الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 285الرجوع إلى "الرسالة"

التعليم والمتعطلون في مصر، يوب التعليم الحاضر وطرق السلامربا

Share

العيوب العامة

وجهنا عنايتنا فى الماضى إلى نشر التعليم فقط بدليل البيان البليغ التى نشرد معالى - من إ أ وزير العارف الحالي في أول تردد بهذه الوزارة فى مايو سنة ١٩٣٨ . ولقد قمنا بما قمنا به من نشر على أساس النظم القديمة من غير أن نعمل عملا جدياً في سبيل إقامة التعليم على أساس جديد وطيد سداء المبادئ التعليمية الحديثة ولاته القومية المصرية والطابع القوى ، فالرجل المتخرج في إحدى المدارس القائمة منذ نصف قرن من الزمان إذا دخلها

لليوم يرى الطابع القديم بارزاً بها، والروح القديمة متأصلة فيها ، والنظام القديم قائماً بين جدرانها ؛ ولا يرى التغيير إلا في إحلال مدرسين وتلاميذ حديثين بدلا من غيرهم من القدامى . وليس معنى ذلك الثبات على تقاليد قديمة مألوفة ، ولكن معناه الأسف الجمود على نظم بالية معروفة ؛ ومعناء كذلك أن كل مدرسة مصرية سواء أكانت فى قنا أو الاسكندرية تسير على وتيرة أختها في كل شيء بدون تبديل ولا تحوير مهما بعدت الشقة بينهما ومهما اختلفت ظروفهما ومهما تفاوتت بينهما، مما دعا المستر مان إلى القول في تقريره : قد سبق توجيه النظر في الفصل الثاني المختص بإدارة التعليم العامة في مصر إلى خلو نظام التعليم العام من المرونة والتنوع . رأينا بعض ما ينجم من هذا الجود من النتائج السيئة الأثر في التربية القومية، بيد أنه يستحسن أن نهيد القول هنا بأن كل مدرسة مصرية تماثل في الوقت الحاضر كل مدرسة أخرى من درجتها كل المائلة التي يستطاع إيجادها بواسطة اللوائح والقوانين ، وبأن نظار المدارس ومدرسيها يكادون يعدون بمثابة آلات لانفاذ ما تفرضه الأدارة الرئيسية من خطط دراسية لم يشتركوا في وضعها ، ولم يؤخذ رأيهم فيها إلا في حالات

لا تكاد تذكر ، وهذه الخطط تطبق تطبيقاً عاماً من الشلال إلى الاسكندرية على نمط واحد بدون أية مراعاة لمصالح التلاميذ وحاجاتهم المتنوعة وبغض النظر بتاتاً عما إذا كانوا من سكان الريف أو المدن وعما إذا كانوا سيحترمون في المستقبل الزراعة أو سيزاولون التجارة أو الصناعة فى المدن . ويجب أن تؤكد مرة أخرى أن مثل هذا النظام لا يحول فقط دون الانتفاع بحيرة النظار والمدرسين

الفنية ومعرفتهم للشئون المحلية في اغراض للتعليم للعامة ، بل يمنعهم فعلا من استخدام مواهبهم وكفايتهم استخداماً تاماً في إدارة مدارسهم بحسب ما تقتضيه أحوال البيئة ومراعي التعليم ، لأنهم مهما رأوا في المنهج العام وحطه الدراسة وعدم الملاءمة لحاجات تلاميذهم الخاصة فان واجبهم يحتم عليهم أن يتبعوها اتباعاً دقيقاً. أعود فأذكر أن ليس معنى ذلك الثبات على تقاليد معينة، إذ ليس لاحدى دارسنا القديمة تقليد معين كتلك التقاليد المرعية التي يعرفها خريجو المدارس في انجلترا مثلا ، ويفخرون بها ، ويحافظون عليها . هذا والمعلم القديم الذي باشر للعمل في المدارس المصرية منذ عشرين سنة ولا يزال يباشره إلى اليوم يشعر بالأسف العميق

عملا جواع قلبه مما يراه اليوم من الاخطاط العام الذى اصاب حالة التعليم فيها ومن روح التواكل والتكاسل التي عمت أرجاءها؛ وهو لا شك يشعر بالأسف العميق أيضاً إذ يحس أن روح الجد والعمل من ناحية التلاميذ قد انقلبت إلى روح استهتار وقلة اكتراث وكسل يصحبها ميل شديد إلى الأخذ بأكبر نصيب المتعة واللذة وحياة الطراوة والهزل حتى حار فيهم المربون وضاقوا بهم ذرعاً ، واستولى اليأس من إصلاحهم على قلوب الكثيرين ؛ وأصبحت الحالة لا تطاق بين جدران المدارس بسبب ما يوجد من الاستهتار والرعونة والخروج على المبادىء الأساسية المرعبة بين التلميذ ومعلمه . وإن الفوضى التي تنتاب المدارس أحياناً وبخاصة في الأسبوع الأخير من العام الدراسي من خروج على النظام والآداب وإتلاف لبعض أناث المدرسة مما يتناول كرامتها وكرامة أساتذتها ، الا تحزن له النفس ويبلع له القلب . وهذه حال ستؤدي حتماً إلى تدهور خاقى أشتع مما تقاسيه البلاد أدب إذا لم تجد الميد القوية الحازمة الرادعة التي تضع الأمور في نصابها فتعيد إلى المدرسة كرامتها ، وتجعل أسامي المعاملة بين

التلميذ وأستاذه ومدرسته الاحترام الحقيقى المشوب بالعطف الأبوى يقابله في الوقت نفسه حب بنوى . وفى هذا يقول سعادة حافظ عقيقي باشا في كتاب على هامش السياسة ( أما أسباب هذه الفوضى فهى ترجع إلى عدم تنفيذ القوانين المتعلقة بنظام المدارس تنفيذاً لا استثناء فيه . وإلى تركيز كل السلطة في وزير المعارف نفسه وإلى أخذ التلاميذ بسياسة مضطربة ، فهى الشدة المتناهية أحيانا واللين المتنامي أحياناً أخرى والذبذبة بين الشدة واللين في أكثر الأحيان . الخ ) وبعد كلام طويل عن تعديل القوانين بما يضمن للطالب الحربة في حدودها المعقولة ، والناظر والمعلم التمتع بالاحترام الواجب قال ( ... أما أن يشير ناظر المدرسة على وزارة المعارف بأن تتخد نحو تلميذ بالذات قرارا معينا فترفضه الوزارة أو تعدله فهذا هو الوسيلة لاضاعة نفوذ ناظر المدرسة . وبالتالي هو السبب لافساد النظام نهائياً فيها ... »

فاذا كانت المدرسة قد جمدت في نظامها فان التلميذ قد اندفع في حريته إلى الفوضى التي لا يقرها عدل ولا نظام . وخير علاج للحالة الأخيرة هو طريق الاقناع الفردي الودى المشوب بالمطف؛ فاذا لم يجد ذلك كانت الشدة واجبة كل الوجوب . ولا بأس من استعمال العصى أحيانا بيد عائلة حازمة كما يجرى في كلية فكتوريا وفى المدارس الانجليزية البحتة وقت اللزوم اتقاء الخروج على الآداب ودرءاً للخطر في المستقبل، متمثلين بقول الشاعر : فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم أما العيوب الفنية العامة الأخرى بالمدارس المصرية فتتلخص فيما يأتي :

أولا : على الطبقات

الطفل المصرى الراغب في التعليم الآن يجد أمامه من المدارس المختلفة المراتب والأوضاع والمزايا روضة الأطفال ، والمدرسة الالزامية ، والمدرسة الأولية ، وفرقة تحفيظ القرآن الكريم ، والمدرسة الابتدائية ، والمعهد الديني ، والملجأ، والمدرسة الأجنبية والشارع وهو أهمها الآن ، إذ تجد به من الأطفال حوالي مليون ونصف مليون ، بينما جميع المدارس السابقة الذكر لا يبلغ عدد من يؤمها اليوم المليون عدا . فهذه المدارس الشعبية الأولى المتعددة تخلة. أول تصدع في بناء الأمة الواحدة لأنها تخلق نظام الطبقات

المختلفة في جسم هذه الأمة ذات الدين الواحد والعادات المتحدة ، واللغة الواحدة. وخلق الطبقات بين أمة هذا حالها لا يقره دين ولا نظام ، فالديمقراطية تنفر منه كل النفور لأنه لا يمكن أن يؤدى إلى الاشتراك في الميول والرغبات، ولا يمكن أن يؤدى إلى الاتحاد في اللفهم الى ام ، وهو أساس التفاهم بين الأفراد ، فهو إذن ينزع إلى التفرقة الشاملة بين أفراد الأمة الواحدة ، ولعل قيامه بهذا الشكل السر الأول في هذه الفرقة التي تحسها في ديارنا في كل شي ، وما دام قائدا في هذه المدارس المتباينة التي نرى في كل منها اختلافا في الطرائق والأساليب والمذاهب وطرق التفكير فلن تكون لنا وحدة متماسكة ولن تستطيع أن تخلق من أبناء النيل أمة متحدة في الفهم والقصد ترى إلى غرض واحد

وتتعاون في طريق واحد ، فالى متى يا ترى يستمر تعليمنا عاملا جوهرياً من عوامل التفرقة ، وخلق الطبقات المختلفة المتباعدة في الفهم المتنافرة في التفكير، مما يؤدى إلى النزاع الدائم المستمر الذي ينعى الله عنه بقوله ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحيمر» ولقد كانت هذه النقطة هي الأولى التي لفت إليها نظر معالي وزير المعارف في تقريرى الذى رفعته إليه من مدرسة الفيوم الابتدائية

في ١٦ مارس سنة ١٩٣٦ لأنها من الأهمية بحيث تحتل المكان الأول من الاصلاح المطلوب ، فلا سبيل إلى محو تلك الفروق تلك النزيات المختلفة بين أفراد الشعب الواحد والتقريب بين أفهامهم إلا يجعل أساس التعليم واحداً ، ألا ترى كيف تعمل الدول المختلفة على نشر ثقافتها بين الشرقيين ، وكيف تجهد نفسها ، وتنفق الطائل من أموالها في سبيل جعل لفتها و طرق تعليمها هي السائدة حتى تتمكن من التفاهم مع تلك الشعوب . وتفوز بكسب عطفها وتقديرها

فالتعليم هو الطريق الفعال المؤدى إلى التفاهم والتعاون، لذلك أرى أن أساس الاصلاح هو في التوحيد بحيث لا يوجد بيتنا غير نوع واحد من المدارس يبني على أساس واحد يسمى بالمدارس الشعبية ، تندمج في تكوينه كل أنواع المدارس السالفة الذكر ، ويتعلم فيها أبناء النيل على السواء لا فرق في ذلك بين غني وفقير أو عظيم وحقير ، تتلود بعد ذلك مراحل التعليم الأخرى المختلفة فيشعر أطفالنا في تلك المدارس الشعبية العامة بأنهم جميعاً أبناء

شعب واحد تسرى عليهم حالة واحدة كما هو الحال في سائر البلاد الأخرى ، ولا تفضيل لأحدهم على الآخر إلا بالجد والعمل والأخلاق الكريمة الفاضلة ، كما تشعر جميعاً ونحن في المساجد متراسين متوجهين إلى الله أن لا فرق بين مملوك وأمير

وكبير ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على مجمى إلا بالتقوى ) . هذه - الوحدة الشاملة والألفة العامة ، هي التي يجب أن تكون الفرض الأساسى من التعليم ، والتي يجب أن تكون المدرسة أول حامل على خلقها . قال دوى : ( ومن مفسدات الديمقراطية أن

يسمح بإنشاء طبقات مستقلة في الأمة ، فان التباين في الثروة، ووجود عدد وافر من جملة أرباب الصناعة، واحتقار العمل اليدوى والعجز عن إدارة التربية التي تمكن من التقدم في سبيل الحياة ، كل ذلك يتضافر على إحداث طبران، مستقلة متفرقة وتوسيع شقة

الخلاف والتفريق . على أن في إمكان أرباب السياسة والتشريع أن يدفعوا شيئاً من هذه النوائل ، كما أن على أهل المساعي الخيرية القيام بشيء من هذا الفرض النبيل . إلا أن العامل الأكبر الأصيل في هذا السبيل هو النظام المدرسي الشامل للأمة جمعاء ) ثم يقول: «لا يجوز أن تكون تفرقة بين أنظمة المدارس، فلا يقيني وجود نظام لأبناء الموسرين ، وآخر لأولاد العاملين بالأجور، فان الفصل المادى بين الفريقين بسبب هذا التنظيم لا يتفق مع ترقية روح الأخاء المتبادل )

ثانياً - عزلة المدرسة

المدرسة المصرية معزولة من بينها عزلا تاما ، فترى التلاميذ يدخلونها فينقطعون عن كل ما يحيط بهم من الأعمال ، كما نرى المدرس أو ناظر المدرسة خصوصا في الأقاليم يترفع عن الشعب الذي يزود المدرسة بأبنائه ، ويحاول الابتعاد عن أولئك الفلاحين كأنهم من طينة أخرى غير طينته ، لأنه يعتبر نفسه موظف حكومة كمأمور للمركز، عليه أن يحتفظ بينهم بمكانته وعلو مركزه كما يتوهم ، وبذلك لا يختلط بهم ، ولا يمكنه أن يعرف الأحوال الحقيقية لأبنائهم الذين بالمدرسة ، ولا يستطيع أن يتعاون معهم التعاون الفعال على إصلاحهم بمعرفة تقط الضعف المختلفة في تكوينهم . ثم إن التلميذ يرسخ في ذهنه الاعتقاد بأن المدرسة لاصلة لها بالحياة وما يجري فيها من زراعة أو صناعة أو تجارة

أو أعمال، وبأنه إنما يجيء إليها ليقضى جزءاً من وقته فيها لغيرما فرض واضح في ذهنه ، اللهم إلا إعداده لأن يكون موظفا حكوميا، ولذلك يندفع فى الابتعاد عن كل ما يمت إلى الحياة العلمية بسبب

حتى إن بعض التلاميذ يتعجب عند ما يعلم أن المياء التي يشربها والتي تصل إلى منزله عن طريق الأنابيب أو عن طريق الترح والفنوات، ما هى إلا من مياه نهر النيل الذى يرسمه في علم الجغرافيا ، فما بالك بعد هذا إذا خرج يسعى إلى الكسب في الحياة العامة ؟ إنه لا شك يكون كالأعمى أو كالذى يذهب إلى ديار مجهولة لا يسلم عن أهلها وعن أم وعن أعمالهم شيئا ، فيحار في أمره

ويرتبك في حياته ولا يدرى ما يعمل ليكسب قوته . وهذا في الحقيقة هو السبب الأساسي في خلق المتعطلين وقمودهم عن العمل لجهلهم بأحوال يتهم وما يحيط بهم من ظروف وأعمال . ولو أن المدرسة لم تفصلهم انفصالا تاما عن المزارع والمتاجر والمصانع المحيطة بهم وجعلت بينهم وبينها صلة قوية وجعلت من نفسها وحدة تشابه بينها لما كان ذلك للعجز عن مواجهة الحياة . فهي

إذن بمزلها هذه تقصر في تربية التلميذ وتكوينه من الوجهتين الفعالتين القويتين : وجهة الاتصال المباشر بالمنزل ، إذ الواجب يقضى بتعاونهما تعاوناً عملياً على النهوض بالتلميذ وتحسين حاله الصحى والثقافى والخاقى، ووجهة فصل التلميذ عن يثنه ، وما يجرى فيها من أعمال يحتاج إلى مزاولها وممارستها في مستقبل حياته . ولقد أصبح لزاماً على المدرسة المصرية كغيرها من سائر المدارس أن توجه أكبر عنابها إلى ذلك

اشترك في نشرتنا البريدية