الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 120الرجوع إلى "الثقافة"

الحرب والمبادئ الإنسانية

Share

لئن كانت الحرب من بقايا الوحشية البشرية القديمة ، التي لم يستطع التهذيب والحضارة أن يطهرا منها العلاقات الدولية ، فإن مما يعزي النفس بعض العزاء ، أن نرى وسط المناظر البشعة ، وحوادث الدمار والتخريب ، آيات قليلة تدل على أن دروس الحضارة لم تذهب كلها عبثًا ، وأن في النفس البشرية بقية من الخير .

وفي العهود السابقة لعصر المدنية الحديثة ، وقبل أن تبتكر أدوات التخريب الجديدة ، التي لم يعرف لها العالم نظيرًا ، كان رجال الحرب يفخرون بما تنطوي عليه نفوسهم من النبل والرأفة بالعاجزين والضعفاء . وكنا نسمعهم يقسمون بالشرف العسكري ، وهو عندهم أعز

وأجل قسم ولقد ظهرت في العصور الوسطى جماعات من الفرسان لم يكن لهم عمل سوى إغاثة الملهوف ، ومعاونة الضعيف ، ونصرة العاجز ، فكأن النفس البشرية قد أحست أن صناعة الحرب - وهي المنطوية على القتل وإزهاق الروح - ستنزل بصاحبها إلى مرتبة الضواري ، إذا لم يقلم أظفارها بمظاهر من الكرم والنبل ، فاستطاع الإنسان أن يجعل منها مزيجًا من الخير والشر ، ومن القسوة والرحمة .

كان هذا شائعًا في العصور السابقة لعهد المخترعات الحديثة ، ثم جاءت هذه المخترعات ، وهي تغري أصحابها بأن يفتكوا بالبريء والمذنب ، وبالمحارب والمسالم ،

وبالجندي في ميدان القتال ، والطفل النائم في مهده ، وبالصحيح الجسم ، والمريض العليل ، لأن في وسع هذه المبتكرات العجيبة أن تفتك بهؤلاء جميعًا من غير تمييز ولا تفريق . وكان لابد لكبح جماح هذه الآلات المفظعة من أن تزداد حرفة الحرب نبلا وشرفًا , وأن تسمو النفس البشرية إلى مرتبة التحليق الهائل ؛ ولكن شيئًا من هذا لم يحدث ، والذين ابتكروا أداة التخريب والتدمير لم يستطيعوا أن يبتكروا وسيلة يلطفون بها من شهوة التخريب والتدمير ، بحيث لا تتجاوز المحارب إلى المسالم ، والمقاتل إلى الموادع ، ووحدات الجيش إلى خدور النساء ومهود الأطفال . وقد ظهر فريق من المحاربين يرى أن الشرف والنبل مظهر من مظاهر الضعف ، وأن الحدث بالإيمان والمواثيق والعهود مظهر من مظاهر القوة والسيادة .

لهذا يحق لنا اليوم أن نغتبط إذا رأينا مظهرًا من مظاهر الرحمة والعطف , بعد أن بذل طغاة هذا الزمان كل ما في وسعهم لاستئصال الرحمة والعطف من النفس التي لا تزال تسمى "البشرية" .

لقد أخطر هذا الموضوع بخاطرنا حادث من حوادث الأسبوع الماضي ، فإن الدوق داوسطا ، نائب ملك إيطاليا في الإمبراطورية الشرقية ، قد أرسل إلى قائد القوات البريطانية ، قبيل تسليم أديس أبابا عاصمة الحبشة ، رسولًا لكي " يعرب عن تقديره للخطوة التي اتخذها كل من الجنرال ويفل والجنرال كنتجهام - من تلقاء أنفسهما - لحماية النساء والأطفال في أديس أبابا ، وأن هذا خير دليل على أن الروابط الإنسانية القوية لا تزال قائمة بين الأمم " .

لقد أدركت الحكومة البريطانية ، قبل أن يبدأ الهجوم الواسع الشامل على الأمبراطورية الإيطالية في أفريقية الشرقية ، أن أرواح الرعايا الإيطاليين من غير المحاربين ستتعرض لخطر محقق ، لا بسبب مدة الحرب المخربة

وحدها ، بل لاشتراك الأحباش في هذه الحرب ، وهم الذين أذاقهم الإيطاليون مر العذاب ، ولم يكن منتظرًا منهم أن يعاملوا بالرأفة والرحمة عدوًا نكل بهم أشد التنكيل ، واستخدم في إخضاعهم أبشع وسائل الهلاك والدمار .

أعلنت الحكومة البريطانية استعدادها لأن تساعد في نقل النساء والأطفال والرعايا غير المحاربين إلى مكان آمن ، وأعادت هذا الإعلان مرارًا ؛ ولكن الحكومة الإيطالية لم تعر هذا النداء اهتمامًا ، ولم تقم بعمل تساعد به على تنفيذ هذا الإجراء الإنساني الحكيم ؛ ولعل حكومة إيطاليا لم تكن تتوقع أن يكون الزحف البريطاني بهذه السرعة ، وأن ينجح هذا النجاح . ولهذا تبادر باتخاذ الخطوات اللازمة لحماية أبنائها وبناتها وأطفالها في الحبشة . والذي نخشاه أن يكون السبب الأكبر الذي حمل روما على هذا الإهمال ، هو قلة اكثراثها لأرواح المدنيين والأطفال والنساء ومهما يكن من شيء فقد بدأ الزحف البريطاني على الأمبراطورية الإيطالية العظيمة ، من أربع جهات رئيسية ، ومن عدة جهات فرعية ، واشترك في هذا الزحف قوات من الأحباش ، دربوا أحسن تدريب ، وجعلوا تحت قيادة ضباط من أنفسهم ومرشدين من حلفائهم ، وعهد إليهم بالاستيلاء على جوجام في قلب البلاد الحبشية . فمضوا في زحفهم من نصر إلى نصر ، حتى وقفوا على أبواب دبرا مرقص ، وأخذوا يحاصرونها .

وفي أثناء هذا كله أخذت قوات إفريقية الجنوبية تزحف من الجنوب ، فاستولت بسرعة هائلة على الصومال الإيطالي والبريطاني ، وبلاد الحبشة الجنوبية ، ثم سقطت أمامها هرد ودبرداوه وأديس أبابا بسرعة مقطوعة النظير . وبعد سقوط العاصمة أخذ الأحباش دبرا مرقص عنوة واستولوا عليها . وقد يكون هذا مجرد صدفة ، وقد يكون من باب الاحتياط أن تسقط أديس أبابا في أيدي البريطانيين قبل أن تسقط في أيدي الأحباش ، فاستطاع

الفاتحون أن يتخذوا الإجراء اللازم لصيانة أرواح المدنيين والنساء والأطفال ، قبل أن تسلم العاصمة للأحباش . وقد كان هذا كله من باب الاحتياط ؛ لأن عاهل الجيش نفسه هيلاسلاسي الأول ، قد أهاب بأتباعه ألا يجازوا الطليان بأعمالهم ، وأن يحرصوا على أرواح الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ . ولو أن الدوق داوسطا كان منصفا لخص ببعض شكره الزعيم الحبشي كما فعل مع القائد البريطاني . ولقد كان من سخرية المقادير العجيبة ، أن يكون ممثل الحكومة الإيطالية هو الذي يعلن إلى القائد البريطاني أن الروابط الإنسانية لا تزال قائمة بين الأمم ؛ فهل ذكر الدوق العظيم وهو يبعث بهذه الرسالة أن الحكومة التي يمثلها قد بذلت جهودًا جبارة في تمزيق هذه الروابط البشرية ؟ أليست حكومته هي التي اختارت لزعيم ليبي كبير ، وهو عمر المختار الشيخ الفاني ، أسلوبا في القتل ينطوي على التناهي في القسوة والضغينة ؟ ألم تكن حكومته هي التي سلطت على الحبش الغازات السامة برغم المواثيق الدولية التي تقضي بألا يستخدم هذا السلاح في الحرب ؟ واليوم ونحن في الأسبوع المقدس لعيد الفصح ، نذكر مع الأسف الشديد أن إيطاليا اختارت يوم الجمعة المقدس منذ عامين للإغارة على ألبانيا التي لم تقترف إثمًا ، ولم تجترح خطيئة ؛ ولم تكتف إيطاليا بسياسة العدوان ، بل أرادت أن تنطوي خطتها على الاستهتار بالدين وبالشعائر المقدسة . وهي البلاد التي يعيش فيها البابا زعيم المسيحية الأكبر .

فليت دوق داوسطا يذكر هذا كله ، ويذكر أيضًا أن نساءنا وأطفالنا في مصر قد ذاقو هم أيضًا القنابل الطائشة التي قذف بها أبناء وطنه ، وقطعوا من أجل هذا العمل المجيد مئات من الأميال بين الجيئة والذهاب .

ومن الغريب أن هذه الوحشية القاسية تنطوي على فكرة خاطئة اعتنقها زعيم إيطاليا منذ زمن ، وهي أن الوحشية تعلم الشجاعة والبسالة للشعوب التي لم ترزق بطبعها فضيلة الشجاعة والبسالة . وقد استطاع

الدوتشي أن يعلم أبناء إيطاليا الوحشية ، ولكنه لم يستطع أن يعلمهم الشجاعة والإقدام ، حتى اضطر في النهاية لأن يتخلى عن قيادة أمته وجيوشه ، وأن يسلم زمام قواته وموارده لزعيم ألمانيا ، يصرفها كيف شاء . وقد بقى على الدوتشي أن يتعلم أن الوحشية هي في الحقيقة ضرب من الجبن ، وبعيدة كل البعد عن الشجاعة والبسالة ، وأننا كثيرًا ما شهدنا وما نشهد اليوم أن خطة الوحشية لا تنطوي على شيء من الشجاعة والشهامة .

وإذا انتقلنا من الزعيم الطلياني إلى شريكه الأكبر الذي سلمه زمام أمره وألقى إليه مقاليد دولته وأمته ، نرى مثلا أقوى وأظهر للوحشية التي لا تنطوي على شئ من الشجاعة أو مراعاة " الروابط الإنسانية " . فلقد أعلنت حكومة يوغوسلافيا في الوقت المناسب أن بلغراد مدينة مكشوفة عزلاء خالية من الحصون . وفي صباح الأحد أي الخامس من هذا الشهر - ولم تكن يوغوسلافيا بعد في حالة حرب مع ألمانيا - احتشد سكان المدينة في الكنائس للصلاة والعبادة ، وأقبلت الطائرات الألمانية ، وقد اتخذت من بلاد المجر " المحايدة " قاعدة لهجوم ، فأخذت تلقي وابلا مدرارًا من القنابل المحرقة والمتفجرة على المدينة حتى حولتها - كما يقول البلاغ اليوغوسلافي الموجه للشعوب المتمدنة - إلى أكوام من الأنقاض والحرائق ، وقد غطيت شوارع بلغراد كلها بجثث النساء والأطفال والشيوخ . . . وقد قام باجتياح مدينة مكشوفة غير محصنة طائرات أمة تطلب لنفسها المكان الأول بين الشعوب المثقفة ، غير حافلة بالقانون الدولي ولا بالاعتبارات الإنسانية ، فهدمت في وضح النهار جميع المستشفيات والكنائس والمؤسسات الثقافية ببلغراد . وألقت على القصر الملكي ثلاثين قنبلة فهدمته ولم يسلم من فتكها حتى المنازل المنعزلة ، فقتل الزعيم السلوفيني كولوفتز ، وهو في عقر داره .

وإذا تساءلنا عن السبب الذي من أجله أغير على بلغراد وسلطت عليها ألوان التخريب والتدمير ، وما

الغرض الحربي الخطير الذي ساعد هذا التخريب على إحرازه ، لما استطعنا أن نجد سببًا يقبله العقل . صحيح أن يوغوسلافيا قد أحدثت انقلابا على أثر توقيع الحكومة ميثاقا بالانضمام إلى المحور ، وأن ألمانيا لم تسر لهذا الانقلاب ؛ ولكن الذي يصعب فهمه أن الاستياء من حادث داخلى في دولة من الدول يؤدي حتما إلى تخريب عاصمتها وإزهاق الآلاف من الأرواح البريئة .

إن الانقلاب اليوغوسلافي كان تغييرًا في الحكومة ، ومن السهل أن ينظر إليه بأنه إجراء دخلي محض . وقد كانت الحكومة حريصة على ألا تغضب ألمانيا لهذا التغيير ، فأعلنت أنها تنشد صداقة جيرانها ، ولا تبغي سوى الحياة المستقلة الهادئة لشعبها ، وأن ليس في تغيير الحكومة مظهر من مظاهر العداوة لألمانيا . فذهبت كل هذه البيانات أدراج الرياح ، وأولتها ألمانيا أذنًا صماء ، وقد صممت حكومتها على أن تعد الانقلاب اليوغوسلافي بمثابة جناية ارتكبت نحو النازيين ، ولابد أن يُعاقب عليها الشعب وأن يُفتك من أجلها بأرواح النساء والأطفال والشيوخ القابعين في دورهم ، ولابد أن يحدث هذا في يوم الأحد والناس محتشدون في كنائسهم للعبادة والصلاة .

كانت ألمانيا تتوقع من يوغوسلافيا أن تسلم للمحور بكل ما يريد ، ولهذا حشدت قواتها البلقانية في بلغاريا ، على حدود يوغوسلافيا الشرقية . أما الحدود الشمالية ، فيما وراء بلغراد ، فلم يكن بد من أن يمضي وقت قبل أن يحشد النازي جيشهم فيها ؛ ولهذا لم يكن هنالك هجوم للجيش في الميدان الشمالي ، حتى يقال إن ضرب بلغراد كان تمهيدًا للاستيلاء عليها ، فلا يخرج هذا الحادث الكريه  عن أن يكون عدوانًا صريحًا لا تشوبه أقل شائبة تبرير ...

وإذا نظرنا إلى إعلان النازيين الحرب على اليونان ، فإن من الصعب أن نرى في هذا العمل أقل ذرة مما يدعى شجاعة أو بسالة . ولو أن النازيين ممن يقدرون البسالة

والإقدام لراعهم منظر أمة صغيرة استطاعت أن تدوخ حلفاءهم في المحور ، وأن تطاردهم في ألبانيا شهورًا طوالا ، ولأكبروا هذا المظهر الرائع ، فلم يسمحوا لجيوشهم الجرارة أن تنقض على أمة صغيرة باسلة ؛

إن الذين يبحثون عن دروس الشجاعة والبسالة لن يجدوها عند الجيوش المسلحة بالطائرات والدبابات ، بل لدى هذا الشعب اليوناني واليوغوسلافي ، الذي يدافع عن حريته أمام قوات لم يعرف الدهر لها نظيرًا في عنفها ووحشيتها وعدتها وعديدها .

ومن الغريب أن ألمانيا النازية التي لم تزل منذ الربيع الماضي توغل في العدوان على الشعوب الصغيرة ، فتوقع بها أشد الأذى ، ليست في حاجة إلى اتخاذ السبل الوحشية ، فإن لديها من القوة الحربية المنظمة ما يمكنها من الاقتصار على حرب الميادين وملاقاة الجيوش في معارك بعيدة عن أن تمس الأبرياء وغير المحاربين . كذلك لا ينكر أحد أن النازيين لا تنقصهم الشجاعة ؛ ولكن الذي ينقصهم هي تلك المبادئ الإنسانية ، التى يتحدث عنها الدوق داوسطا . الذي لو شاء لاعترف بأن العصبة التي ينتمي إليها قد بذلت كل ما في وسعها لزعزعة تلك المبادئ والقضاء عليها .

اشترك في نشرتنا البريدية