الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 324الرجوع إلى "الثقافة"

التمثيل الديبلوماسي ، الحصانة الديبلوماسية

Share

المراد بالحصانة الديبلوماسية " Immunites des  agents diplomatiques " هو الامتيازات والحمايات الخاصة الممنوحة للمبعوثين الديبلوماسيين ، التي تجعل منهم رجالا مميزين تمييز رؤساء الدول الذين يمثلونهم .

وللحصانة الديبلوماسية أسباب مزدوجة : نظرية وعملية ، فمن الناحية النظرية يعتبر المبعوثون الديبلوماسيون ممثلين لدولهم ، بمعنى أن دولهم تتمثل في أشخاصهم ، وعليه يعطى لهم ما لدولهم من احترام وتبجيل

ومن الناحية العملية ، يحتاج المبعوثون الديبلوماسيون إلى حرية تامة للقيام بالمسئوليات العظيمة الملقاة على عاتقهم . وليتمكنوا من ذلك ينبغي أن يكونوا بمأمن من القوانين المحلية على أنفسهم وأموالهم وحاشيتهم .

وتبدأ الحصانة الديبلوماسية للمبعوث الذي يمنحها منذ أن تطأ قدمه أرضا أجنبية ، وتستمر طيلة المدة التي يبقى فيها بحكم وظيفته

ومن المتبع تقسيم الحصانة الديبلوماسية إلى قسمين ، يطلق على الأول المناعة Inviolabilite وعلى الثاني  " الوجود خارج الحدود " ( Exterritorialite) .

والمراد بالمناعة هو أن المبعوث الديبلوماسي ينبغي أن يكون في حمى من كل اعتداء مادي أو معنوي ، سواء أكان من موظفي الحكومة أم من أفراد الشعب ، ولهذه الغاية تنص قوانين الجزاء في مختلف البلدان على عقوبات صارمة توقع بكل من يحاول النيل من كرامة المبعوثين الديبلوماسبين أو الاعتداء عليهم .

والمناعة لا تكون للمبعوثين أنفسهم فحسب ، بل تمتد إلى أفراد عائلتهم وحاشيتهم ، وإلى أموالهم وسياراتهم ، وإلى مخابراتهم مع دولهم سواء أكان ذلك بالبريد أم البرق أم التليفون .

وقد جرت العادة على أن تحمل المراسلات الديبلوماسية

وتجتاز الحقيبة جميع الحدود ، دون أن تفتح أو يراقب ما فيها . ويحمل الحقيبة سعاة خصوصيون تشملهم المناعة الديبلوماسية

والمناعة تحمي المبعوثين الديبلوماسيين من المقاضاة الجزائية ، والقانون الدولي يؤيد ذلك ، والتعامل بين الدول يثبته . فالدولة التي يقيم فيها المبعوث الديبلوماسي لا يحق لها في أي حالة كانت ، أن تقيم عليه دعاوي جزائية أو أن تحاكمه بموجبها . ومحاكم تلك الدولة لا صلاحية لها أصلا بمحاكمة المبعوث ، وعليها أن ترفض النظر في أي قضية جزائية تقدم اليها ، من غير أن يطلب المبعوث منها ذلك ، ولكن هذا لا يعني أن المبعوثين الديبلوماسيين الحق بأن يفعلوا ما يشاءون . لقد منحوا امتيازات المناعة على اعتبار أنهم يتصرفون تصرفا يتمشي مع قوانين البلاد وأنظمتها . وفي حالة تصرف أحدهم تصرفا مخالفا لتلك القوانين والأنظمة ، وتعكيره صفو النظام ، تطلب الحكومة التي هو في بلادها من حكومته استدعاءه ، أو تقوم بإعادته حالا إلى بلاده .

ويسجل التاريخ أمثلة عديدة من أعمال المبعوثين الديبلوماسيين الذين تآمروا على الدولة التي هم فيها ، ومع ذلك فلم تحاكمهم تلك الدولة . ومن هذه الأمثلة أن سفيرا اسبانيا في لندن تآمر عام ١٥٨٤ على خلع الملكة اليزابث عن عرشها ، فلم تحاكمه الحكومة البريطانية ، ولكنها طلبت منه أن يغادر البلاد . كما أن الولايات المتحدة طلبت عام ١٩١٦ ، وكانت لا تزال على الحياد ، من سفيري المانيا والنمسا مغادرة بلادها لما كانا يقومان به من أعمال تجسسية وإخلال بالنظام .

والنوع الثاني من الحصانة الديبلوماسية هو " الوجود خارج الحدود "  Exterritorialite والمراد بذلك صورة تخيلها الفقيه كروثيوس Grotius في القرن السابع عشر ، يبدو فيها المبعوث الديبلوماسي وكأنه لم يترك أرض بلاده ،

وكأن بناء السفارة أو المفوضية قائم على أرض وطنه ، لا على أرض البلاد التي تقوم عليها في واقع الأمر . وبعبارة أخرى ، يعتبر بناء السفارة أو المفوضية جزءا من أراضي بلاد المبعوث الديبلوماسي ، وأن ذلك المبعوث لا يزال يقيم في بلاده . فالسفارة البريطانية في القاهرة مثلا ، تعتبر جزءا من بريطانيا العظمى ، والسفير البريطاني في القاهرة يعتبر كأنه يسكن وطنه . وليس هذا الاعتبار سوى تخيل كما قلنا ، ولا يجوز أن يستنتج منه جميع النتائج التي يقضي بها المنطق ، ولكنه يفيد كثيرا في تفسير جانب كبير من الحصانة الديبلوماسية ،

فمن الناحية الحقوقية يعتبر المبعوث الديبلوماسي مقيما في بلاده . ولذا لا تنطبق عليه القوانين الجزائية والمدنية للبلاد التي هو مبعوث لديها ، ولا تجوز محاكمته حقوقيا أمام محاكم تلك البلاد ، كما أنه لا يجوز محاكمته جزائيا ، كما رأينا في بحثنا موضوع " المناعة "

وفي حالة وفاة المبعوث الديبلوماسي ، تطبق قوانين بلاده على تركته ، وإن كانت قوانين تلك البلاد تشير إلى تطبيق قوانين البلاد المتوفى فيها . وذلك لأن المبعوث الديبلوماسي مفروض فيه عرفا انه لم يغادر بلاده . فالمبعوث الديبلوماسي البريطاني في مصر ، يتوفى في عرف الحقوق الدولية في بلاد الإنكليز ، عندما تكون وفاته الحقيقية قد حصلت في بلاد وادي النيل .

كما أنه لا يجوز لأي كان أن يتخذ أي إجراءات قضائية ضد مبعوث ديبلوماسي فيما يتعلق بما عليه من ديون ؛ فالمبعوثون الديبلوماسيون لا يوقفون لديون عليهم ولا تحجز أموالهم ، المنقولة ولا غير المنقولة ، ولا يمكن منعهم من مغادرة البلاد لأنهم لم يدفعوا ما عليهم من ديون .

وكما أنه لا يجوز إقامة الدعاوي الحقوقية على المبعوثين الديبلوماسيين ، فإنه لا يجوز إجبارهم على تقديم الشهادات

أو رجاء ذلك منهم ، سواء أكانت الشهادات أمام المحاكم الجزائية أم الحقوقية ، أم الإدارية ، أم أمام مندوب خاص لسماع الشهادة في دورهم .

ومن هذا القبيل ما جرى عام ١٨٥٦ لمسيو ديبوي  Dubois مبعوث هولندا الديبلوماسي في واشنطون . لقد انتحر شخص أمام المسيو ديبوي . وكانت شهادته ضرورية لإجراء المحاكمة . فطلب منه وزير خارجية الولايات المتحدة الإدلاء بالشهادة أمام المحكمة ، مع اعترافه بأنه ليس من واجب المسيو ديبوي القيام بذلك . رفض مسيو ديبوي طلب وزير الخارجية بناء على نصيحة المبعوثين الديبلوماسيين للدول الأخرى . فرفع وزير الخارجية المسألة إلى الحكومة الهولندية . غير أنها وافقت على موقف مسيو ديبوي ، وسمحت له أن يعطي الشهادة أمام وزير الخارجية فقط . ولما كانت هذه الشهادة وأمثالها لا قيمة لها بالنسبة لقوانين الولايات المتحدة ، فإن حكومة واشنطون تأثرت من موقف المسيو ديبوي ، وطلبت من الحكومة الهولندية استدعاءه .

ولكن ما قلناه لا يمنع المبعوث الديبلوماسي من الظهور أمام المحاكم لإعطاء الشهادة ، إذا هو أراد ذلك . وعندئذ تسمع المحاكم شهادته وتتخذها بينة .

والمبعوث الديبلوماسي غير خاضع للضرائب الشخصية والمباشرة ؛ فهو لا يدفع ضريبة دخل . أما الضرائب الجمركية فلا يدفعها أيضا من قبيل المجاملة لا بحكم الحقوق الدولية .

والآن يأتي إلى أهم نتائج " الوجود خارج الحدود " " Exterritorialite" وهي حصانة مقر المبعوث الديبلوماسي ، الذي يطلق عليه عادة " فندق السفارة"   L’hotel de l’Ambassade ) .

وحصانة فندق السفارة نتيجة لاعتباره وهميا من ضمن أراضي دولة المبعوث وواقعا خارج حدود الدولة التي هو فيها

وبناء على ذلك لا يجوز اتخاذ اجراءات قضائية ، بحق فندق السفارة ، من حجز وخلافه ، ولا يجوز إيقافها على ما فيه من أدوات ، والحصانة تمتد إلى أكثر من ذلك ، إذ أنها تمنع السلطات المحلية من دخول فندق السفارة بأي وجه من الوجوه ، إلا إذا سمح للمبعوث بذلك .

فالمبعوت سيد في مقره ، ولكن من غير أن يكون في وضعية تمكنه من التحكم في أبناء قومه فيه . وبعبارة أخرى ليس للمبعوث حق القبض على أحد من أبناء قومه المقيمين ضمن حدود الدولة التي يقوم فيها المبعوث ، أو حبسه في مقره ، لترحيله وتسليمه إلى حكومته

ومن قبيل ذلك ما حدث عام ١٨٩٦ في بريطانيا لشخص صيني اسمه " سان يات سين كان هذا لاجئا سياسيا مطلوبا للحكومة الصينية ، فدبر المبعوث الصيني في لندن حينذاك ، طريقة أدخل بواسطتها سان يات سين المفوضية الصينية ، ومن ثم ألقي القبض عليه وأخذ بعد الترتيبات لترحيله ، وتسليمه إلى حكومته ، وكانت حجة المبعوث الصيني ، أنه ليس للحكومة البريطانية حق التدخل ، لأن بناء المفوضية هو جزء من الأراضي الصينية ، ولكن الحكومة البريطانية تدخلت في الموضوع ، وأدى تدخلها إلى إطلاق سراح سان يات سين بعد بضعة أيام .

ولحصانة " فندق السفارة " نتائج متعددة هامة فيما يتعلق بقانون الجزاء ، فإن وقعت جريمة في داخله ، لا يجوز للنيابة التدخل إلا بطلب من المبعوث ، ولكن لا يعتبر أن الجناية وقعت في بلاد أجنبية . وليس هناك مجال لإبعاد الجاني ( Extradition  ) ولا إلى تسليمه  إلى البلاد التابعة لها السفارة أو المفوضية ، وبعبارة موجزة ، تكون الجناية التي تحدث في فندق السفارة واقعة ضمن صلاحية القضاء المحلي ، ولكن توقيف الجاني وإجراء التحقيق داخل ذلك الفندق يتطلب في بادئ الأمر ، موافقة المبعوث .

وكثيرا ما يحدث أن يلتجيء المجرمون المطلوبون

للحكومة المحلية إلى المفوضية ، طالبين الحماية . وقد أدت نظرية اعتبار فندق السفارة واقعا في أراضى دولة المبعوث إلى مطالبة المبعوثين الديبلوماسيين بحق منح الالتجاء إلى الملتجئين في مقرهم ، ويعرف هذا الحق " بحق الالتجاء وقد غولي به حتى كان يشمل جميع الحي الذي يقع فيه  " فندق السفارة " ولكن الدول رفضت في القرن الثامن عشر قبول نظرية " حق الالتجاء للحى " وقبلت " حق الالتجاء إلى " فندق السفارة " وحده .

أما اليوم فلا وجود لحق الالتجاء من ناحية الحقوق الدولية ، لأن المبعوثين لا يرغبون في جعل المفوضيات ملجأ للمجرمين . ومن المتبع أنه حينما يدخل أحد المجرمين الاعتيادين مفوضية ما ، يرسل المبعوث الديبلوماسي وراء البوليس المحلي ليتخلص من المجرم .

أما فيما يتعلق باللاجئين السياسيين ، إلى إحدي المفوضيات ، فلا حماية لهم في نظر الحقوق الدولية ؛ فالمبعوث الديبلوماسي غير مجبر على قبولهم في مقره ، ويستطيع إن هم دخلوا فندق السفارة واحتموا به ، أن يسلمهم إلى السلطة المحلية ، ولكن العادة خلاف ذلك ؛ فالمجرمون السياسيون والمضطهدون من الشعب أثناء القلاقل والثورات ، ينالون حماية الحصانة الديبلوماسية حين يلجأون إلى دور السفارات أو المفوضيات .

وقد وقعت حوادث كثيرة من هذا القبيل ، لا سيما في البلاد الشرقية وبلاد أمريكا الجنوبية ؛ فقد كان المبعوثون الديبلوماسيون يحمون اللاجئين ، ويفاوضون الدول التي هم فيها لإخراجهم من البلاد بسلام . وإن رفضت الحكومات المحلية ذلك ، فليس لها حق دخول المفوضيات ، وكل ما تستطيع عمله هو أن يحيط المفوضية بحرس للتمكن من القبض على اللاجيء حين خروجه .

ومما يروى أن أميرة زنجية كان يسندها مبعوث ديبلوماسي ألماني ، ثارت على أخيها أمير البلاد ، الذي كانت تسنده الحكومة البريطانية ، وبعد قتال بين أتباع

الأميرة ، ورجال الأمير ، قضى على الثورة ، فالتجأت الأميرة إلى المفوضية الألمانية ، فمنحتها حمايتها . طالب الأمير ، ومن ورائه الانجيلز ، المبعوث الألماني بتسليم الأميرة ، فرفض المبعوث الطلب ، فوضعت الحكومة المحلية الحرس حول المفوضية ، للقبض على الأميرة حين خروجها . ولكن الأميرة لم تخرج ، وفي النهاية تضايق المبعوث الألماني من الوضعية ، فعمد إلى حيلة قانونية .

طلب من حكومته إرسال بارجة المانية إلى الميناء ، الذي يقيم فيه . وعندما وصلت البارجة إلى الميناء رست في أقرب مكان منه إلى المفوضية الألمانية . فربط المبعوث حبلا متينا وصل المفوضية الالمانية بصاري البارجة . وعلق على الحبل بكرة ، ووضع الأميرة في سلة كبيرة ، وربط السلة بالبكرة ، وأخذت البكرة تدور على الحبل إلى أن وصلت بالسلة ومن فيها إلى البارجة . وهكذا انتقلت الأميرة من المفوضية إلى البارجة والحرس ينظر دون أن يستطيع أن يأتي بعمل . ذلك لأن المفوضية تعتبر أرضا ألمانية ، والبارجة تعتبر أرضا ألمانية أيضا ، والحبل في الهواء موصل بين أرضين ألمانيتين ، تشمله الحصانة الديبلوماسية . وبهذه الحيلة أفلتت الاميرة الزنجية من يد طالبيها ، ووصلت برلين . وكان مصيرها فيها أن أصبحت بائعة للفستق في دكان صغير .

نري مما تقدم أن المبعوثين الدبلوماسيين يتمتعون بمزايا عديدة ، تعرف بالحصانة الديبلوماسية ، تجعلهم في وضعية تختلف كل الاختلاف عن وضعية المواطنين المحليين والأجانب الاعتيادين . وهذه الحصانة ، على نوعيها ، جد ضرورية لتمكين المبعوثين الديبلوماسبين من القيام بما باقي على عاتقهم من أعمال جسام ، بكل حرية فكرية ، واطمئنان بال .

فما هي أعمال المبعوثين الديبلوماسيين التي تتطلب هذه الحصانة الواسعة ؟ هذا مانتناوله في المقال المقبل .

اشترك في نشرتنا البريدية