الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد التاسع والعشرونالرجوع إلى "الرسالة"

الجمال الطبيعى والفنى

Share

للطبيعة جمالها وللفن جماله، وقد بذلت مساع كثيرة لإيضاح  الفرق بين الجمال الفنى والجمال الطبيعى؛ لكن نظرية (سيجنرجروس ( Signor Groce  كثيرة الأنصار اليوم، وهي تقول: ( إن الطبيعة تمد الفنان بالمواد الأولية فقط، وإن الشعور بجمال الطبيعة  هو مبدأ التدرج الفنى، وأن عقل الفنان موجد الترتيب والتناسب  فى الطبيعة المهوشة، وأن الناس جميعهم قادرون على إيجاد هذا  الترتيب ولكن بدرجة محدودة. أما الفنان فيظهر هما أكثر جمالا وكمالا،  الفنان قوى الاحساس يستطيع أن يصنع ( Make ) الجمال الذى يحسه،  الاحساس جزء من الصنعة

ويقول جروس: (إذا كان الفنان يصنع جمال الطبيعة  بشعوره به، وإذا كان من الممكن أن يتولد هذا الجمال بعمل عقله،  يكون جمال الطبيعة حينئذ من نفس الجمال الذى يظهر فى فنه، ثم  إذا ظهر لنا أن فن الفنان يختلف عن جمال الطبيعة فما ذلك إلا  لأننا أنفسنا لم ننظر جمال الطبيعة كما نظره الفنان. ولأننا لم نحول  كل التهويش إلى ترتيب. واعلم أن هذا الاختلاف بين عمل الفن  وعمل الطبيعة ليس اختلاف نوع بل اختلاف قدر، وانه  لا اختلاف فى الحقيقة بين جمال الطبيعة وجمال الفن لا فى النوع  ولا فى القدر. ان ما يصنعه الفنان يراه، وما يراه يصنعه، كل  الجمال فنى، وان حديثك عن جمال طبيعى حديث خرافة ) .

رغما عن (جروس) وكل حذقه وما فى نظريته المتطرفة من  حق لا يمكن أن نعتقد أننا نصنع الجمال حينما نراه، وأن الفنان  يصنعه حينما يحسه، ولن نعتقد أن الجمال الذى يصنعه هو من نفس  طبيعة الجمال الذى شعر به، ولا هو - مثلنا - يقدر الجمال الذى  يحسه حق قدره لأنه يعلم إن لابد له من صنعه، وآنه شئ مستقل  عن نفسه. الفن ليس أكثر من تأثر عقل الفنان بجمال الطبيعة، وعلى قدر  ما فى العمل الفني من عاطفة وإحساس يكون ما فيه من جمال.

اذا عرف الفنان أن الجمال الذى يحسه هو نتاج عقله، لا  يستطيع بعدها أن يقدره حق قدره، وانه إذا تمسك بنظرية (جروس)  خرج عن كونه فناناً وأصبح ذا صفة أخرى ، لا شئ يقتل الفن مثل  الجرى وراء إيجاد جمال من نفس طبيعة الجمال الذى نراه فى الطبيعة.

نشاهد فى جمال الطبيعة صنعة Work Manships غاية فى الإتقان ، وأنها كذلك غاية فى الإتقان، لأنه لا يوجد فى الحقيقة  ثمة صنعة، الأشياء الطبيعية لم تصنع وإنما ولدت، أعمال الفن التى  صنعت ، توجد فروق جوهرية بين الأشياء التى صنعت والاشياء  التى ولدت، ثم بين جمال هذه وجمال تلك.

لابد وان يظهر فى كل من الأعمال الفنية جهد الصنعة ونقصها  وخشونتها، وان هذا الجهد والنقص والخشونة إنما هو فى الحقيقة  روح جمال الاعمال الفنية وانه هو الذى يميزها من جمال الطبيعة،  وحالما يمتنع الناس عن فهم ذلك ويستخفون هذا الجهد والنقص  والخشونة، تراهم على الغالب لا يظفرون حين يطلبون من الفن  الجمال الطبيعي بغير جمال ميت.

يمكننا أن نفهم احسن فهم الفرق بين نوعى الجمال إذا نحن  تدبرنا كيف ينسل الجمال فى اللغة، هذا الفن الذى نمارسه جميعنا  قليلا أو كثيراً، والذى يصعب فيه ان لم يكن مستحيلا تقليد غاية  الجمال الطبيعى؛ لا يوجد جمال فى جملة: (سينال المعتدون  جزائهم) لأنها تؤدى المعنى المراد تماما بلا زيادة ولا نقصان،  ويوجد جمال فى مثل جملة (ليال سرقناها من الدهر... )لان فيها،  وان كانت تظهر أيضا غاية فى البساطة، يحاول الشعر إن يقول أكثر  بألف مرة مما يستطيع أن يقوله، إن السعي فى عمل ما هو خارج  عن طاقة الكلمات هو الذى يحمل الجمال إلى الكلمات؛ تلك هى طبيعة  الجمال الفني التى بها يتميز من الجمال الطبيعى، الأعمال الفنية هى  دائما ولدة السعى لاتمام المستحيل، لإتمام ما يعرفه الفنان انه

مستحيل، وانه حينما لا يوجد هذا السعى، حينما يكلف الفنان نفسه  عملا فى وسعه اتمامه، عملا لا يدل على غير المهارة، حينئذ يخرج  عن كونه فنانا. يقول (جروس) إن شعورنا بالجمال يتوقف على  قوة إحساسنا بعظمة الأشياء، هذا صحيح ؛ غير أن قوة احساسنا هذه  تبقى قوة احساس غير قادرة على صنع ما تحسه! ان الفن ليس مجرد  اتساع طريق الشعور كما يزعم (جروس) ، وإنما هو تجربة عمليه لإظهار  مقدار شعور رجل الفن. فن الفنان جواب لجمال الطبيعة وعبادة له

الفن ايضاح حالات حاصة، حالات اعجاب وتقدير، هو  التسليم ببعض أشياء أعظم من الإنسان وحيث لا يوجد هذا التسليم  يموت الفن.

إن هذا الفرق بين جمال الطبيعة وجمال الفن لا يرى فى الجمعية  التى تعتقد أنها تستطيع أن ترفع سماء بمهاراتها وعلمها وحكمتها، أن  الفن فى مثل هذه الجمعية يفقد كل خواص جماله.

أن الرجل الذى يتطلع إلى الكمال فى الفن إنما يخدع نفسه إذ  الكمال لله وحده، ولا ريب أن من عرف الله حق المعرفة أصبح  شبيها به وأمكنه أن يكون الجمال مثله، ولكن أبى للإنسان ذلك، بل  أن العجز ليجعله غير قادر على إتمام موضوعاته التى توحي إليه بها  معرفته الله، معجبا بسمو لا يد له فيه؛ وهكذا نرى النقص باديا فى كل جمال فنى ليس فى الفكر فحسب، بل فى العمل أيضا، وأنه  لنقص يحسبه خيبة وشناعة أولئك الذين يتطلعون إلى مسمى الجمال  الطبيعى فى الفن والى توقع رؤيته نظريا لا صنيعاً، مثل هؤلاء  يفشلون أبداً فى الاعمال الفنية العظيمة لما يعروهم من قنوط وكد  وجهد؛ انهم موازين قدرة الانسان واعترافه بالعجز فى آن واحد؛

بيد أن هذا الاعتراف القائم على الصدق والاخلاص أن هو إلا  الجمال بعينه، وأن الصفاء ليبدو فى جمال الفن أبداً ولكنه صفاء  الاذعان لا صفاء الرضى، صفاء القداسة ، وليس لصفاء التجمل،  إن العظمة غير المحدودة فى كل ما يأتى به الفن ليست سوى اثر مهارة  يلدها سعي الفنان الدائم ليعمل اكثر مما يستطيع. ليس للفنان أن  ينشد مجرد الثناء وتصفيق الاستحسان بل يجب أن يعبد أيضا وان  يبدع ما يقدمه بين يدى عبادته، ذلك خير وأبقى، ليس الرعاة  وحدهم الدين تقدموا إلى قبر السيد المسيح ، بل الحكماء أيضا جاءوا  يحملون إليه كنوزهم، وفن الإنسانية إنما يكون بآثار حكمائها، بل  هو عبادة المجوس اكثر الناس بساطة فى عبادتهم.

(أيها الحكماء لقد قطعتم كل طرق المعرفة وانتهى بكم المطاف  الى حيرة الراعى؛ ولكنها الحيرة التى لا تذهب بالحكمة)  التى عندما تقف حائرة وتتوجه معرفة الانسان ومهارته وكامل  شعوره إلى الإقرار لما هو أعظم من الحكماء أنفسهم يكون ذلك  الإقرار هو الفن، ويكون له من الجمال ما يفوق جمال الطبيعة القدسى.

شرق الأردن

اشترك في نشرتنا البريدية