أثر القوى اللاشعورية في الحرب :
إن دوام احتمال نشوب الحرب في أيامنا الحاضرة من المشاكل التى تتطلب تحليلا سيكولوجيا دقيقا . ومما لاشك فيه أن القوي العاقله ليست هي التي توقد نار الحرب او تبقيها مشتعلة بعد اتقادها ، بل الذي يوقد نارها هو عمل العواطف والغرائز والميول الكامنة في الطبقات السفلي من العقل . ذلك لان الإنسان قد تطور خلال عصور طويلة لا يحصيها العد من جبلة بدائية ، وقد كان حتما علي هذا الإنسان خلال تاريخه الطويل أن يكافح في سبيل بقائه . ومن أجل هذا كانت الغريزتان الأساسيتان في جميع الكائنات الحية ، وهي غريزة حفظ الذات وإثبات الوجود ، من الغرائز التي ستبقى في طبيعتنا أجيالا طويلة على الأقل ، إذا لم نقل إننا لن نستطيع ان نتخلص منهما قط ، وهاتان الغريزتان أبعد أثرا وأكثر شيوعا من الغرائز الخاصة بالجنس البشري .
وإذا وزنت الحرب بميزان العقل حكمت بأنها من الأعمال الجنونية ، وعددت كل من يشتركون فيها مجانين ؛ وأشد ما فيها إيغالا في الجنون أنها تغير من طبيعة أولئك الذين وهبهم الله عقولا فلسفية واسعة فتحملهم على خيانة مبادئهم السامية ، وترجع بهم إلى أشد الأفكار وحشية وأكثرها إيغالا في البدائية . فإذا قامت الحرب رأيت الناس وكأن طبيعتهم قد تغيرت بسحر ساحر
وقد أثبت مئات من علماء النفس الأطباء بالدليل العلمي القاطع أن اللاشعور أهم أجزاء العقل وأقواها أثرا ، وأن الجزء الواعي من العقل - إذا قبس به - جزء صغير أشبه بصخور متفرقة في بحر واسع الأرجاء ، فإذا شئنا أن نفهم حقيقة القوى العقلية التي تحرك الجنس البشري ، وجب علينا أن ندخل في حسابنا البواعث الخفية التي تظهر وتنشط في أحوال وبطرق خاصة ، كالغرائز البدائية السالفة الذكر .
ومن الغرائز القوية التي تستيقظ وتثور بمجرد إعلان الحرب غريزة المخاصمة ؛ وقد تبقي هذه الغريزة مختفية غير ناشطة ، حتى إذا ما تهيأ جو الحرب وعين العدو نشأ على الفور في الكثرة الغالبة من الناس شعور بالكره والمخاصمة لا يستطيع العقل أو التدبير أو الرحمة أن تسيطر عليه ، وإن كان الناس يدركون وقتئذ بعقولهم أن الحال التي هم عليها حال لا يقبلها العقل ؛ ولكن الناس في هذه الظروف لا تسيرهم عقولهم ، ولو أنها سيرتهم لأصبحوا جميعا من دعاة السلم . ولست أقصد بهذا أن دعاة السلم هم خيار الناس ، وأن من عداهم كلهم قتلة أشرار ؛ بل أرى أنه إذا كان لا بد لنا أن نخوض غمار الحرب ليقترب العالم من عهد السلام العام فلنخض غمارها راضين . ولو انني وثقت ألا سبيل يلجأ إليها غير سبيل الحرب لمنع قيام الحركات الرجعية في العالم ، وارتداد أمة أو قارة بأكملها إلى طرق بدائية في التفكير والعمل وتدهور في الأخلاق ، لو أنني وثقت من ذلك لأعلنت من فوري أن الحرب لا تتنافى مع المنطق السليم ؛ ولكني لا أعتقد بإمكان وجود حالة كهذه تبرر الاندفاع في الحرب وخوض غمارها .
منع الحرب :
فهل فى مقدورنا أن نفعل شيئا لمنع الحرب ؟ إن الذي نستطيع كلنا ان نفعله هو ان نكشف عما في عقولنا من الدوافع التي تدفعنا إلي الحرب ، ثم ننتزعها مما حولها ونعالجها ونقضي عليها القضاء الأخير . وهذه الدوافع كلها كامنة كما قلنا من قبل في اللاشعور ؛ ومهما يكن من شأن اللاشعور في عقل الفرد فهو في الجماعات أعظم شأنا وأشد خطرا . وإذا اندفعت الأمة مجتمعة في عمل من الأعمال فإن القوي اللاشعورية يشتد خطرها حين تظهر وتثير في الأمة انواعا من النشاط الخاطئ الضار ، ويبلغ هذا الخطر أشده إذا كانت عقلية الجماعة يحركها زعيم
مسيطر يخضعها لأمره ويتصرف فيها على هواه . والأمة في أثناء الحرب تبحث لها عن زعيم ، وتضع نفسها تحت أمره مهما كلفها ذلك من ثمن ، فإذا لم تجد الزعيم الخير الصالح وجدت الزعيم الشرير ، لأنها لا غني لها عن هذا الزعيم ؛ وهي تتبعه إلي حيث يقودها ، وتثق به كل الثقة ، وهو الذي يفصح عما لا تستطيع هي أن تفصح عنه ، ويعمل مما تبعث فيه هي في كل آن من نشاط جديد وعواطف جديدة
ولقد كانت إيطاليا وألمانيا في الحقيقة مهيئتين للحرب ، ويسودهما الجو الحربي قبل أن تشتعل نار الحرب بعدة سنين . ولما أمضت ألمانيا معاهدة فرساي لم يكن هذا الإمضاء إنهاء للحرب بالنسبة لهذه الأمة ، ولم تكن الثورة النازية في عام ١٩٣٣ ، كما لم يكن احتلال منطقة الرور والاستيلاء على النمسا وتشيكوسلوفاكيا وما تبع ذلك من أحداث ، لم يكن هذا كله إلا مراحل في حرب حقيقية ظلت رحاها تدور بعد عام ١٩١٨
وقد وصف أفلاطون في كتاب الجمهورية العوامل السيكولوجية التي تعمل لإثارة الحرب ، وعبر عنها كلها بكلمة واحدة جامعة يمكن ترجمتها بلفظ " الطمع ، أو إدعاء الأمة لنفسها أكثر مما يحق لها أن تدعيه " . فإذا قالت الإمبراطورية البريطانية مثلا إنها لا تسمح لأمة أخرى أن تهدد أي جزء من أملاكها ، عد ذلك منها طمعا وادعاء لما هو أكثر من حقها . ولو أن الإمبراطورية البريطانية كانت إمبراطورية بالمعنى القديم ، أي لو أنها كانت لها أملاك واسعة خارجية تديرها وتسيطر عليها حكومة مركزية في بريطانيا العظمي ، فلا تنفذ هذه الأملاك أمرا إلا بعد أن ترجع إلى هذه الحكومة المركزية ، لجاز أن يعد امتلاك هذه البلاد والسيطرة على هذا الجزء الكبير من العالم طمعا من بريطانيا وادعاء لما هو أكثر من حقها . ولكن قانون وستمنستر قد غير نظام
الإمبراطورية من أساسه ، وجعل منها مجموعة من الدول المستقلة المرتبطة برباط التاج ، ولم تعد انجلترا تستفيد من هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف وما يظن أعداؤها أنها تستفيده منها ، وليس لبريطانيا العظمي إشراف ما على سياسة الإملاك المستقلة ؛ ولقد خول هذا القانون لتلك الأملاك الحق في أن تقرر بنفسها الانفصال عن بقية أجزاء الإمبراطورية . ذلك أمر على أهميته ينساه أعداء الإنجليز
والنفسية الحربية تتكون من مراحل ثلاث ، تقوم كل منها على أساس المرحلة السابقة لها ، وهي مرحلة ما قبل الحرب ، ومرحلة الحرب ذاتها ، ومرحلة ما بعد الحرب . والمرحلة الأولى غاية في الأهمية والخطورة ؛ ففيها يعبأ اللاشعور فتظهر المقالات المثيرة في الصحف ، والأفلام المثيرة على الشاشة البيضاء ، والخطب المثيرة من الزعماء تهيء الجو الحربي . فإذا نشأت أزمة ثم انقضت بسلام ، رأيت شعور الراحة والاطمئنان العام القائم على أساس العقل والرحمة وقد امتزج به إحساس غامض لا شعوري بالخيبة ، وقد يبلغ من قوته أن يدفع أصحابه إلى الاعتداء ولو على أعز الأصدقاء . وفي هذه المرحلة يجب أن ينشط الراغبون في السلم لمنع الأمم المتعادية من الانتقال إلى المرحلة الثانية . أما إذا تركت هذه الأمم وشأنها فإنها لا تلبث أن تنتقل من تلقاء نفسها إلى المرحلة الثانية ، مرحلة الحرب ذاتها ، بعد أن يعبأ لها اللاشعور تعبئة قوية ، ويكون وقف الحرب في هذه المرحلة الثانية صعبا أو مستحبلا .
والخوف من الأمراض العقلية التي تصيب الأمم كما تصيب الأفراد ، فتدفع الأفراد إلي الاعتداء والأمم إلي الحروب . وهذا المرض يحمل الأمة المصابة به ، أو التي يسيطر عليها زعيم مصاب به ، إلى إساءة الظن بغيرها من الأمم ، وتفسير كل حركة تصدر منها كانها موجهة إليها بالذات استعدادا للانقضاض عليها
عصبة الأمم :
أشرنا من قبل إلي عصبة الأمم ، ونقول هنا إن الفكرة التى أوحت بإنشائها فكرة سامية نبيلة ، ستبقى حية وتنمو وتثمر في المستقبل خير الثمار . أما العصبة نفسها فما من شك في أنها قد اصيبت بضربة قاتلة ، حين أبت أن تقرر منع وصول الزيت إلي إيطاليا ، وهي المرحلة الثانية من مراحل العقوبات الاقتصادية التي أريد فرضها عليها أيام المشكلة الحبشية ؛ وبعد هذه الضربة أخذت العصبة محتضر على مهل ، حتى لفظت النفس الأخير . ومن الواجب ، متي حان الوقت ، أن نبحث في أسباب هذا الموت ، وسيقول رجل السياسة في هذا الموضوع الشئ الكثير ؛ ولكن العالم السيكولوجي يستطيع أيضا أن يدلي ببعض الآراء فيه . وما من شك في أن العصبة ستبعث حية ، وأن من أكبر العيوب الأساسية في دستورها تلك القاعدة التى تجعل الإجماع شرطا أساسيا لا يمكن تجلس العصبة بغيره أن يقدم علي عمل من الأعمال . ولربما كانت هذه خطة سليمة من الوجهة المنطقية ، ولكنها من الوجهة العملية تخلق المشاكل وتثير الصعاب ، وتمنع من العمل المفيد .
ولقد قلنا من قبل : إن العصبة الجديدة يجب أن تشمل الدول الكبرى جميعها بلا استثناء ، وفيها بلا شك الولايات المتحدة الأمريكية ، وليس ما يمنع من إنشائها في نصف الكرة الغربى إذا عجزت أوربا عن إنشائها فى نصف الكرة الشرقي . ووجود العصبة تحتمه ظروف العالم وطبيعة البشر ، لأن قوي الطبيعة البشرية لا يكبح جماحها إلا إذا كان ثمة قوة مسلحة منظمة تؤيد القانون الدولي ؛ فكما أن الدولة في حاجة إلي قضاء وتشريع وشرطة تنفذ الشرائع وأحكام القضاء ، لأن فيها طائفة من الناس طبعوا علي الإجرام ، ولا يحول بينهم وبين ارتكاب أعمال الشر إلا القوة ، فكذلك الدول مجتمعة يجب أن يسودها حكم القانون الدولي الذي يستند إلي قوة تحافظ على هذا
القانون وتخضع الدول لاحكامه . ولا حاجة بنا إلي القول إن النظام والخضوع للقانون ضروريان لقيام الحياة الصالحة الطيبة في العالم بوجه عام .
الوقاية في زمن الحرب
نختم هذا البحث بكلمة موجزة عن الوقاية في أيام الحرب ، فنقول إن التجارب كلها تدل على أن الصدمات العصبية التي تصيب الجند في الميدان بسبب ما يلقي عليهم من القنابل ، يقل عددها ونقل شدتها كما ساد الجنود روح النظام ؛ وليس المقصود بروح النظام الشدة والقسوة علي الجند ، بل يقصد به الحزم المشبع بالعطف عليهم ، والعناية بأمرهم ، وبث روح التضامن واحترام النفس فيهم .
وكذلك يجب أن يعلم القائمون على شئون الوقاية المدنية أن بث روح النظام في نفوس الشعب أمر لا غني عنه إذا أريد منع الزعر والاضطراب ومنع الصدمات
العصبية التي تصيب المدنيين . ومن الخطأ الكبير السماح لأهل المدن المهددة بالضرب بالقنابل بالجلاء عنها ، لأن إخراج عدد كبير من أهل المدينة أو إخراج كل من اصيب باضطراب عصبى منها ، يؤثر في قوة السكان المعنوية بوجه عام ، ولهذا يجب أن يبقى أكبر عدد مستطاع من أهلها في مراكز أعمالهم ، وان تتخذ الوسائل التي تكفي لبث روح الهدوء والاطمئنان في نفوسهم . و لضمان بقاء الروح العنوية قوية في السكان بوجه عام ، يجب الا تبخل الحكومات بأي قدر من المال لإنشاء المخابئ الكافية لهم ، وهذا يهدئ من أعصابهم ويقلل من تأثير الصدمات فيهم . وكلما زادت وسائل الوقاية ) إتقانا زاد السكان شجاعة وأثر ذلك في الجنود في ميدان القتال ، لأنهم إذا شعروا بأن من خلفوهم وراءهم في بيوتهم من نساء وأطفال آمنون على أنفسهم قويت عزيمتهم ، وكانوا أقدر علي الحرب وأصبر علي بلواها

