الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

التقاليد الثقافية ، وجامعة الهند

Share

مر تاريخ الجامعات بالهند بثلاث مراحل رئيسية ، نتجت كل منها عن جملة من القيم الثقافية أدخلتها شعوب أجنبية للبلاد عند ما استقروا بها وأتوا بسننهم الثقافية . ولعل هؤلاء النازحين الاولين كانوا مثقفين ثقافة برهمنية  ورثوها عن أجدادهم المنحدرين من أصل هندى آرى ، عندما أقاموا بالقارة السفلى ، ( نحن لا نعلم شيئا عن الاساليب العملية للتربية التى كانت متبعة في المرحلة الاولى من حضارة وادى الهندوس ، ولقد كانت لهذه الثقافة كتابة مكتملة ، ولكننا لم نصل بعد الى فهمها ) ، أما المرحلة الثانية فهي نتيجة نزول المسلمين بالهند وكان لها طابع غير ثابت كما سنرى ذلك والمرحلة الثالثة وهي التى تجتازها حاليا ، نتجت عن تأثير الآراء الغربية والاوروبية على التربية بوجه عام ، هذه الآراء التى وصلت الى الهند عند ( الفتح ) البريطاني

كانت السنة القديمة قائمة على الاخبار الشفوية وهى تعتمد على ما يحفظه الناس من نصوص هامة معظمها ذو صبغة دينية . ولقد صمدت هذه السنة حتى العهود الاخيرة ، بل الى اليوم ، فى الجامعات الهندية حيث يفضل الناس حفظ النصوص على فهمها وضبط معناها

والعنصر الثاني الهام الذى يجب أن نشير اليه هو أن التربية كانت محتكرة عند الرهبان ، حتى صار الناس يعتبرونهم محيطين بكل علم ، بل أصحاب مصدر خفي يستقون منه المعارف ولا يتسنى لغيرهم أن يكرع منه . وهكذا احتكر هؤلاء الرهبان أمر الثقافة حتى ظن أنها تكوين ضرورى لاستكناه شؤون الدين

هذا هو الوضع الذى كان قائما فيما يخص التربية في المجتمع الهندى . لقد وجد وضع ثقافى آخر بقي قائما حتى القرن الثامن قبل المسيح : أشير هنا الى الثقافة البوذية التى كانت تشرف عليها الاديرة البوذية المعارضة للنظام البرهمنى . فلقد كان البوديون يرفضون قبول السلم الترتيبى عند البراهمة ونظامهم الطائفي ، وطريقة البوذيين في التربية مختلفة شديد الاختلاف عن طريقة سابقيتهم ، رغم ما لها من علاقات متينة بالمؤسسات الدينية ورغم اشراف القساوسة عليها . وسرعان ما انقلب عدد من هذه الاديرة الى جامعات تشبه الجامعات التى نعرفها اليوم . ولقد كان البراهمة فى العهد القديم يتجمعون فى

عدة مدن كتكسيلا (Tarila)و وأجين (Ujjain) اليهم . وهكذا كانت هذه المدن تصبح مراكز ثقافية بدون أن يكسد نشاطها فى الميادين الاخرى ، الا أن الاديرة البوذية كدير نالندا(Nalanda)أصبحت مدنا جامعية مهمتها التعليم والتعلم . والبوذية لا تفرض أى وضع يضيق به الذين يأتون لتلقي هذا التعلم ، والقرى المجاورة هي التى تمنح عطايا سخية هذه هذه الاديرة البودية التى لا تعيش على هدايا الجيران ، مخالفة في ذلك نظام الاديرة البرهمنية ، فتفتح أبوابها فى وجه أناس ينتمون لمختلف طبقات الشعب آملة بدون شدة أن ترغب ، بهذه الطريقة ، طلبة الجامعات البودية فى الالتحاق بها ، الا أن هؤلاء الشبان معرضون عن ذلك ، ولكنهم رغم ذلك يحظون بقبول حسن فيها ، ولهم الخيار فى العودة الى ديارهم متى شاؤوا

ولا يلتحق بهذه الاديرة طلبة من جميع أنحاء الهند فحسب ، بل من جميع الطبقات الاجتماعية أيضا ، فكانت نتيجة هذا الوضع ان انتشرت الثقافة الدنيوية دون أن ينحط مستوى التعليم الديني . أما الفنون الخمسة التى يطالب التلامذة بالوقوف على مضمونها فهى : النحو ، واللغة ، والفنون ، والطب ، وفن المنطق والفلسفة . وهذا برنامج دراسي أفضل من البرامج المطبقة فى المراكز البرهمنية ، وتحظى المواد العلمية والدنيوية فى هذه المعاهد باهتمام كبير زاد فى تنمية حب الاستطلاع عند الطلبة الذين أصبحوا يفضلون مناقشة الآراء التى يعرضها عليهم أساتذتهم ، مناقشة صاخبة عوض أن يعمدوا الى حفظ النصوص حفظا آليا ، وأن يقبلوا في خضوع كل الدروس التى تلقي عليهم . ومما يؤسف له شديد الاسف ، بالنسبة لتطور الثقافة في الهند ، أن البودية لم تصبح القوة المهيمنة فيها كما هو الشأن في الصين ، اذ كان من الممكن أن تخفف من وطأة الجمود الناتج عن الثقافة البرهمنية

وما أن استتب الامر للمسلمين فى الهند واعتنق عدد من السكان الدين الاسلامي ، حتى صار من الضرورى اقامة مساجد أضيفت اليها مؤسسات تربوية أطلق عليها اسم : " مكاتب " أو " مدارس " . والتعليم في هذه المراكز تغلب عليه النزعة الدينية ، وكانت هذه المؤسسات مقصورة أول الامر على الطلبة المسلمين ، الا أن لغة التعليم الاساسية كانت الفارسية ثم أصبحت اللغة الرسمية لشؤون الدولة بعد ان تركزت هيمنة المسلمين فى الميدان السياسى فاضطر الفنيون الى تعلم الفارسية وفتحت هذه المعاهد في وجه طلبة غير مسلمين . وهكذا سهل هذا الوضع تبادل آراء خطرة أثرت في تطور الفلسفتين الهندية والاسلامية معا . بيد أن هذه الوضعية تولدت عنها حتما لغة جديدة عرفت باسم الاردو (lourdou) وهي كلمة معناها المضبوط : " لغة المعسكرات " وهى مزيج من لغات البراهمة والفرس والعرب . ولم تكن لهذه اللغة علاقة بالارثوذكسية الهندية والاسلامية ، فانتشر استعمالها في المعاهد التى أسست تحت رئاسة ملوك أهل موغال (Mughal). يمكن أن نقول اذن

ان احتلال المسلمين للهند تسبب عفوا فى اعطاء الثقافة صبغة دنيوية وجعلها أكثر اتساعا مما كانت عليه فى عهد البراهمة والمسلمين الاولين

ثم نشأت قوة جديدة فى الثقافة الهندية بعد مرور قرن على عهد الملك أكبر (Akbar)، عنيت بذلك المبشرين القادمين من أوروبا. ولقد تجنب البريطانيون الذين استقروا بالهند للتجارة المشاركة فى تغيير حياة الهند بين الاجتماعية والثقافية. وتكفل المبشرون بانشاء مدارس ومعاهد على النمط الاوروبى، ان معنى هذا النشاط هو السير فى طريق العودة الى مؤسسات ذات صبغة دينية رغم أن معاهد هؤلاء المبشرين المسيحيين كانت تبث بين الحين والحين ثقافة واسعة مفيدة

أما السياسة الثقافية التى اتبعتها بريطانيا فى الهند خلال القرن التاسع عشر فقد كانت متأثرة بعيد التأثر بالحركات الفكرية المنتشرة فى بريطانيا العظمي، وكانت الحركة التبشيرية والحركة الانتفاعية أشد هذه الحركات أهمية. أما الاولى فكان نشاطها يرمي الى الاصلاح الاجتماعي والتدخل الفعلى في تقاليد البلاد الهندية وعاداتها قصد جعلها مطابقة للتفكير الاوروبى، فطالبت طبعا بأن ترصد التشجيعات الادبية والاعانات المالية لهذه المعاهد والمدارس التى تديرها جمعيات التبشير المسيحية وأما الانتفاعيون - وكان لهم أتباع عديدون من بين المثقفين الهنديين فى ذلك العصر - فقد رغبوا فى أن ينفثوا المبادئ العقلية في طريقة العيش التى يتبعها الهنديون، اعتقادا منهم أن هذا التغيير عملية طبيعية لا تفتأ أن تزداد اتساعا كلما ازداد الهنديون تعودا بالآراء الاوروبية في جو ملؤه الحرية، وأنه يجب أن يقبل طوعا لا أن يفرض فرضا.

ثم نمت بفضل ادخال اللغة الانقليزية، نظرية أطلق عليها اسم نظرية "النفوذ الى أسفل" L’in / iltration veis le bas تقوم هذه النظرية على مبدأ مفاده أنه اذا ما تغذت الطبقة الممتازة المخيرة من بين الطبقات الاجتماعية العليا، بثقافة بريطانية، لا تلبث هذه الثقافة نفسها أن تنتشر فتنفذ الى سواد الشعب، بفضل لغة شعبية في وسع المثقفين الهنديين العصريين استعمالها.

وليس هذا بدعا من الرأى عند الهنديين. فلقد كانت نظرية البراهمة قائمة على معنى من هذا القبيل، اذ تأسيسها الطوائف العليا رجاء أن تنتشر هذه الثقافة حتى تبلغ الى عامة الناس. نحن نلاحظ أن الهنديين المثقفين ثقافة أنقليزية اما أن يكونوا قد ابتلعتهم المناصب الادارية واما قد جذبتهم تلك الطبقة الهامة المؤلفة من المهن الحرة التى لغتها الانقليزية. بيد أن تكوينهم الانقليزى قد حال دون نفوذ هذه الثقافة الى الطبقات الشعبية التى لا تعرف الا لغة التخاطب اليوم، ولم يمكنهم من اخضاع المبادئ الارسطقراطية الهندية، هذه الارسطقراطية التى ترفض فى كبرياء أن تربط بالمهن الحرة. يمكن اذن أن نعتبر أن نظرية "النفوذ" قد باءت بالفشل.

وهدف هذه الجامعات التى أسست على النمط الاوروبى فى الهند، هو تكوين طبقة هذه المهن الحرة. أما أقدمها، فهى جامعات بومباى وكلكتا ومدراس ولقد كان تأسيسها فى منتصف القرن التاسع عشر على غرار جامعة لندن، ولم تكن فى أول الامر سوى مؤسسات للامتحانات لا تحتوى الا على عدد معدود من المعاهد ولم تكن تدرس فيها بادئ بدء الا الآداب والعلوم الانسانية دون سواها من المواد الاخرى. وما لبثت الحركة الوطنية أن نمت، وما لبثت أن ازدادت مشاركة الطبقة المثقفة الهندية فى الحياة السياسية، فألحقت كليات الحقوق بهذه الجامعات وصارت محببة الى نفوس الشعب. وما هي الا أن أحدث معهد العلوم الاقتصادية الا ان دراسة الطب والعلوم والفنون تحققت بأكثر بطءا لانها تحتاج الى تجهيز يكلف نفقات باهضة. ونجحت هذه الجامعات نجاحا جعل لهنديين يطالبون بالاستزادة من المشاركة فى التعليم، حتى شهد مطلع القرن العشرين نمو مراكز قديمة وانشاء عدد كبير من المراكز الجامعية في مختلف أنحاء البلاد.

ولقد كان من نتيجة ادخال الآراء الاوروبية الى الهند ان تولدت وضعيات لم تغير فى الثقافة المظاهر الفنية فحسب، بل القيم التقليدية فى المجتمع أيضا.

فدراسة المشاكل التى برزت منذ قرن لم تفض بعد الى حل من الحلول. الا أن هذه المشاكل صارت أقل تشعبا بفضل انهيار جملة من الآراء القبلية.

ومنذ أقدم العصور، وفى كل المجتمعات، وجد حاجز بين الطبقات المثقفة والطبقات غير المثقفة، وقد كانت رغبة غالب "الاوتوبيين" أن يزيلوا هذا الحاجز، اذ المجتمع الهندى تحت نفوذ عدد صغير من المثقفين الذين وجدوا أنفسهم بين عدد عظيم من السكان - رجالا ونساء - حرموا حق التعلم منذ قرون بعيدة، وصاروا اليوم يأملون فى أن تتاح لهم فرصة التعرف على هذه التجربة.

لا يوجد فى الهند غير جامعات قلائل تعتنى بدرس مظهر خاص من مظاهر الحياة الهندية، اذ معظم الجامعات تبث ثقافة يمكن أن نسميها ثقافة غربية فنتج عن ذلك أن قويت شقة الاختلاف بين الهندى المثقف والهندى الذى لم يلتحق بالجامعة، لان الاول يلاحظ أن أغلبية آرائه بعيدة كل البعد عن آراء الثاني.

عبثا نطالب الجامعات العصرية بالاعراض عن هذه الثقافة الغربية لان سوقها نافقة، ولان المثقفين صاروا لا يعتبرونها ثقافة "غربية" بل "عصرية".

ولا يزال النقاش القديم قائما حتى اليوم حول تفضيل اللغة الانقليزية على اللغات الهندية، ولكن هذا النقاش صار اليوم مرتبطا بمسألة اكثر اتساعا، وهى مسألة تبنى لغة قومية هندية. انه لمن المؤسف، بعد أن أصبحت الانقليزية

اللغة العالمية المهيمنة أن يعرض الهنديون عن تعلمها كما هو الحال اليوم. الا أن شقة الاختلاف بين الهنديين المثقفين وغير المثقفين تنقص نصقانا ملحوظا لو أصبحت احدى اللغات الجهوية (الهندية) وخصوصا اللسان "الهندى" (le Hindi) لغة التعليم في الجامعات وان مثل هذا التقارب لمن شأنه أن يسهل محو ما تكنه أغلبية المثقفين الهنديين من احتقار للاشغال اليدوية، احتقار تنتج عنه مشاكل عديدة في ميدان الشغل عند ما يفضل عمل فى مكتب بسيط على عمل يدوى.

ومن الممكن أن تتغير هذه العقلية اذا ما تطورت الجامعات الهندية شيئا فشيئا الى مؤسسات يمكن للطلاب أن يقيموا فيها ويشتغلوا أيضا.

فمشكلة التشغيل لها أهمية بالنسبة للدور الذى ستضطلع به الجامعات الهندية في المستقبل. فالشهادة الجامعية وسيلة تسهل الظفر بعمل، ولهذا السبب نرى كثيرا من الشبان الهنديين يرغبون رغبة شديدة فى الاحراز عن شهادة جامعية، وربما كان هذا هدفهم الوحيد عندما يلتحقون بالجامعة. وقد تكون خيبتهم شديدة اذا ما لم يتمكنوا من الظفر بعمل رغم الشهادات التى يحملونها، وقد يخشى على الجامعة - والحالة هذه - أن يضعف مستواها وأن تصبح معملا بسيطا لانتاج المثقفين بالجملة، وقد يخشى أن تكون النتائج النفسانية الناجمة عن هذا الوضع أكبر خطرا على الطالب الذى يختلف الى هذه الجامعة. فمعظم الجامعات الهندية تسير شؤونها الدولة، وهكذا نرى هذه المعاهد العلمية تضطر الى اعتبار امكانية التشغيل عندما يكون الامر متعلقا بقبول الطلبة وانشاء كليات جديدة، وهذا أمر عظيم الاهمية فى بلاد بدأت طاقتها الصناعية والفنية تنمو، ثم سوف لا تلبث أن توفر لا عددا أكبر فحسب من المنافذ الصناعية بل امكانية استعمال عدد أكبر من الفنون الثقافية أيضا %

اشترك في نشرتنا البريدية