طفرات ظهرت من قديم الزمان وعاشت وقاومت وهج الشمس فكتب لها البقاء .

على هذا نجد أن الكائنات تتأثر بعوامل البيئة حتى يمكنها ان تقاومها . ويستمر هذا التغير موجها بهذه العوامل حتى نصل إلي حد تتأثر فيه الخلايا الجنسية ، عند ذلك يصبح هذا التغير قابلا للوراثة بقيت عوامل البيئة أم تغيرت ؛ وهذه ما يعبر عنها بالطفرات . وهذه الطفرات إن هي إلا أنواع جديدة تظهر من وقت لآخر دون ضابط أو توقيت ، وتظهر بدون نظام ولا قصد ؟ وقد ينقرض بعضها وقد يبقي الآخر ، ولكن لابد من ظهورها ، ولا بد من بقاء بعضها حتى يضمن البقاء للأحياء ، وحتي يستمر التطور . وما اشبه الطفرات بالعقرب في الساعة ، فباستمرار ساعة غير منتظمة يتحرك فيها العقرب فجأة ، ثم يبقى ساكنا سنين بل قد يكون أجيالا

اشترك في نشرتنا البريدية