الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 108الرجوع إلى "الثقافة"

الثائر فاسكو نونيزدى بالبيو، يكشف المحيط الهادى

Share

ما عاد خريستوف كولومبوس إلى وطنه من رحلته الفذة التى انتهت بكشف أمريكا حتى تسقط الناس ما حمل إليهم من أنباءى. وقد حادثهم عن عجائب تلك القارة المجهولة  ، وعرض عليهم الأذرة وأوراق الدخان وجوز الهند وغيره من النبات والفاكهة الجديدة التى جاء بها من وراء المحيط ، فسلب لبهم سمر الغريب المجهول . ولكن أنباء كولومبوس الجغرافية ، ونظرياته العلمية ، وغرابة ذلك العالم الخفى الذى تجلى فجأة فى الوجود ، لم تحدث بعض الأثر الذى أحدثه نبأ العثور على التبر الخالص فى سهول تلك القارة الشاسعة .

لم تبق سفينة فى أسبانيا لم تشد بعد ذلك النبأ قلاعها إلى أمريكا . واكتظت الشواطئ بجموع المهاجرين المصابين بحمى  الجشع . وجاء بعضهم بأدوات الحفر وبالصناديق الفارغة والخدم والبغال ليغترف التير مجرد الوصول إليه ويختزنه دون أن يعوقه عائق . ولم تنقض على هذه الحال فترة وجيزة حتى تنفست أسبانيا الصعداء لخلاصها من أغمار قومها غير المرغوب فيهم ، من كل مدين هارب من دائنيه ، او مجرم مفلت من القصاص ، أو مغامر مستهتر بالنظم والقوانين   ولم يتوقع أحد أن هذا الركب المنبوذ يضم أفرادا أعد لهم العالم الجديد حياة جديدة حافلة بجلائل الأعمال . وأن ينقلب بعض أولئك الأغمار أعلاما يشهد التاريخ بذكرهم .

وصل عباد الذهب إلى الأرض المسحورة ولكنهم وجدوا تربها تربا . ولم يجدوه تبرا . ولو عقلوا لاستعاضوا عن كنوز الذهب المرجوة بسائر خيرات تلك الأرض البكر

الفتية . ولكنهم جاءوا وراء التبر النقى . فكيف يرضون عنه بديلا ؟ إنهم يركبون فى سبيله المخاطر . ويجابهون الشدائد ، ويستسهلون الصعاب ، ولكنهم يرفضون أى ربح يجئ من طريق الفلاحة ، أو من طريق أى عمل هادئ  سهل ، لأنهم يحسبون المهن من مطالب الخانعين ذوى النفوس الذليلة والهمم المتخاذلة ، أما الكملة الشجعان فلا صناعة لهم غير ضرب الهام ، ولا مهنة إلا المغامرة .

كان حاكم جزيرة " هايبتي " (١) يرقب تدفق أولئك المهاجرين إلى مستعمرته بعين القلق ، إذ لم يجهل خطرهم على أمنها وسلامتها . فعمل جهد طاقته على ترويضهم ، وتحبيب العمل إليهم ، وتهوينه عليهم . فأقطعهم الأراضى الشاسعة ، ووهب لهم العبيد والدواب ، وأقرضهم المال للقيام بأود الزراعة . ولم يتطلب منهم العمل الجديد إلا مجرد إشرافهم عليه . ولكنهم انصرفوا عنه إلى اللهو والعبث ، وباعوا العبيد والدواب ، وبددوا المال على موائد الميسر . ثم استدانوا وتراكمت ديونهم حتى ساء حالهم ، وأظلم مصيرهم .

جاء الحزيرة فى هذه الأثناء نبأ بأن الهنود الحمر أغاروا على مستعمرة " قلعة الذهب " القائمة على ساحل فنزويلا بالقرب من برزح بناما ، وأن المستعمرين الاسبانيين هناك فى حرج . فأقلق النبأ بال غنى من أغنياء الجزيرة يدعى" مارتن انسيسو " كان قد سخر جل ماله فى أعمال التنقيب عن التبر فى تلك المستعمرة . فأخذ يدعو مواطنيه إلى التطوع لنجدتها . ووجد المدينون فى إجابة دعوته فرصة سانحة للخلاص من ديونهم ، فقابلوها بإغتباط وترحاب . ولكن الدائنين أبوا من ناحيتهم أن يفلت حقهم من أيديهم وهم لا ينبسون  فاستنجدوا بالحاكم الذى أمر بمنع كل مدين من مغادرة البلد وبإبعاد السفينة

التى أعدها " انسيسو " لحملته من الشاطئ     وضرب نطاق من الجند حولها لا يجتازه إلا من يحمل إذنا بالرحيل .

وامتلأت السفينة بالمتطوعين . وأقلعت متهادية تشيعها نظرات أولئك المدينين المتخلفين ممن يؤثرون الموت على العمل . وما خرجت إلى عرض البحر حتى لفت نظر المسافرين كلب ضخم يحوم حول صندوق كبير وينبح نباحا عاليا . ولم يلبث غطاء الصندوق أن انفتح . ووثب إلى خارجه رجل ما نصب قامته حتى بدا فارسا عملاقا مدججا بالسلاح .

بهذه الحيلة المسرحية استطاع "فسكو نونيز دى بالبيو " أن يهرب من " هاييتى " ويفلت من قبضة دائنيه . ولكن "انسيسو "رئيس الحملة  ، والسيد المطاع على ظهر السفينة ، والشريف المتمسك بأصول الحق والعدل ، لم يرض عن هروب ذلك المحتال . وأقسم أن ينزله إلى أول شاطئ يظهر له ، سواءا  كان شاطئا قفرا بلقما أم مأهولا بالوحوش الضارية .

ولكن وقعت إذ ذاك مصادفة من المصادفات النادرة ، إذ ظهرت سفينة مقبلة من بعيد على ندرة السفن التى تمخر هذا المحيط المترامى الأطراف . فكيف تقابلت السفينتان ؟ ! ولم تلبث المصادفة أن ازدادت غرابة . فقد ظهر عند التقائهما أن القادمين هم بقية الأحياء من قطان "قلعة الذهب " . وما وقف "أنسيسو " على أخبارهم حتى تزعزعت آماله . فالمستعمرة محيت  من الوجود وقد هرب حاكمها " أوجيدا " فولى فى أثره رعيته . وأقلعوا فى سفينتين غرقت إحداهما بمن فيها . وها هى الأخرى لاتحمل غير أربعة وثلاثين مهاجرا يقودهم رجل قدر له أن يصل فيما بعد إلى ذروة المجد . هو "فرنسيسكو بيزارو " .

عبثا حاول " أنسيسو" المنكود الطالع أن يقنع أتباعه بمواصلة السفر إلى "سان سبستيان " . وأن يزين للفارين العودة إلى بلدهم . فقد رفض أولئك وهؤلاء أن يعرضوا صدورهم لسهام الهنود الحمر المسمومة . ورؤوسهم لسلخ

جلدها بينما هم على قيد الحياة   وكان الرأى الغالب أن يعود الجميع إلى جزيرة " هابيتى " . ولكن كيف يعود " فاسكو دى بالبيو " إلى الجزيرة ؟  كيف يواجه واثنيه أو يتعرض لحنق الحاكم العاتى ؟ انبرى عندئذ للقوم . وعرض عليهم اقتراحا جديدا . زعم أنه طاف حول ساحل أمريكا الوسطى مع الرحالة " باستيداس " فألم بأحوال شتى البلاد الواقعة عليه . وعرف فيما عرف ناحية بالقرب من برزح بناما تدعى " أريان " ، نقطتها قبيلة هندية وديعة مسالمة . ويكثر فيها الذهب . فماذا على القوم لو قصدوا إليها ، وجربوا حظهم هناك ؟ ولم يلبث أن أمال القوم إلى رأيه . ودارت دفتا السفينتين إلى برزخ بناما .

أسسوا مستعمرة أطلقوا عليها ذلك الاسم الدال على التقوى والورع " سانتا ماريا دل داريان " . وحاول أنسيسو أن يوطد فيها الأمن والنظام . وجلس إلى مكتبه يصدر الأمر تلو الأمر ، كأنما هو حاكم مقاطعة متحضرة فى إسبانيا . وكان مما حذره شراء الذهب من أهالى البلد الوطنيين زعم أن شراءه من حق ملك إسبانيا وحده . أمر هيهات أن يطيعه مثل أولئك الصعاليك المغامرين . وقد عانى من عصيان " بالبيو " ما أورثه أصدق الندم على إبقائه عليه وفيما كان داخل الصندوق فى عرض البحر . وانحاز القوم إلى رجل السيف دون رجل القلم . ولم يلبث ذلك الهارب المتخفى أن صار حاكم المستعمرة الفعلى .

ووصلت أنباء هذه الابالة الجديدة إلى مسامع ملك الأسبان . فولى عليها حاكما يدعي " نيكوسا " ليدخل شيئا من النظام على الفوضية الفاشية فيها . ولكن الثائر بالبيو لم يأذن له حتى بالنزول إلى البر . وأعاده أدراجه إلى إسبانيا ، ولازم الحظ العاثر ذلك الحاكم الفاشل فغرقت به سفينته وهو فى طريق أوبته . وسرعان ما أدرك بالبيو خطورة دفعته . وما علم بموت مبعوث مليكه حتى خشى مغبة تصرفه . فهو مسئول من غير شك عن غرقه ؛ ورغم بعد الشقة بينه

وبين إسبانيا ، فإن العقاب لاحق به آجلا إن لم يلحقه عاجلا . ولكن هذا البعد أفسح له المجال ليتدبر أمره .

وبلغ من حاجة عرش إسبانيا إلى المال فى ذلك العهد أن أباح فى سبيل الحصول عليه ما لا يباح ، وافتقر من أجله كبريات الذنوب . فنشط بالبيو إلى جمع الذهب من الوطنيين . وقسا عليهم فى جمعه ، وشن عليهم الغارات بمعاونة بيتراريو ( قائد السفينة التى كانت تقل فلول قطان سان سبستيان ) غير عابئ بحسن ضيافتهم . وجعل يختطف كل ما وصلت إليه يده من ذلك المعدن . ويأسر كبار الزعماء . ويغالى فى تقدير فديتهم . حتى وقع فى أسره أمير من أمرائهم يدعى " كاربتا " عجز قومه عن أداء فديته ، فهم باعدامه . ولكنه عفا عنه قبيل تنفيذ حكمه حتى يكسب عطف الأهلين . وقد أصاب فى تقديره وحفظ الأمير له الجميل فزوجه من ابنته . ومن الغريب أن يظل هذا الأوربى المستهتر مخلصا للفتاة الهندية . وبقى لها خدينا وفيا حتى أيامه الأخيرة .

ومكنته هذه الظروف الموفقة من مد سلطانه على القبائل المجاورة له . وعظم شأنه بينها حتى وصل صيته إلى أمير من أمرائها " كاسيك كوماجر " فبعث إليه يدعوه وأصحابه ، وأحسن وفادتهم ، وبالغ فى إجلالهم وإكبارهم ، وقدم لهم فيما قدم من هدايا صحفة بها كومة من التبر الخالص وما كان أشد دهشته إذ رأى السادة البيض الأجلاء ينسون وقارهم . ويطيش صوابهم . ويفيض حياؤهم فينقضون على الصحفة ينهبون ما حوته .

وبعد أن أقتسموا الغنيمة وهدأ روعهم ، أدلى لهم الأمير بهذا البيان : " عجيب ما رأيته من اهتمامكم بهذا المعدن الاصفر ! فما دمتم على هذه الرغبة فى التزود منه فوراءكم  بلاد يصنع أمراؤها منه أوانيهم . هناك تحصلون على كفايتكم منه . ولا يحول بينكم وبينها غير هذه الفيافى الغربية . فمتى قطعتموها - وهى لا تستغرق إلا مشى بضعة أيام - ترامى أمامكم بحر خضم تقع بلاد

الذهب على شاطئه الجنوبى " .

وأنصت بالبيو إلى بيان الأمير مرهف السمع خفاق الصدر . فقد وضح له طريق " ألدرادو " . وسهل عليه تحقيق الأمانى التى طافت بخلده وخلد غيره من رواد القارة الجديدة . أمان لو حققها لضمن إلى جانب تخليد ذكره فى صفحة التاريخ ، إنقاذ عنقه من حبل المشنقة .

لجأ إلى صديقين من أوفى خلصائه . وطلب إليهما السفر إلى اسبانيا ، وعرض قضيته هناك ، والدفاع عنها لدى الحاشية الملكية ، والاشادة بما أداه من أعمال جليلة فى خدمة التاج ، وبسط المشروع الخطير الذى أزمع إنقاذه ، ذلك المشروع الذى أعجز كولومبوس من قبل . فاذا أمدته الدولة بألف فارس مدجج ، استطاع أن يميط الحجاب الكثيف عن بلاد الذهب ، وأن يحقق لاسبانيا أمنيتها . .

استراح إلى إبحار صديقيه ، وعاش فترة من الزمان فى اطمئنان ، يحلم بالمجد والأمان . ولكن أحد رسوليه عاد إليه بأنباء سيئة . أخبره بأن " انسيسو " الذى هرب من المستعمرة ، وصل إلى اسبانيا ونسب إليه مختلف التهم هناك ، من عبث بالقانون وثورة على النظم ، إلى هضم حقوق الدولة واستلاب أموالها . وقد رفع الأمر إلى القضاء ودعمه بالأدلة والأسانيد . وإن الحكم فيه يوشك أن يصدر . واضطرب بالبيو بعد فترة الهدوء . وهاله إحداق الخطر به . ولم يبق له إلا الخيار بين أمرين : فإما أن يقتحم الفيافى والأدغال غير معتمد إلا على أشياعه حتى يحقق أمنية اسبانيا وينال صفحها ، أو ينتظر الاصفاد والأغلال مذعنا . . . . إما أن يجازف بحياته فى سبيل المجد والخلاص . أو يقاد مستسلما إلى ساحة الاعدام .

أخذ يبث الدعابة بين أنداده المغامرين . ويوقظ فيهم شتى الرغبات . فها هو ساحل الذهب وراءهم يتوهج تحت أشعة الشمس ، وليس أمره ببعيد المنال ، ليس بينهم وبينه غير مسيرة بضع ليال وأيام ، تتحقق بعدها أعجب

الأوهام . سوف يصيب تابعوه الغنى والجاه . ويقدمون لوطنهم ومليكهم أثمن هدية فى الحياة . ويتسامون من صفوف العامة إلى مراتب الأبطال .

ولم يطل ترويجه للرحلة حتى كاد ينسى قصده الأول منها . إذ وقع فى حبائل دعايته ، وهام بالمجد الذى أراد تزيينه لغيره . وسرت حرارة إخلاصه إلى قلوب مستمعيه ، وأصابهم بعدوى هواه . وعرف كيف يزيدهم فورة وحماسة ، إذ أخذ يحدثهم عما يكتنف رحيلهم من مخاطر مجهولة وأهوال غير متوقعة . فما كان شئ أحب إلى نفوسهم من ركوب المخاطر والأهوال ، فهتفوا للمشروع وأيدوه .

أخذ للسفر إلى المجهول أهبته . ولم يكن - وهو الرجل الخشن - ولا صحبه وهم الخمص المتقشفون . فى حاجة إلى مؤن وفيرة . أو إلى أدوات لهو وراحة . وتم الاستعداد فى فترة وجيزة . وجاء نسيبه الهندى يعدد من الأدلاء والخدم . وفى صبيحة أول سبتمبر ١٥١٣ اجتمع حوله مائة وتسعون مجاهدا وطنوا النفس على الموت أو الوصول إلى هدفهم . وتحرك هذا الركب صوب الغرب ، وابتدأ مسيره التاريخى المجيد فى موكب منفرد الجلال . وهكذا حلق " فاسكونونيز دي بالبيو " . اللص والبطل ، قاطع الطريق والرحالة الجليل ، فى مراقى الخلود ، لينجو بجلده من القصاص

قد تبهر الانسان أمانيه فيستخف بالصعاب القائمة دونها . ولكن ابتلاء الصعاب يختلف عن مجرد تصورها . وقد استهان أشياع بالبيو بوعثاء السفر وأخطاره . بل هزأوا بالموت وقتما كانوا فى نشوة أحلامهم ؛ ولكنهم عانوا فى رحلتهم من الآلام والاسقام ما لم يتوقعوه ، وما لا يدركه إلا مكابدوه . ساروا فى ذلك الاقليم الاستوائى فوق رمال تنقد حرارة . وأخذ النقع الملتهب يلفح جلودهم . وما توغلوا فى جوف ذلك الجحيم المستمر حتى تصاعدت من شقوق الارض تلك الأبخرة

الخانقة التى أجهزت على آلاف من العمال الذين قاموا فى نفس المكان بعد ذلك العهد بثلاثة قرون بحفر قناة بناما . ثم اعترضت طريقهم غابات كثيفة ذات أشجار باسقة . تهدلت أغصانها وتوشجنت  فأخذوا يحطمون الأفرع الناتئة بالفؤوس ليشقوا بينها طريقهم . وساروا الواحد تلو الآخر فى صف طويل . وفى قبضة كل منهم سلاحه . يضغط عليه كلما شعر بحركة غير عادية . ويدور بعينيه فى نواحى الطريق حتى لا يفاجئه الهنود ويأخذوه على غرة . وكم سدت الأنهار عليهم الطرق فاجتازوها سباحة . ثم تبدات الأنهار بسيول جارفة اضطروا إلى إعداد مراكب من الأغصان لعبورها . وطن طنين الهوام التى لم تهدأ عنهم ولم تشبع من مص دمائهم . حتى تورمت من لسعها وجوههم ومزقت أشواك الشجر ثيابهم ، وأدمت أجسامهم ، وامتزج دمهم المراق بعرقهم المتصبب . ووتر ارتقاب الخطر أعصابهم . وضعضع الجوع والعطش قواهم . ونال من جلدهم وشجاعتهم . ولكنهم والوا المسير رغم وهنهم وإعيائهم . ثم صك أسماعهم دوى مفزع أحذ يتوالى ، فاذا به الرعد يتخلله البرق . وإذا بصوب مدرار يغمر أديم الأرض كأنما هو الطوفان . وأعقب الحر المميت الرى المقيت . وما تطرق العجز والضعف إلى بعض الأجسام حتى دب فى أثره المرض ، وما مر أسبوع على هذه الحال حتى عجز أكثر من نصف القوم عن مواصلة السير . فلم يعبأ بالبيو بمن سقط منهم فى الطريق ومن تخلف . وأمر القادرين على المسير بالتقدم زاعما أنه فى حاجة إلى صفوة الأشداء دون غيرهم لتحقيق مشروعه الخطير . فهم وحدهم الجديرون بالعز المنتظر .

ووصلوا إلى نهاية الغابات . وانبسطت أمامهم الـسهوب الشاسعة ، وانكشفت لهم السماء فأصلتهم الشمس الملتهبة نارها  وعادوا يلهثون من الحر وتقلصت شفاههم من العطش . وقطر العرق من أذقانهم   ولم يبق من بعثة بالبيو غير سبعة وستين رجلا خائرى العزيمة ، ما كادوا

يبلغون نهاية مطافهم حتى ظهر لهم الهنود الخمر من وراء الهضاب القائمة حولهم وانقضوا عليهم . ولكن الأسبان سبق لهم أن مرنوا على مقاتلة الهنود . فما أشعلوا لهم البارود كعادتهم ، وما أطلقوا قذائفهم النارية حتى ولى هؤلاء الأدبار . ولم يكتف بالبيو بهذا النصر السهل . وإنما أخذ فى تقتيل الأسرى ليوقع الرعب فى قلوب تلك القبائل المناوئة . ولم يبق على بقيتهم الباقية إلا بعد أن علم منها أن المحيط المنشود متبسط وراء الجبل القائم أمامهم .

تجددت آمال القوم ، وانتعشت نفوسهم ، وخفت أبدانهم ، واقتحموا الجبل العالى غير مبالين بمشقة الصعود إليه . وطال عليهم الطريق إذ قربت الغاية واشتدت اللهفة على بلوغها . وقبل أن يصلوا إلى القمة ببضع خطوات أمرهم زعيمهم بالوقوف ، حتى ينفرد دونهم برؤية المحيط قبل غيره . وصعد إلى القمة معلق الأنفاس ، مضطرب الحواس ، مأخوذا بجلال الساعة التاريخية . ورأى المحيط الهادي ساجيا أمامه . تستريح فى فسحته النفس . وينطلق فى سرمديته الطرف . وبدا فى سجوة كمرآة هائلة تعكس لألاء الشمس وألوان السحب . وملأ صدره الزهو إذ خال أنه أول أوربى ، بل أو متحضر انعكس هذا العباب الزاخر فى حدقة عينه . وأخذ يشبع ناظرية ونفسه من المنظر الباهر الخلاب ثم أهاب بصحبه فتبعوه ليتملوا هم أيضا برؤية ذلك المحيط الذى كان يعد إلى أمس القريب أسطورة من نسج الخيال .

ووقف بالبيو فى صحبه خطيبا يذكر العمل الجليل الذى ثم بفضل إيمانهم وولائهم وصدق عزيمتهم . وأشار عليهم بالتوجه إلى المولى عن وجل بالشكر على نعمته الجلى . وما انتهى من خطبته حتى اتسعت حدقات النظارة من الوطنيين دهشة وعجبا ، إذ سمعوا صوت أولئك السادة الأجش يتنغم بنشيد دينى . ويتعالى طبقة بعد طبقة حتى يبلغ بالمرتلين كل مبلغ من الحمية والطرب . وجئ بعد الترتيل بقلم ودواة وورقة حملها كاتب البعثة

طوال الرحلة لتسجيل الحادث الجلل . وأخذ فى تسطير الوثيقة التى ظلت على مر العصور شاهدا بما جرى فى تلك الآناء الفريدة . ثم أختتمها بهذه العبارة : " وعلى السادة الفرسان الحاضرين فى هذه الآونة التى انكشف فيها المحيط الشرقى أن يشهدوا بأن " السيد الفارس فاسكو نونيز دى بالبيو مأمور صاحب الجلالة الملك كان أول من رأى تلك المياه المجهولة ثم أراها بعد ذلك لبقية الشهود .

وكان عليهم أن يقطعوا شوطا آخر للوصول إلى الشاطئ . فانقسموا إلى ثلاث فرق اختار كل منها طريقا لمعرفة أى الطرق أسهل وأقصر . وأنحدروا من قمة الجبل إلى سفحه . ووصل الفريق الذى يقوده " الونزو مارتان " إلى البحر قبل غيره . وقطع الشوط فى يومين كاملين . ومما يدل على تعطش أولئك الأفاقين جوابى الأفاق إلى العظمة والمجد إصرار " ألونزو " على تسجيل واقعته فى الوثيقة التاريخية . والنص على أنه " أول من غمس رجليه ويديه فى المياه المجهولة ، وأول من ذاقها ووجدها ملحة ، فشكر الله على آلائه " ولم يهدأ باله حتى ضمن لنفسه هذه الذرة من خلود الذكر .

ولم يشأ بالبيو أن يختتم مغامرته الموفقة من غير أن يقوم بتمثيل فصل مسرحى أخير . فجمع صحبه ووقف معهم على الشاطئ فى الموضع الذى تنهزم عنده الأمواج وترتد . وزعم أن الامواج تسعى إلى مواطئ أقدامه لتلئمها وتتمسح بها . ولما وثق من أن البحر يذعن له ويدعوه إليه تقدم فى الماء حاملا اللواء الاسبانى فى يمينه ومهنده فى يساره . حتى إذا وصل الماء إلى نطاقه . وقف وخفض العلم فى كل جهة من الجهات الأربع ، وأعلن أن كافة هذه الأراضى والأمواء ، هذه الشواطئ والجزر صارت ملك العرش الأسبابى ، وأنه يضع يده عليها باسم تلك السدة ، ويقسم هو ومن معه على الدفاع عن حق العرش فيها ما بقى فيهم دماء . . وبذلك تمت مهمة كشف المحيط .

اشترك في نشرتنا البريدية