الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 42الرجوع إلى "الثقافة"

الحب كما يراه عالم

Share

الحب ظاهرة عامة شاملة لكل الحيوان ، ولكن الحب كما نعرفه ظاهرة يختص بها الإنسان . وما من شك في أن الباحث المتقصي يجد أصول الحب الإنساني الأولى في الحيوانات الدنيا ، وهو لاشك مدرك تلك الأطوار التي تطورتها والأشكال التي تشكلتها حتى صارت إلى تلك الصور الأخيرة التي نجدها في الإنسان ، ولكن مع كل هذا لا يستطيع الباحث أن يتملص من الإقرار بأن الحب الإنساني يفترق عن الحب الحيوانى افتراقا كبيرا ، ويمتاز عنه بميزات خاصة تجعل له كينونة متفردة بذاتها غاية التفرد ، وليس هذا الطبع حال الإنسان في الحب وحده ، بل كذلك شأنه في مظاهر الحياة الأخرى .

فمن ميزات الإنسان على الحيوان أن الحيوان يعمل ويحيى صادرا في أعماله وحياته عن غرائز ثابتة لا تتغير ، وإن هو فكر واحس وتخلق ، فانما ينسج على مناول للفكر والحس والتخلق جامدة لا مرونة فيها ؟ أما الإنسان فله دوافع عاطفية مختلفة ، وأمال وأراء وتجاريب شتى تتألف جميعها لتكون حالات عقلية أكثر تعقدا ، وأكثر تنوعا من كل ما قد تتكون من أمثالها عند كل الحيوانات التي هي دونه في جدول الأحياء .

ومن ميزات الإنسان أن حبه لا يتصل بالزمان فبينما نجد للحيوان انات معروفة للانسال نجد الإنسان ينسل في كل آن

ومن خصائص الإنسان أنه معرض لتعارض الغرائز النفسانية وتدافعها وتشاجرها في نفسه ، والحيوان على نقيض ذلك ، فحياته ليست إلا انتقالات هينة من غريزة إلى غريزة في تسلسل منتظر لين ، لا اصطدام فيه ولا اشتبك .

إن عقل الانسان مرن مرونة بينه ، قابل للتشكل السريع قبولا لا يعرفه الحيوان ، وهو من أجل هذا يستطيع أن يجمع بين شتي التجارب ومختلف العناصر ، فيؤلف بينها في كل واحد . ولكن معنى هذا أن تلك الغرائز المختلفة المجتمعة لا تعدم اختلافا تجده غريزة في أخري ، أو تناقضا يجده دافع في دافع آخر . ومن الناس من لا يستطيعون مخلصا من هذا التناقض ، ولا مخلصا من هذا التعارض ، وإنما يتركون تلك الدوافع تصدم بعضها بعضا ، وتتعارك عراكا عنيفا يؤدي بصاحبها إلي حالة عصبية حادة نسميها بالنورستانيا . ومن الناس من يستطيع أن يلطف من حدة هذا الخصام ، ويخفف من وقع هذا الصدام ، وذلك بكبح هذا الدافع أو ذلك حتى تتألف من كل الدوافع مجموعة مؤتلفة تحمل صاحبها إلي دار السلام . وهذا الكبح نصنعه جميعا وإن كنا أحيانا لا نحسه ، بل هذا الكبح هو بعض ما تعلمناه ويتعلمه كل رجل متمدين في مدارسه . فمن أول واجبات التربية تعليم الفرد الإنساني الوحشي بالطبيعة أن يكبح نفسه وأن يخضع ما يقوم في نفسه من دوافع دنيا تطلب ثمرات قريبة إلي دوافع عليا نسميها في العرف شريفة تطلب ثمرات غير قريبة ؛ ومن هذه الدوافع الدنيا ذلك الدافع الشهوي من الحب ، وهو من أقوي الدوافع الانسانية ، ولكنه كذلك من أكثرها خضوعا للكبح في أي مجتمع منظم متمدين .

ومن أجل هذه الأسباب كان الحب في الانسان ظاهرة من أغرب المظاهر ؛ فهو يجمع في حالة عقلية واحدة ارفع الدوافع وأحطها ، وهو يرخي العنان لمكبوحاته بقدر لتجري جنبا لجنب مع أسمي المطامح ، وهو يؤلف بين مظاهر الثورة والعنف ومظاهر السلام والاستسلام

ولن يفهم من هذا أن الحب واحد عند كل الناس ، فمن صفات الحب ان له اصنافا عدة يتصنفها ، فيكاد يكون لكل محب صنف يخصه ، حتى المحب الواحد قد

يتصنف حبه أصنافا تبعا لما قد يستيقظ في نفسه من شبت الدوافع . ولكن مع كل هذا فالحب واحد عند الجميع ، أي له لب متشابه لدي كل محب . فهو في الكل له صفة العنف ولو مكبوحا ، لأنه يصدر عن أصول أولية في صميم وجود الإنسان ، وهو يتضمن نزاعا بين دوافع وتأليفا بين متنازعات ، وهو يتصل إن قريبا أو بعيدا بمطامح وأمال ويمثل عليا قد تكون رغبة في استكمال نقص ، أو إتمام وجود ، أو تكون تعبدا في جمال ، أو تفانيا في إخلاص .

ولأن الحب يصدر عن غرائرز قوية موروثة ، ولأنه يرخي الأعنة لنوازع هوجاء مكبوحة ، تجده يستمد قواه وياخذ مؤونته ، لا من العقل الواعي ، بل من ذلك الجانب الآخر المبهم من العقل الذي نسميه بغير الواعي . وهو إذ يفعل ذلك يحدث عند صاحبه إحساسا بتطور شخصيته وتركيزها

ولأن الحب بجمع بين آمال لم تتحقق بعد ، وبين غرائز مكبونة محبوسة لم تحرر ، تجده يلون حقائق الحب الأولية العادية بماء الذهب فيجعل منها مسئلا رومانتيكية غير عادية يلذ له تمجيدها . ومن أجل هذا يدفع الحب بصاحبه إلي الجمع بين المتناقضات والمصالحة بينها . ومن اجل هذا تزول من النفس مخاوف قديمة وتنعدم مقاومات قديمة ، حتى الإحساس القديم بالقبائح ، وحتي الاشتمزاز القديم بالعار يزولان جميعا . حتى الخطيئة ذاتها يرتفع عن النفس في هذا الجو الجديد معنى القبح فيها . ولان الحب يجمع بين عناصر يتصل بعضها بأصول وجوده ، وهي في العرف وضيعة ، ويتصل بعضها الآخر بمطامح للنفس هي في العرف رقيمة ، نجد الخيبة في الحب ولقاء العقبات الصعبة المانعة فيه يورث صاحبه الما لا الم بعده ، وشقاء دونه أكثر أنواع الشقاوات .

إن الحب منشط من المناشط الإنسانية كالتدين

والتعبد ومعالجة الفنون والتشرب بها ، وهو ككل الناشط العقلية الآخرى . وهو يمتد بأصوله الأولى إلي الحيوان ، ولكن ليس في الحيوان شئ كمثله في مظاهره الاكبر والآخطر . وهو يتنوع عند الإنسان انواعا ، ويتصنف حسب طبيعة الشخص اصنافا . وهو قد يكون شيئا سريعا خاطرا وقد يكون خدعة براقة مهلكة ، ولكنه قد يكون أيضا أساسا لاخلاص ثابت دائم سعيد

إن الحب له جانبان : احدهما رومانتيكي ، والآخر بيولوجي . وقد يغلب عليه الجانب الرومانتيكى حتي تتضاءل بجواره جوانبه الأخرى ، وهو عندئذ قد يؤدي إلي كثير من الضلال قد يعقبه هدي وقد لا يعقبه . وإذا غلب عليه الجانب البيولوجي فقد الحب أكبر ميزاته لدي الانسان . وعلى كل حال يجب على الإنسان أن لا ينسى ان الحب وسيلة لاطراد الانسان .

إن الغالبية في الناس لا تكتمل شخصيها إلا بالحب ، لأن الحب بين التجارب الإنسانية هو اقوى تجربة بها من القوة ما يقوي على تحطيم قيود الصبي لا تاتلف مع الحياة البالغة ، وتكسير حواجز هي من لوازم السن الناشئة الصغيرة ، ولكنه لا بد من تكسيرها لاستقبال حياة الفتوة والرجولة المستقلة . وغير هذا فالحب لازم لتفهم المرء نفسه ولتمهيد السبيل له لفهم الناس .

ثم نقطة أخيرة أحب أن أهمس بها همسا . ذلك أن الحب من وجهته البيولوجية هو فن من الفنون ، فاذا وهم إنسان انه ناجح في الحب من غير تفكير ولا تنظيم فهو جد خاطئ ، وهو في هذا كمن يحسب انه ناجح في الموسيقى أو الشعر أو الألعاب الرياضية من غير تفكير ولا تنظيم . ولا اقتصر فن الحب على وجهته المادية وحدها ، ولو ان الاخفاق في هذا قد سبب كثيرا من الارزاء الزوجية وشقاء العائلات . ولكني أعمم حتى

يشمل فن الحب كل مظاهره . إن الحب إن كان اهوج ضالا فالحكمة تهدية . وإن كان عنيفا قويا فالقيادة الحازمة تنكبه شر المهاوي .

إن الحب كقوس قزح في جماله ، وهو كفوس قزح لا ينحط جماله في أنفسنا لأن علم الطبيعة فسره لنا بالجزئيات والأشعاعات ، إن علم الحياة يفسر لنا الحب من وجهته الطبيعية ، وهذا لا ينزع عن الحب قدسيته ، بل هذا التفسير يزيد من قدسيته ، ويجعل لهذه القدسية سندا من العقل والفهم ، والحب في نظر العلم ليس إلا ميزة من أسمى ما ماز الله به الإنسان .

اشترك في نشرتنا البريدية