الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 38الرجوع إلى "الثقافة"

الحرب فى مرحلتها الأولى، بعض العوامل التى أدت إلى نشوبها

Share

مضى أسبوعان منذ قيام الحرب بين ألمانيا من جهة ، وبولنده ، وبريطانيا العظمى وفرنسا من جهة أخرى . ونحسب هذه الفترة كافية لأن تعيد شيئا من الهدوء لعشاق السلام  الذين صدمهم هذا التطور المؤلم للأحوال الدولية أكبر صدمة ، فيواجهوا الواقع ويقتنعوا أن هذه الحرب كانت أمرا محتوما ، لا سبيل لتفادى وقوعه ، وأن كل المحاولات الدبلوماسية  إنما كانت تعمل  على تأجيل يومه ، ولكنها كانت صائرة إليه يوما ما ،   بالغة براعتها ما بلغت . بل لعل هذا الحل العكريه الذى انتهت إليه خير علاج لموقف دولى شاذ تتشعب على الأيام مشاكله ، وتزداد أخطاره ، وتقاسى منه الشعوب آلاما  ومتاعب ليست دون شرور الحرب ومآسيها .

كان كل هم النازية منذ استولت على السلطة فى ألمانيا منذ أكثر من ست سنوات أن تسخر كل قوى الدولة لاعداد المعدات الحربية ، وتهيئة الشعب الألمانى لحياة مسلحة قوية متأهبة على الدوام . وكانت نظرية النازى أن هذا الاستعداد القوى هو الوسيلة الوحيدة لتحطيم القيود التى قيدت بها معاهدة فرساى ألمانيا ، وهو عدا ذلك السبيل لتشغيل الملايين من العمال العاطلين الذين سيكونون خطرا على النظام النازى إذا تركوا بلا عمل ، وفوق هذا لم يكن هناك من وسيلة لتمكين النظام النازى من فرض سلطانه الشديد على الشعب سوى استنارة  روحه الوطنى ، وإفهامه أن الحياة الصارمة التى يحياها ، بما فيها من تضحيات جسيمة ، ومضايقات شديدة فى

العيش والحرية ، إنما هى ضرورة مؤقتة ، تهون بجانب الهدف الأسمى الذى تسعى إليه الدولة ، وهو استرداد قوة ألمانيا العالمية ومكانتها الدولية ، واستعادة ما فقد منها بسبب الحرب الكبرى الماضية

وقد مضت ألمانيا فى تحقيق غايتها بهمة ونشاط ، وسارت فى تنفيذ برنامجها بتخف وتكتم شديدين ، واتجهت خاصة إلى إعداد المعدات التى تتطلبها الحرب الخاطفة ، فجهزت نفسها أتم تجهيز بالطيارات والدبابات وغيرها من القوات الميكانيكية والغواصات ، ولجأت إلى سلاح الدعاية الذى أتقنت استخدامه ، فبثت فى شعبها آراء جديدة عن مزاياه الجنسية ، وتفوقه الحربى ، وحقه فى السيادة والسيطرة والتملك .

وتم كل هذا فى وقت اطمأنت فيه انجلترا وفرنسا إلى هدوء الأحوال الدولية ، ففتر نشاطهما فى التسلح ، وشغلتا بشؤونهما الخاصة ، ولم تتفق نظرياتهما فى بعض المشاكل الدولية كمشكلتى الحبشة وأسبانيا .

فبرزت ألمانيا عند ذلك ، وأشعرتهما ما أصبحت عليه من قوة ، وتم لها ضم النمسا دون أن تتحرك قوة لدفعها ، ثم لوحت بضرورة اقتطاع بلاد السوديت التى يسكنها الألمان فى تشيكسلوفاكيا ، فكان هذا أكبر نذير بالخطر للدول الديمقراطية ، أشعرها ما هى مقبلة عليه من أخطار دولية جسيمة ، إذا ترك لهذه الدولة الحبل على الغارب ، فاجتمعت كلتاهما على المقاومة ، ولكنهما قث

فى عضدهما أمران : الأول أنهما لم تكونا على استعداد لمواجهة دولة تفوقهما فى سلاح الطيران والقوى الميكانيكية . والثانى أن حجة الألمان كانت تبدو قوية فى تلك المشكلة ؛ فهى إنما تطلب ضم أرض ألمانية تسكنها أكثرية من الألمان . فكان يوم مونيخ الذى انتهى باقتطاع أرض السوديت عن تشيكسلوفاكيا ، ووضع تلك الدولة التى ولدتها الحرب تحت رحمة ألمانيا .

على أنه مما خفف وقع هذه المأساة ما غلب على الأذهان من أن هذه التضحية كانت تمنا لسلام العالم ، وأنها خاتمة المطامع الألمانية .

ولكن لم يطل الزمن حتى تكشفت حقيقة مطامع  ألمانيا ، وأنها لن تقف عند حد استرجاع الأراضى الألمانية ، بل تسعى لمد نفوذها على كل ما جاورها من الأمم . فقد ضمت تشيكسلوفاكيا إليها ، وقضت فى يوم وليلة على استقلال تلك الأمة الفتية تحت سمع العالم وبصره .

كانت هذه الخطوة أكبر خطأ وقعت فيه ألمانيا بعد سلسلة الانتصارات السياسية التى أحرزتها ، فقد فقدت بها كل ثقة العالم فى نياتها ووعودها . ولم تجد انجلترا وفرنسا وسيلة لمناهضة تلك الدولة الجشعة التى تهدد سلامة العالم واستقلال الشعوب ، سوى التضافر والاتحاد وإكمال الاستعداد ، ومقابلتها باللغة الوحيدة التى تفهمها ، وهى لغة القوة .

ومن هنا لم تكن المشكلة التى قامت حديثا ، وسببت هذه الحرب ، هى مشكلة دانزج والممر البولونى ، وإنما هى مشكلة المطامع التى لا تقف عند حد والمطالب التى تتجدد وتتزايد كلما أجيب منها طلب .

تعاهدت الدولتان ألا تسمحا لتلك الدولة النازية بفرض إرادتها بالقوة كلما شاءت ، وتعهدتا لبولندا ، وهى الضحية التى اتجهت إليها مطامع النازى ، ألا تدعاها فريسة لمطامعه ، وأن تقاوماه بالقوة إذا بدا له أن يعتدى عليها . وشجعهما أنهما استطاعتا فى الفترة الأخيرة أن تستكملا ما كان ينقصهما من العدة ؛ ورأى النازى أنه مقبل على لعبة خطرة قد تودى بكل آماله ، فتردد طويلا قبل أن يقدم على تلك الخطوة ؛ ولاح للمتفائلين أن زعيم النازى مقدر ما وراء موقفه الأخير من الأخطار ، وأنه لابد متراجع عنه . ولكن حادثا سياسيا جديدا تم فى ذلك الوقت  وهو عقد ميثاق عدم اعتداء بين ألمانيا وروسيا السوفيتية ، غير الموقف بعض التغيير . لقد كان نشاط انجلترا وفرنسا السياسى متجها فى المدة الأخيرة لكسب روسيا إلى جانبهما فى الصراع القائم بينهما وبين ألمانيا ، وكان يظن أن روسيا ستكون المنفذ لامداد بولونيا بالمعدات والذخائر إذا اشتبكت فى الحرب مع ألمانيا ، فان السبيل بغيرها منقطع بينها وبين حليفتيها ؛ ولكن روسيا اتفقت مع ألمانيا فى نفس الوقت الذى كانت تتفاوض فيه مع فرنسا وانجلترا .

ولسنا الآن بصدد تفسير هذا الموقف من جانب روسيا ، ولكن يكفى أن تقرر أن وقوعه أحدث خيبة أليمة لدى الدول الديمقراطية ، كما أنه أزاح عن صدر النازى كابوسا كان يحسب له حسابا كبيرا . ومع أن روسيا التى تتفاوض فى وقت واحد مع خصمين مختلفى النزعات والمصالح ، ليست بالصديق الذى يطمأن إلى صداقته ، ومع أن قواها واستعدادها وموقفها الأخير فى النزاع الدولى محل شك ، فيظهر أن هذا النجاح كان من العوامل التى طوعت للنازى الإقدام على خطوته الخطيرة الأخيرة .

ويذهب البعض إلى أن النازى أقدم على ما أقدم عليه ،

وقد قام بوهمه أن انجلترا وفرنسا غير جادتين فى إنذارهما ، وأنهما لن تجازفا باثارة حرب عالمية بسبب دولة لا تمس مصالحهما المباشرة .

كما يظن آخرون أنه قدر أن يعاجل بولاندا بضربة خاطفة لا تقف أمامها أياما ، ثم يلوح بالسلام للدولتين الديمقراطيتين ويفاوضهما على أساس ضم جزء منها وترك الباقى مستقلا ، ويظن أن الدولتين الديمقراطيتين لا تأبيان عليه ذلك بعد أن يتعهد بوقف حملاته .

وأيا كانت ظنونه وتقديراته ، فقد خاب حسابه وخرج الأمر عن النطاق الضيق الذى كان يحاول إبقاءه فى داخله .

فمن ناحية على الرغم من تفوقه فى العدد والعُدد على بولاندا ، وخاصة من حيث الطيارات والقوات اليكانيكية ، فقد لقى من جانبها مقاومة باسلة ، وستشتد على الأيام مقاومتها ، ولاسيما وجيشها لا يزال سليما والجزء الشرقى الذى سيينحاز إليه مملوء بالغابات والمستنقعات ، وسيكون غير ملائم لحملات القوى الميكانيكية . فاكتساح بولاندا لن يتم لألمانيا إلا بجهد وتضحيات وزمن مديد أطول بكثير مما تقدره .

ومن ناحية أخرى تواجه ألمانيا فى حدودها الغربية هجوما قويا فنيا من قوات فرنسا وانجلترا .

ومع مناعة خط سيجفريد الذى تتحصن من ورائه ألمانيا ، فان القوى الهائلة التى عبأتها الدولتان أمامه والخطط الفنية الدقيقة التى أعدها الجنرال جاملان للهجوم ، سيكون من شأنها حبس قوى ألمانية للدفاع فى حرب طويلة منهكة .

فإذا أضيف إلى هذا أن البحار قد انقطع مددها عن ألمانيا بفضل أسطولى بريطانيا وفرنسا اللذين يسيطران على مياه البحار العالمية ، وأن حالة ألمانيا الاقتصادية السيئة لا تسمح باحتمال حرب طويلة الأمد ، اتضح بجلاء مصير هذه الحرب وعلى من تدور دائرتها .

وإذا كانت غواصاتها قد أفلحت فى ضرب بعض السفن التجارية ، فإن ذلك لا يعدو أن يكون من الأمور الطبيعية فى أوائل الحروب قبل أن تنظم الأمور وتعد العدد لحماية الملاحة ومقاومة تلك القرصنة .

بقى أن ننظر فى الاحتمالات التى قد تتطور إليها الأحوال إذا اشتد على ألمانيا الحصار ؛ هل تغامر بالاغارة على شعوب مجاورة كهنغاريا ورومانيا للانتفاع بمواردها فى سد حاجاتها ؟ هل تمدها روسيا ببعض ما يعينها على مقاومة هذا الحصار ؟ هل تنضم إليها بعض الدول وخاصة إيطاليا فتساعدها على مقاومة محاصريها .

أكبر الظن أن إيطاليا ستظل محتفظة بحيادها . حسبما فصل ذلك محرر الثقافة السياسى فى مقاله ، فحيادها خير فرصة لها لتحسن شؤونها الاقتصادية ، وهى عدا ذلك لا مصلحة لها فى دخول الحرب ، وستكون معرضة لأشد أخطارها إذا هى أقحمت نفسها فيها ، وقد بدا من زعيمها فى العهد الأخير ميول سلمية واضحة ، كما أنه برهن على أنه يتوخى الحكمة والمصلحة الحقيقية لبلاده فى كل خطوة يخطوها .

وروسيا كما قدمنا لا يرجى منها كبير خير ، فهى فى شغل بمشاكلها الخاصة ، ولا سيما فى الشرق الأقصى ،  وأحوالها الاقتصادية لا تسمح كثيرا بالخروج عن بعض مواردها ولاسيما لدولة لاترجو منها مقابلا ذهبيا لما تقدمه .

بقى الاحتمال الأخير وهو أن يضطر النازى عند اليأس إلى مهاجمة البلقان ، ومثل هذه المحاولة ستضعف قواه فى الميدان الغربى ، وتوسع مجال استخدام موارده ، وستثير عليه شعوبا أخرى لا يستهان بقاومتها .

وخلاصة ما نراه أن الظروف بحسب ظواهرها ترجح جانب الدول الديمقراطية فى هذا الكفاح .

اشترك في نشرتنا البريدية