الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 589الرجوع إلى "الثقافة"

الجامعات البريطانية

Share

كتب السير أرنست باركر رسالة صغيرة عن الجامعات البريطانية " ظهرت في سلسلة " الحياة والفكر في بريطانيا " تناول بالبحث فيها الجامعات من حيث نشأتها وإدارتها ومناهج الدراسة بها ، ثم وظيفة الجامعات في النظام الدمقراطي وما تستطيع أن تساهم به في تقدم ركب الحضارة ، وتحدث عن حياة الطلاب في الجامعات البريطانية ، ثم عن بعض المسائل الهامة التي ستواجهها الجامعات في مستقبلها .

ولقد شغل الكاتب مناصب جامعية مختلفة ؛ فكان محاضرا في التاريخ بجامعة أكسفورد ، وعميدا لكلية الملك بلندن ، ثم أستاذا للعلوم السياسية في جامعة كمبردج ، كما كان عضوا في الهيئة الاستشارية للتعليم ما بين عامي ١٩٢٠ ١٩٢٨ . وإذا كان البحث قد كتب عن الجامعات البريطانية فإنه قد تناول مسائل عامة نستطيع تطبيقها على جامعاتنا المصرية في هذا الوقت الذي تتصارع فيه الآراء ، فيطالب البعض بفتح أبواب الجامعة على مصراعيها لأن العلم - حتى الجامعي - حق للفرد كالماء والهواء ( مع أن الأغلبية الساحقة في مصر لم تستطع بعد أن تحصل على الماء النظيف ولا على الهواء النقي ) بينما يضج رجال الجامعة بالشكوى من كثرة الطلاب ويعلنون أن المستوي العلمي والخلقي في الجامعة ينحط شيئا فشيئا . ومنذ أيام طالب نقيب المحامين بإغلاق جدول المحامين ، أو بلغة اخرى بإغلاق كلية الحقوق بضعة أعوام

لذلك سنحاول أن نعرض بعض ما تناوله السير أرنست باركر ، قال : منذ حوالي قرن من الزمان في نهاية حروب نابليون لم يكن في انجلترا سوى جامعتين أكسفورد وكامبردج . أما اليوم فهناك إحدى عشرة جامعة معظمها

أنشئ في القرن العشرين . وقد يبدو عجيبا أنه في بلد مثل انجلترا بحضارتها وتقاليدها يكون معظم الجامعات حديث النشأة ، لكن عجبنا يزول إذا ما أدركنا أنه قبل أن ينتشر التعليم الجامعي ، يجب أن يصل التعليم العام إلى درجة واسعة من الانتشار . وهناك ظاهرة خاصة في الجامعات البريطانية ، وهي أنها مؤسسات أهلية لا حكومية ، رغم أنها أنشئت بأوامر ملكية ؛ لكن هذا من الوجهة القانونية فحسب ، والحقيقة أنها جمعيات حرة لها إدارتها الخاصة وماليتها ، وحقها المطلق في اختيار هيئة التدريس بها . وإذا كانت الحكومة والسلطات المحلية تقدم لها بعض العون المالي فإنها لا تتداخل لقاء ذلك في شئونها الخاصة .

وقد بلغ عدد الطلبة المقيدين في الجامعات البريطانية في بداية الحرب الماضية خمسين ألفا من مجموع السكان البالغ عددهم ٤٥ مليونا ، أى أنه في كل تسعمائة من السكان طالب جامعي واحد ، في حين أن النسبة في أمريكا تبلغ ١ % . ومن مجموع هؤلاء الطلبة يؤلف الرجال ثلاثة أرباع والنساء الربع ، وهم من طبقات مختلفة ، ومن الخطأ أن نظن أن الطلبة - حتى في اكسفورد وكمبردج اللتين اشتهرنا بأنهما جامعتان أرستقراطيتان - كلهم أو معظمهم من الطبقة العليا فإلى نهاية العام الجامعي ١٩٣٤-١٩٣٥ كان حوالى ٤٢ % من طلبة الجامعات البريطانية " طلبة معانين " أي أنهم يمنحون منحا مالية ليستطيعوا إتمام دراستهم . بل إنه في جامعتي أكسفورد وكمبردح كانت هذه النسبة فوق المعدل بقليل أي ٤٣.٤ %

وربع هؤلاء الطلاب يقيمون داخل الكليات والباقي في الخارج ، كما أن فيهم ثلاثة آلاف طالب من الممتلكات البريطانية والبلدان الأجنبية .

ونستطيع أن نقسم الجامعات البريطانية إلى أربعة أقسام : أولها جامعة لندن كوحدة قائمة بذاتها ، والقسم الثاني يضم الجامعتين القديمتين أكسفورد وكامبردج ، أما القسم الثالث فيضم الجامعات المحلية الحديثة مثل برمنجهام ومانشستر ، والقسم الأخير هو جامعات اسكتلندا .

وتضم جامعة لندن ١٣ ألفا من الطلاب المقيدين . وهؤلاء تمحنهم جامعة لندن ، لكنهم يتلقون دراستهم في كليات ومدارس بعضها أقدم من الجامعة نفسها . وكثير منها يستحق أن يكون جامعة بذاتها مثل " الكلية الجامعة " التى أنشئت سنة ١٨٢٦ قبل قيام جامعة لندن والتي تضم ألفين من الطلاب ، ومثل " كلية الملك " . وبعضها مؤسسات خاصة كالمدارس الطبية ومعاهد التربية والكلية الإمبراطورية للعلوم والهندسة . ومن هذه المؤسسات ثلاث خاصة بالنساء .

أما جامعتا أكسفورد وكامبردج فتشبهان جامعة لندن من حيث التكوين من كليات ، لكننا نجد أنه بينما كليات ومدارس جامعة لندن هي اولا معاهد للتعليم عن طريق المحاضرات ويحضرها الطلبة بالنهار ، فإن كليات ومدارس الجامعتين المعتمدتين هي أولا معاهد للاقامة تعتمد على طريقة حلقات البحث التي تجعل كل فريق من الطلبة على صلة مباشرة بمعلمهم . ولهذا السبب كانت هذه الكليات أصغر من مثيلاتها في جامعة لندن ؛ فمتوسط عدد طلاب الكلية في كامبردج ٢٧٠ طالبا ، وفي أكسفورد ١٧٠ طالبا فقط . وفي كل من الجامعتين القديمتين عشرون كلية ، وتمتازان باجتذاب أحسن الأساتذة وأفضل الطلاب في البلاد ، كما انهما تضمان أبناء الطبقات الأرستقراطية .

والجامعات الإقليمية السبع مختلف عن الجامعات السابقة في أنها جامعات موحدة تضم في صعيد واحد كل المدرسين والطلاب ، ولما كانت قائمة في مراكز كبيرة للصناعة مثل برمنجهام ولفربول وليدز ، فإن هذا يجعلها أسهل اتصالا بالحياة وبالبيئة المحيطة بها ومشاكلها . والجامعات الاسكتلندية

الأربع مثل الجامعات الإقليمية الانجليزية ، إلا أن جامعة أدنبرة تضم عددا كبيرا من الطلاب الذين يقيمون بها ، وتهتم هذه الجامعات بأن تقدم لطلابها ثقافة فكرية عامة أكثر مما تهتم بدراسات خاصة ، إلا أن جامعتي أدنبرة وجلاسجو وأساتذتهما قد تميزوا بالتعمق في دراسة الأدب الإنجليزي ، كما أن أساتذة الفلسفة مشهورين قد أضاءوا تاريخ هاتين الجامعتين .

وإلى جانب الجامعات فإن بعض الهيئات الأخرى تقدم دراسة في مستوى الجامعات ، ومنها " الكليات الجامعة " في توتنجهام واكستر وساوتهامبتون ، وهذه تعد طلابها على يد هيئة تدريس في مستوى جامعي ، لكنها لا تستطيع أن تمنحهم درجات ، لذا يتقدمون كطلاب خارجين لامتحانات جامعة لندن ، كما أن هناك كليات صناعية وزراعية ومدارس للمعلمين تخرج معلمي المدارس الابتدائية بعد دراسة عامين ، وهذه بعضها مستقل عن الجامعات تماما ، وبعضها له بعض الصلات بها من حيث إشراف أساتذة الجامعات على التدريس والامتحانات بها .

ولقد سبق القول بأن الجامعات البريطانية مستقلة لا تخضع لإشراف وزارة المعارف ولا سلطات التعليم المحلية . فجامعتا أكسفورد وكامبردج يدبرهما أعضاؤهما ، وفي الجامعات الأخرى مجلس يضم ممثلين للأساتذة مع أعضاء من الخارج ، لكن هناك مجلس أصغر يتكون من الأساتذة وغيرهم من المدرسين يختص بالنظر في الأمور الجامعية البحتة ويقدم النصح والإرشاد للمجلس الأعلى .

والجامعات حرة في مالها أيضا ، وقد بلغ دخلها قبل الحرب ما يزيد على ستة ملايين من الجنيهات ، منها مليون مصدره الهبات والتبرعات ، ومليونان يدفعهما الطلاب في الدراسة والامتحانات ، وحوالي مليونين من الهبات البرلمانية ، والباقي هبات من سلطات التعليم المحلية . وطريقة التدريس في الجامعات البريطانية ماتزال في الأغلب هي طريقة المحاضرات إلا أن جامعتي اكسفورد

وكامبردج بنظام الإقامة في كلياتهما وبالعدد الكبير من " الزملاء " الذين يقيمون في الكليات كمرشدين ومعلمين تقدمان منذ أمد طويل طريقة الإرشاد في حلقات البحث إلى جانب المحاضرات ؛ ففي كل أسبوع يحضر طالب الآداب إلى أستاذه مثلا رسالة في موضوع خاص متصل بدراسته ويناقشها معه ساعة أو أكثر في حجرته ، وهذا النظام ينتشر الآن في الجامعات الأخرى الحديثة ، لكنه يلاقي الصعاب . فتحاول هذه أن تطبق هذا النظام على مجموعات صغيرة من الطلاب . ولا شك أن لهذا النظام فائدة ظاهرة ، فإن اتصال الطالب بالمدرس لا يؤثر في دراسته فحسب ، بل في خلقه أيضا ، وهذا جانب لا تغفل الجامعات عن أهميته .

وينتهي مقرر المحاضرات وطرق الإرشاد الآخرى للطالب بامتحان يأتي في العادة في نهاية ثلاثة أعوام ، وشرف على الامتحانات في كل جامعة على حدة لجنة من الممتحنين لكل مادة ، وهذه اللجنة تضم ممتحنين داخليين ، وهم الذين يقومون بتدريس هذه المادة في هذه الجامعة ، ثم ممتحنين خارجيين من جامعات اخرى ، ويمنح الطلاب درجة البكالوريوس ، وهي نوعان : درجة المشرف والدرجة العادية ؛ فالجامعات تعطي درجة الشرف في نهاية دراسة

متعمقة في مقرر خاص ؛ أما الدرجة العادية فتعطى في نهاية دراسة عامة أقل تعمقا ، وينجح كل الطلاب الذين دخلوا الجامعة للحصول على درجة في الحصول عليها ، وفي هذا العوض عن قلة عدد الطلاب في الجامعات البريطانية إذا قورن بعددهم في الجامعات الأمريكية ؛ ففي نشرة حديثة تبين أن عدد الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات الأمريكية في العام ثلاثمائة ألف ، بينما عدد الذين يتخرجون في العام لا يزيد عن مائة وخمسة وستين ألفا ، بينما في الجامعات البريطانية يلتحق في العام خمسة عشر ألفا يتخرجون كلهم تقريبا .

ومعظم الطلاب يغادرون الجامعة بعد حصولهم على البكالوريوس ، إلا القليل الذي يتابع دراسته ، إما للحصول على دبلوم تخصص عالٍ ، أو للقيام ببعض الأبحاث للحصول على الدكتوراه في الفلسفة ، إلا أن هؤلاء قلة ، ولم تنشأ درجة الدكتوراه إلا في نهاية الحرب العظمي الأولى سنة ١٩١٨ ؛ ومن عدد طلاب الجامعات البريطانية البالغ عددهم ٥٠ ألفا كان عدد طلاب الدراسات العليا لا يزيد على ثلاثة آلاف .

ما هو موقف الجامعات البريطانية في ظل النظام الديمقراطي ؟ إن نظام الإعانات الجامعية طريق لا كتشاف وتعليم طائفة من مختلف طبقات المجتمع ، ففي سن الحادية عشرة يستطيع الولد أو البنت في المدرسة الابتدائية أن يفوز بمنحة تعطيه الحق في الدراسة في المدارس الثانوية ، وبهذا يتاح لكثير من رجال الطبقة العاملة أن يرسلوا أبناءهم إلى هذه الدار ، ثم يستطيع الطالب أو الطالبة في سن الثامنة عشرة أن يفوز بإعانة تتيح له الالتحاق بالجامعة ، وهذه الإعانات تقدم بعضها الجامعات والكليات ، وبعضها الحكومة ؛ وهذا يفسر لنا أن نصف طلبة الجامعات البريطانية تقريبا طلبة معانون . وتتبع البلاد الآخرى طرقا مختلفة لكي تتيح لبعض الطلبة الفقراء الأذكياء أن يتمتعوا بفوائد ومزايا الدراسة الجامعية . ففي الجامعات الأمريكية

طريقة شائعة ، هي أن يعمل الطلاب بعض الوقت لكسب نفقاتهم ، فبعضهم يعمل سائق سيارة ، وبعضهم بستانيا ، وبعضهم بائعا ، وهي طريقة تعلم الاعتماد على النفس ، لكنها للأسف تضيع على الطالب وقتا يستطيع أن ينفقه في دراساته ؛ وفي جامعات اسكندناوة تقدم بعض المعارف للطلاب أقساطا شهرية يردونها بعد تخرجهم ، وهذه أيضا تحفظ كرامة الطلاب لكنها تعتمد على التضييق على الطالب في مستقبله لقاء ما تمنحه له في حاضره .

ما هي الديمقراطية في التعليم ؟ هي في رأيي أن يكون لكل مؤسسة علمية أكبر قدر ممكن من الحرية ، فتكون المدارس حرة على قدر المستطاع . أما الجامعات فيجب أن تكون لها كل الحرية ، والجامعات البريطانية ، وهي مؤسسات مستقلة تحكم نفسها بنفسها وتتصرف وحدها في مالها وأمورها ، تحقق هذه المثل الديمقراطية ، كما تحققها حياة الطلاب في الجامعات . وحقا أن هناك مراقبين يطوفون شوارع اكسفورد وكمبردج في المساء ليراقبوا الطلاب في سلوكهم وأخلاقهم ، لكن الديمقراطية لا يمكن أن تتعارض مع نظام معقول يحد من حرية الشباب الطائشة ، أما ما عدا ذلك ، فللطلاب الحق في إقامة الجمعيات وتنظيم المناظرات العامة في كل الموضوعات التي تحت الشمس من سياسية واقتصادية ، وغير ذلك .

وفي رأينا أن واجب الجامعة الحديثة نحو المجتمع الديمقراطي الحديث ينحصر في ثلاثة أمور : أولها اكتشاف وتعليم عدد كاف من الطلبة من مختلف الأوساط والطبقات . والثاني أن نهيء للمجتمع مستوي من الثقافة يجعله نصيرا للحق ذواقا للفن والجمال محبا للعلم بكل ما تحمل كلمة العلم من معان . والثالث أن تساهم ما وسعها في تقدم المعرفة ، وأن تشجع بكل قواها البحوث والدراسات . وما أشك في أن الجامعات البريطانية تبذل غاية جهدها في هذا السبيل .

اشترك في نشرتنا البريدية