هل تصورت يوما أنك أخرس ، فجزعت ، فحمدت الله على نعمة اللسان .
ولكن كم من الناس في حكم الطب ذوو ألسنة ، ولكنهم في حكم الواقع خرس لا يتكلمون .
إن الحيوان ذو عقل قليل . وإن اببت تسميته بالعقل فقل إن إدراكه قليل قصير . ومن أجل هذا لم تكن به حاجة للكلام ، فكان الخرس به طبعا . أما الإنسان العاقل فكيف يخرس لسانه وقد جعله الله مبينا .
قد تقول إن الذي يخرس من بني الإنسان ، إنما يكون كذلك بحكم ما به من قلة عقل وقلة إدراك ، فمن الناس من قارب البهائم في إدراكه أو كاد.
وأنا معك ، على شرط أن تفرق بين إدراك طبيعي ، وإدراك ينال بالثقافة والتعليم . فقد واتتني فرص كثيرة تحدثت فيها إلى الفعلة ، إلى أولئك الذين يكسرون الحجر ويحملون التراب على الأكتاف ، وهم في العرف من أحط الطبقات تعليما وثقافة ، ومع هذا وجدت كثيرا منهم المتحدث البارع . فإذا سألته عن شىء أجاب وأطال ، وشقق في حديثه وفرع ، على أن يكون السؤال مما يستمد الجواب عنه من محيطه . ولكن منهم من لا يفهمك إذا سألت ، وإذا فهمك كان جوابه كلمة . وإذا أنت أمعنت النظر في حالته ، وفي طريقة حركته ومعاشه ، وجدته صنفا إذا أريد وضعه بين أصناف المخلوقات كان له - على الأسف الشديد ، ومع استشعار الرحمة له ولأضرابه - مرتبة لا بد واقعة بين الإنسان والحيوان . فمن مثل وجهه ، وهو يجابهك بالجواب ، يكاد يقطر الغباء لفرط كثافته
ولقد واتتني الفرصة أيضا بإطالة الصلة بأصحاب هذه
المراتب الدنيا ، فعلمت أن بعضهم ، ولو أنهم قليلون ، لم يكن حصرهم عن غباء ، ولكنها عقدة انعقدت في ألسنتهم بعض حين ، فخلتها الأنفة بعد حين . لقد كان حصرهم حياء ، أو إن شئت سميته استضعافا لأنفسهم ، أو إن أردت أن تظهر علما بالذي ابتدعه عالم النفس الشهير الدكتور أفرود froed ، سميته مركب النقص الذي سيطر عليهم وأنا استدرجهم إلي الحديث .
وهذا الذي أصف في الرجل الجاهل ، تستطيع أن تنقله إلى الرجل ذي المعرفة القليلة والكثيرة . فالمرء قد يزيد ثقافة ولكن لا يقل غباؤه كثيرا . والرجل قد يزيد معرفة ولكنه لا يقل حصرا ، بسبب حيائه . وليس من شأننا الحديث في رجل يحجم عن الحديث بسبب خلل في جثمانية لسانه .
الفصل * وإنك لتجد الحياء أكثر الأسباب في ضعف الحديث أو كراهته عند أصاحبه . تجد هذا في أكثر الأطفال في مصر ، أو لعلك واجد ذلك في الشرق أجمع . فمن حسن التربية عندنا أن يشجع الطفل على الحياء ، أعني على الخرس . فاني لم أكد ألقي طفلا من متوسطات البيوت بيننا ، فأسأله عن شىء ، حتى ابتسم ، ثم أشاح بوجهه خجلا ، ثم تلوي على الكرسي أو على الكنبة ، وقد يغفل عن نفسه فيقع على الأرض . والسؤال باق من غير جواب .
والأب قد يتظاهر بالخجل من خجل ابنه ، فيقول له : أجب ياولد ، واعتدل يا ولد ، وهو في قرارة نفسه مغتبط ، لأن ابنه حيي ، والحياء أس الفضائل . وما أحسب أن هذا كان معنى الحياء الذي قصد به أن يكون أس الفضائل . فلقد كان معناه ، أو إنى لأحسب أن معناه ، الاستحياء من كل رذيلة شائنة . وهو استحياء يستشعره المرء من نفسه حتى وهو وحده من غير رفيق أو رقيب . أما هذا الذي أراه فما هو إلا الخيبة ينشئ الآباء عليها الأبناء وهي تتم عادة عندما يبلغ الطفل مبالغ الرجال فيدخل معترك الحياة بما فيه من اعتراك واصطدام إنه " مركب
النقص " الذي ابتدعه عالم النفس الكبير أفرود .
وما هكذا أجد إذا سألت مصريا تربي بمدرسة أجنبية . أو سألت أجنبيا قحا . إنه على صغره يستمع لسؤالك استماع الرجال . ويجيبك بعقل الطفل ولكن بأسلوب الرجل المتمكن من نفسه وما يقول . ولا يمنعه هذا في الغالب من ابتسام ، ولا يمنعه في الأغلب من أدب جم . وهؤلاء هم أفراخ النسور الذين يشكو منهم البغام والرحم من بعد ذلك في مدارج الحياة .
وإنك لتجد الحياء كذلك مانعا للحديث عند المرأة . مانعا منه عندها إذا ما تحدثت إلي رجل . أما النساء فيما بينهن فمن أطلق مخلوقات الله ألسنة . بل إن الحال لينقلب أحيانا عند بعضهن ، فتصبح المعضلة ردهن إلي بعض الخرس ، ليعود إلى هواء الحجرة المضطرب بعض سكونه ولكنهن غير ذلك مع الرجال . ولكنهن غير ذلك أيضا مع المرأة التي هي أرفع منهن ثقافة أو أرفع مقاما.إنه الحياء يفسر لنا انطواء هذه الألسن التي لو شاءت لطالت أي طول .
ولقد بدأ في الشرق اختلاط المرأة بالرجل ، فعاني الرجل ، وعانت المرأة ، عند محاولة الحديث ، بعضهم إلى بعضهن ، أو بعضهن إلى بعضهم ، من الضيق شيئا غير قليل ولهذا سببان : السبب الأول أن المرأة الشرقية ، على الرغم من تثقفها بعض التثقف ، وعلى الرغم من سفورها ، لا تزال متحجبة . إنها سفرت عن وجهها ، وسفرت عن رأسها ، ولكنها ما تزال تدور من مداور العيش في نطاق ضيق ، هو في الأغلب نطاق البيت الذي لا يمتد إلى نطاق البلد ولا نطاق الأمة ولا نطاق الدنيا . فهي لا تسمع عن حوادث الحياة إلا نزرا ، وإلا أطرافا لا تغني في الحديث ، لامبادأة به ، ولا استطرادا معه إذا بدأه غيرها . والسبب الثاني أن المرأة الشرقية ، وأن الرجل الشرقي ، إذا تحادثا وهما على غير ألفة ، أحس كل منهما بجنسه
فاختبل . تحس هي بأنوثتها فتختبل ، ويحس الرجل بذكورته فيختبل
وقد يحاول الرجل الخروج من خبلته بزيادة احترامه لمحدثته ، وبزيادة التأنق لها في كلامه ، وهو لا يدري أن هذا إنما يزيده ويزيدها خبالا وسوء حال . والمخرج كل المخرج إنما يكون في تناسيه أن هذه امرأة ، وفي تناسيها أن هذا رجل ، وفي تناول الحديث في غير مبالاة به او بها ، وفي إغفال كالذي يكون بين الرجال أو بين النساء .
ومن غفلة بعض الرجال أن يأخذوا المرأة بالحديث عن شوبنهاور ، أو يستدرجوها إلى الحديث في سقوط الدولة الرومانية أو رأي أفلاطون في الجمهورية . لاشك أن الثقافة ببعضهن قد ترتفع إلى هذا ، فيكون في الحديث دغدغة لكبرياء الفتاة والمرأة ، ولكن ما هكذا الكثرة من النساء ؛ بل ما هكذا الكثرة من الرجال ، فكيف بالنساء!
وسواء بين الرجال والرجال ، أو بين النساء والنساء ، أو بين هؤلاء وهؤلاء ، فالحديث فن لا يتقنه إلا ذو علم وذو بيان وذو لياقة.
وليس كل راغب في الحديث بمحسنه . بل إن أعيب ما يعاب في المتحدث أن يكون به حرص زائد على الحديث أو مسارعة إلى الكلام . والحديث فكرة لابد أن تستوي ، ثم هو قالب لابد له من صياغة . وكم من حديث خير منه السكوت .
وقد يجتمع الصاحب بالصاحب . أو الضائف بالضيف ، فيحسب أنه في موقف لا بد فيه من الحديث مدافعة من غير انقطاع . والحديث أسوا ما يكون اندفاعا ، وهو أثقل ما يكون إذا كان سيلا متصلا ، كالكاتب الذي يكتب كتابة متصلة ليس فيها واوات ولا نقاط ولا ففرات ولا عنوانات . إن الصمت الفينة بعد الفينة يعطي العقل استمراء بالذي كان ، واستجماما للذي هو كائن .
ومما يذهب بجمال الحديث مفارقة تكون بين رغبة اللسان في أن يتكلم ، ورغبة الأذن في أن تستمع . فالحديث أخذ وعطاء . وكثير من الناس من يحسب أنه عطاء ولا أخذ . ولعل هذا هو الشىء الوحيد الذي يسخو فيه الساخي إعطاء ، ويتعفف أخذا . ولأن تكون ممن يحسبون الحديث أخذا خير من أن تكون ممن يحسبونه إعطاء ، ولو أن هذا أيضا إفساد لفن الحديث . فالحديث ملاقفة ، فيه استمتاع وإمتاع . وهو كبعض صنوف الرياضة ، قد تكون بين اثنين وقد تكون بين الثلاثة والعشرة . وهي على كل حال ليست لواحد دون واحد ، ولو كنت ممن يحضرون ألعاب الكرة لعلمت أن أكره إنسان في الميدان للناظرين هو ذلك اللاعب الذي يستحوذ على الكرة ولو ربح الجولة بعد الجولة . أذكر أن حكما رفض أن يعطي لاعبا نصيبه من الجائزة لأنه ريح جولتين وثلاثا لم يشرك فيهما غير نفسه . فقال له : إنك ربحت ولكن الرياضة خسرت وكذلك هي في الحديث . فلابد أن يعرف كل متحدث في جمع أن حديثه مهما لذ وطاب ، لا بد أن يفسح لغيره مكانا . وإذا لم تقتنع بالذي أقول فأدر على جمعك هذا شرابا من عسل ، وأدره مرة ثم مرة ، وانظر ماذا يصنعون . إنهم لاشك طالبون الجبن الحاذق والفسيخ المالح من بعد ذلك
إن الحلو له في الدنيا مكان ، وكذلك المر . والصفاء له مكان ، ولكن كذلك للعكورة مكان . والأضداد لا بأس من تبادلها وتعاقبها حتى لا يكون سأم من رتابة ثم موضوع الحديث
ألا فاعلم أن الكلام غير الحديث . فالكلام للتفاهم بين الناس ولقضاء الحاجات . أما الحديث فحاجة اجتماعية تتطلبها النفس إشباعا لأنس الإنسان بالإنسان ، فهو للأنس أولا ، ثم هو للنفع ثانيا ولا أضع النفع ثانيا لأنزله مرتبة وضيعة . لهذا أسارع فأقول إن الأحاديث طريق
لتحصيل العلم علي أسلوب لا يتهيأ في الكتب أبدا ، ومن صنوف لاتتحصل في قاعة الدرس أبدا . فحديث الناس حديث الحياة الجارية ، وخبرة الأيام الماضية ، وتربص واقعي لأحداث الأيام القادمة
على أن نسبة ما بالحديث من أنس ، وما به من نفع ، تتوقف على ظرف الزمان وظرف المكان . وجزي الله خيرا من أعطي المناسبات حقوقها
فليس حديث المائدة كحديث الصالون . وليس حديث الصالون كحديث الحديقة . حتى ولا حديث الليالي كحديث الأصباح . ولا حديث المرأة كحديث الرجل . ولا حديث الصديق كحديث الرفيق
تصور رجلا يصبحك بحديث الشعر والحب ، أو يمسيك بحديث الموتى في ظلام الليل وهو أشبه شىء بظلام القبور . أو تصور رجلا على مائدة يفتتح موضوعا فيه شكوك وفيه خصام ، ثم هو يتشبث بوجهة نظره ويتابعها بالحجج متابعة عضو في برلمان . إنها إذا لمائدة منحوسة ، أيسر أذاها أنها تغفل أصحابها عن لذة الطعام ، أو تصوره يتحدث إلي سيدة في أسعار البورصة وسوق الغلال
وأسوأ ما في الأسوأ رجل تسلطت عليه في حياته فكرة سودتها ، فهو لا يذهب إلى مكان إلا أفرغ ما في جعبته إن الحديث فن ، فتعلم كيف تتقنه بتتبع الرجال ذوي الأحاديث الشهبة ، والعقول الراجحة ، والفكاهة التي تخف بها الأثقال
