طالعتنا (( الثقافة )) الغراء بمقال قيم ممتع عنوانه (( الجماهير )) لصاحب العزة الدكتور أحمد عبد السلام الكردانى بك ، عارضا فيه لناحية واحدة من النواحى التى رآها قد استرعت نظره حين قرأ كتاب (( الوعي الجديد )) ، وهى نظرة كاتبه إلى الجماهير ، وأثرها فى توجيه الحكومة وحقوق هذه الجماهير على الدولة .
ولقد شاء الأستاذ الكبير قبل أن يبدأ نقده للفكرة التى اختار نقدها ، والجانب الذى انتخبه للتعقيب عليه ، شاء أن يدلى بنقذ مجمل من الكتاب فقال عنه إنه وجده (( كتابا جميلا بارع الأسلوب ، شائق العرض ، جديرا حقا بأن يقرأ بامعان ، وبأن يعلق عليه الكتاب والمفكرون ، والمشتغلون بالشئون الاجتماعية ، وبالمسائل القومية العامة )) فكان تقديرا سخيا أعتز به ، لأنه صادر عن مرب حجية وكاتب نابغة .
وأستطيع أن أخرج من مقال الكاتب الكبير بأنه ينتقد فكرة حث الجماهير على المطالبة بحقوقها فى الحياة الكريمة ، بأساليب معينة ، يراها شبه ضغط على أولياء الأمر وإجبار لهم ، معتمدا فى ذلك على فقرة استشهد بها جاءت فى الكتاب ، وهذا نصها (( لابد أن ينهض الرأى العام ، فيطالب كل فرد من أفراد الشعب بحقه فى الحياة ، عندئذ مجد الحكومات نفسها مندفعة نحو الأمام ، تأتى أعمالا تلهب الأكف بالتصفيق ، وتطلق الحناجر بالهتاف فيزداد جهادها فى سبيل الخير العام (( قائلا : (( إن النتيجة الطبيعية لذلك أن يضع ، أى مؤلف الكتاب ، الحكومات تحت رحمة الجماهير )) ، و (( الحكومات على هذا الوضع تكون حكومات مسلوبة الإدارة معطلة التفكير
لا يحركها للعمل إلا مطالبة الشعب به )) وهو يأخذ على الكاتب قوله (( فكم حكام يودون لو يعملون ولكنهم لا يستطيعون ، لنوم جمهورهم ومسالمة شعبهم )) ويقول أيضا (( إن الواجب فى نظرنا هو أن تعتبر الحكومات نفسها مكلفة بالسهر على مصالح الشعب )) أى بغير حاجة إلى ضغط الشعب وإرهابه لها ، على حد تعبيره ، إلى أن يقول (( نعم إننا نعترف أنه أتى علينا حين من الدهر لم يكن لنا فيه بد من أن نلجأ إلى مثل تلك الهتافات أو المظاهرات التى تقوم بها الجماهير لحمل الحكومات على سلوك طريق معين أو انتهاج سياسة بالذات . لكن ذلك قد حدث فى ظروف خاصة كانت فيها الحكومات القائمة تحت تأثيرات أجنبية أو ما شاكل ذلك ، نسير فى طريق غير مستقيم ، لا يتفق مع مصلحة الوطن ، ولا مع اتجاه الرأى العام للبلاد كلها ، ولا مع رغبات طبقات الأمة أو سوادها الأعظم . . ولا نقطع بأنه لن يأتى علينا حين آخر يضطر فيه الجمهور المصرى كله ، لأن يحمل الحكومة القائمة قسرا على أن نسلك سبيل الرشاد . .)) ثم يبرر ذلك بأن هذا لا يكون إلا في حالات شاذة استثنائية ، تقتضيها ظروف غير عادية .
وإنى أوجز رأيى الذى خرج به (( الوعي الجديد )) ، فى هذا الصدد ، وألخص تعقبى على نقد الأستاذ الكاتب الكبير فيما يلى :
عندى ، أن الحكومات التى تعمل من تلقاء نفسها من غير دفع الشعب لها ، لا توجد إلا نادرا ، بل لا توجد واحدة منها إلا كل فترة طويلة من الزمن ، وخاصة فى الشرق ، شأنها شأن قادة العالم والمصلحين ؛ وهذا محك خلافى مع الدكتور الكريم فى النصف الأول من نقده ، فهو يرى نهضة الشعوب بضغطها على الحكومات استثناء وشذوذا ، وأنا أراها قاعدة ، وما عداها هو المستثنى . ودليلى على ما أقول مستمد من الواقع الملموس ؛ فأنا لا أتكلم
عن أعمال الحكومات ((الروتين)) إنما أتكلم عن أعمالها فى الاصلاح ؛ وإن تاريخ التقدم والإصلاح والتطور فى العالم ، هو سلسلة من المواقع والاشتباكات بين الشعوب والحكومات ، فالشعوب أكثر حساسية بكيانها ومصالحها ، وهى حقول خصيبة تدب فيها سريعا الأفكار الحرة الجديدة ، بعكس الحكومات التى تمثل دائما ، أو غالبا ، دور الحفيظ على العرف والتقاليد ، وتأخذ دائما بيد النظرات المحافظة .
ينكر أستاذنا الفاضل على الجماهير ، أن تظل الحكومات تحت دفعها وضغطها ، ويرى أن حكومة تحترم نفسها لا تقبل هذا الوضع . وأنا لا أجد غضاضة فى أن تشعر الحكومة بأنها عملت لأنها كلفت بأن تعمل ، تلبية لصوت الرأى العام ، سواء كان هذا الصوت كتابة فى الصحف ، أو خطابة على المنابر ، أو هتافا وتصفيقا وإن كان حتى البرلمان فى مراقبة الحكومات ودفعه لها ، ليس موضعا لخلاف ، إذ البرلمان وكيل عن الشعب ، فإن حق الوكيل لا يمكن أن ينسخ حق الأصيل فى المراقبة والدفع ، والأصيل هنا هو الأمة ، والأمة مصدر السلطات . بل إنه كم من رقاية برلمانية تكاد تكون معدومة ، فى ظروف معينة ، على بعض من الحكومات معين وهنا يكون الضمان الوحيد لمراقبة الحكومات مستمدا من يقظة الرأى العام نفسه ، ودفعه للبرلمان والحكومة معا ، وتيقنهما من هذه اليقظة ليرهبا الانحراف عن جادة الصواب .
وإننى ما زت أقرر أن الحكومات ، إن فكرت يوما فى الإصلاح من تلقاء نفسها ، وكانت جماهيرها نائمة ، فإن ذلك الإصلاح لن يخرج على يديها من حيز التفكير إلى حيز العمل ، فكلنا لا ينكر أن هناك مصاعب تلقى فى طريق الحكومات جميعا ، مصاعب داخلية من نفوذ بعض الطبقات المتحكمة ، ومصاعب خارجية من بعض الدول المتدخلة ؛ وإن هذه المصاعب بنوعيها لا بد أن تقهر
الحكومة ، فتطأطى هذه لها رأسها ، إن لم تجد دائما وراءها شعبا يقظا ، بل يقظا دافعا مرهبا .
إن الأستاذ الأديب الكبير يعترف ، كما سبق ، بأن هناك ظروفا تستلزم ، بل توجب ضغط الجماهير على الحكومات وحملها قسرا على سلوك السبيل المستقيم . لكنه يقول إن مثل هذه الظروف شاذة لا يقاس عليها . فإن سلمنا لأستاذنا الفاضل بوجهة النظر هذه ، فانه سيكون هناك احتمال اختلاف ، فيما يتعلق بالحكم على ظرف معين بأنه شاذ أو عادى . وعندى أن مصر تسير فى ظروف شاذة منذ مئات السنين . ويكفى لتأييد قولى أن السواد ((الأعظم )) ، الذى يتكلم أستاذنا الكبير عن حقه فى توجيه الحكومات ، لا يجد ما يطعمه من جووع ، ولا ما يشفيه من مرض ، ولا يا يعلمه من جهل ، ولا ما يكسوه من عرى ، ولا يجد دافعا لعبء البؤس عن عاتقه إلا كما تدفع النملة ، على مدى الزمن ، من الحمل الذى يحمله الجمل .
ولقد لفت نظرى اعتراض أستاذنا الكريم على حق الجماهير المصرية فى توجيه الحكومات ، بحجة تخلفها الكبير عن غيرها من جماهير البلاد الأخرى . وإنى قد أرى فى هذا تباينا مع القول ، السابق ، بأن البلاد فى حاجة إلى هذا التدخل فى الوقت الذى تحيد فيه الحكومات عن الطريق المستقيم . وبودى أن أقول إن مطالب الجمهور المصرى ، لا يختلف فى أمر تقديرها جمهور عالم أوربى أو جمهور جاهل شرقى ؛ وإن أمراضه غير محتاجة لتشخيص دقيق ، فمجهود كبير فى التحقيق . إن مطالب جمهورنا يمكن إرجاعها جميعا إلى الخبز ، وإن أمراضه يمكن إرجاعها جميعا إلى الجوع . ثم إن الدكتور الكبير يقول بأن الحكومة يجب أن تشعر من تلقاء نفسها ، بأنها مكلفة بالإصلاح ويصح لى أن أتساءل عن الجهة الى تعتبر الحكومة نفسها مكلفة منها وأمامها بالإصلاح ، ومن تكون غير الجماهير ؟
وقد أثار أستاذنا الكريم مسألة هامة ، فهو يرى (( حتى على فرض ان السادة الأغنياء ، المثقفين ، هم المسيطرون الآن ، فعلاج ذلك لا يكون بأن نسلط عليهم الإخوان الفقراء الجهلاء ، فذلك مجرد استبدال ظالم بآخر ، قد يكون شرا منه ، وإحلال طاغية محل طاغية غيره )) وأنا أخشى ألا يكون الغني داعا مثقفا ، وألا يكون الفقير دائما جاهلا ، ثم أرى كذلك أنه لو كان لما أن نختار ، مضطرين ، بين ظالم وظالم ، وطاغية وطاغية ، فعندى أن ظلم الأغلبية وطغيانها أسلم ألف مرة من ظلم الأقلية وطغيانها ، بل إن ما يسمى أحيانا طغيان الأغلبية ، إن هو إلا الديمقراطية ، فايست الديمقراطية حكم الأمة بالأمة ، إنما هى حكم الأمة بالأغلبية أو ممثليها ممثلى الأغلبية فى المجالس النيابية ، إن كانت هذه المجالس منتخبة انتخابا حرا
ويرى الكاتب الكبير أننى أطربت الجماهير وأشدت بها من غير أى نقد لها او تحفظ من ناحية ، أو من ناحية سلوكها وأساليبها . وإنى استأذن أستاذى الفاضل فى نقل هذه الفقرة الواردة فى ص١٥١ من الكتاب : (( سبحانك اللهم ، هي الجماهير ! مجنونة برغبتها بلهاء سماء إنها لا تستحي أن تسخط اليوم على من لم تنته بعد من الزمر له والطبل ! لها نصف عقل ولها لسانان ، متطرفة فى القول لا تدرى الاتزان ، لا تدرك أن الفضيلة وسط ، فإحساسها نهايتان ، إما نهاية السخط وإما نهاية الاستحسان !!)) .
وأخيرا فإنى رأيت الإصلاح تجاوبا بين قوة الشعب ، وقدرته على دفع الحكومة نحو العمل ، وبين رغبة الحكومة نفسها وميولها ؛ وهذا التحفظ من ناحية الكتاب (( الوعى الجديد )) قد يرضى الأستاذ الكبير ، ويرضى أيضا كل منصف ؛ فلقد جاء فى ص ٢٣٩ (( لا ضير أن يفكر الشعب فى عيشه الكريم ، ولا ضير أن يطالب الحكومة باصدار القوانين . . ولكن الضير كل الضير أن تتوانى الحكومات ، فلا تقابل الأفكار الجديدة
فى منتصف الطريق . . وإن مطالبة الشعوب ، بالطرق المشروعة ، بنصيبها فى الحياة المتكافئة الفرص ، لدليل يقظتها وقرب رفعة مقامها . الأ ترى إلى ( الحرية ، والإخاء ، والمساواة ) أنها كانت النتيجة الطبيعية لنداء الفرنسيين : نريد خبزا . . هذه المبادئ الثلاثة التى صارت فيما بعد انجيل الحضارة العالمية ، كان الفضل فيها الهتاف بالرغيف . والمستبشر بهذه المطالبة ، ولا يأخذنا الذعر منها ، بل لتسع الحكومات اليها لتتقابل معها ، ولتحدد هى ، فى حكمة ، موعد المقابلة ))
بقى من نقد أستاذنا الدكتور الكبير ، الجانب الجانب الذى يرى فيه أننى أنزع نزعة مادية ، وأنه لا ينبغى أن تسهوينا المبادئ ، الاشتراكية ، ففى الإسلام ما يكفى لإسعاد الخلق (( بغير حاجة إلى تلمس معتقدات جديدة واردة إلينا من الغرب )) ولى على هذا الجانب من النقد تعقيب آخر لا يتسع له نطاق اليوم ، وموعدنا عدد مقبل من الثقافة الغراء .
الفصل ولا يفوتنى أن أسجل الشكر مرة أخرى لأستاذى المربى الكبير ، أن دعا إلى فتح باب المناقشات فيما يضعه كتاب (( الوعى الجديد )) من آراء ، نعتها بأنها (( قد تبدو غريبة وخطيرة )) والله أرجو أن يوفقنى إلى الاقتناع بما فيه الخير
