قسم فلاسفة اليونان الكائنات بالنسبة للحركة إلى محرك ومتحرك وجامد ، وبنوا هذا التقسيم على الظاهر، فهناك جماد يبدو للعين المجردة ساكنا مستقرا ، وهناك جماد آخر يتحرك ويدفع غيره إلى الحركة ، فالنبات متحرك . والحيوان متحرك ومحرك ، والمطر كذلك محرك ومتحرك . وقد اختلفوا علي كنه الحركة وأزليتها مما لا يتسع له مجال هذا البحث .
ولكن الفلسفة لم تلبث في العصر الحديث أن تجاوزت الظاهر في حكمها على الأشياء وتغلغلت إلي الأغوار ، فأدركت أن كل ما في الوجود من ماديات ومعنويات لا يكف لحظة عن الحركة حتى الصخر الصلد تضطرب ذراته في غير توقف .
ويقع التطور والتغير نتيجة للحركة ؛ فلا شئ يبقى على حال ، أو مجري على غرار ما سبقه ، وإذا كان قد غاب على أرسطو أن كل ما في الوجود متحرك . فقد فطن إلى أن كل ما في الوجود متطور . وان التطور إما أن يجنح إلي الأصدق والأكمل والأعقل أو العكس .
ولكن أرسطو كان يري أن الشئ المحسوس المتطور محتفظ رغم تطوره بطبيعته ، وقد قسم الأشياء المحسوسة إلى مادة وصورة ، فالمادة التي تتطور وتبدو في صورة مفهومة صادقة تتطور إلى الاكمل ؛ فإذا تطرق إليها الفساد نكصت على أعقابها في تطورها إلى الفساد .
ولم يجد في هذا الصدد جديد ذو بال حتى جاء فلاسفة القرن السابع عشر فقرروا أن ظواهر الوجود التى تتحرك جزئيانها وتتصادم في حدود السكان تجري حركتها وفق نواميس طبيعية لا تتبدل .
لقد حاولوا أن يصوروا الوجود متطابق الأجزاء . يتحرك كل جزء منه تحركا آليا منتظما ، ويجري على وتيرة
واحدة ؛ فالوجود في نظرهم جامد محصور في نطاق محدود لا يستجد فيه جديد ؛ فكل ما ينبث فيه مكرر ، وكل ما يحدث فيه معاد ، وترتب على وجهة نظرهم هذه أن أنكروا الزمن كما أنكره بعض الفلاسفة القدماء ، فما الزمن إلا مقياس التطور والتقدم ، وهكذا أفقدوا التغير الذي يطرأ على الأشياء كل قيمة جوهرية أو أثر فعال .
ولم يحطم هذا النطاق الحديدي الذي ضربه الفلاسفة حول الوجود غير الفيلسوف الألماني هجل الذي استطاع أن يهتدي إلى الطريقة المنظمة التي يجري عليها الوجود في تطوره ؛ لقد وضع فلسفة مستجدة لفهم الحياة حين وضع مذهبه الفلسفي الجدلي ، أو مذهب الجدلية الثنائية . ولم يتم توفيقه إلا على ضوء العلم الذي أثبت أن مادة العالم لا تثبت على حال ، وان أمور العالم لا تسير على طريقة آلية ، ولكن السكون في حالة انصهار دائم وتبدل مستمر وإن كل جزئية من جزئياته لا تؤول إلى العدم ، ولكنها تتطور تطورا كيفيا فلا يتغير شكلها وحده كما قال أرسطو ، ولكن طبيعتها تتغير كذلك .
وما دام الكون دائم التبدل والتحول ، فالبحث عن طبيعته الأصلية عبث لا طائل تحته .
وجميع المحاولات الفكرية المبذولة لفهم طبيعته الحاضرة عن طريق فهم أصله محاولات مضيعة ، وهكذا سخر الكشف العلمي الحديث من آلية الفكر الفلسفي العتيق ، وقد اتسعت الهوة بينهما حتى اقتنع كل ذي معرفة بأن الفلسفة السابقة على هجل مقطوعة الصلة بالواقع ، فهي ليست سوى رياضة عقلية غير مجدية .
وصل هجل بمذهبه الجدلي ما انقطع من صلة بين العم والفلسفة ، إذ استرشد في بحوثه بآخر ما وصل إليه العقل البشري من كشف علمي . وقد ابتدا من حيث انتهى
أرسطو ، وأخذ بعمق الرأي القائل بأن الضد لا يفهم إلا بضده ، وتغلغل إلي أغواره حتى وضعه على أساس علمي وثيق الوشائج . وانتهى إلي أن كل حقيقة من حقائق الوجود لا تتضح إلا على ضوء التفاعل القائم بين النقيضين الكامنين في المضمون الواحد أو الفكرة الواحدة . فالخير مثلا لم يكن ليفهم لو لم يصطدم بالشر ، وكذلك القوة والضعف ، والصحة والمرض ، والنمو والفناء وهلم جرا . فلا وجود لشئ في نظر الإنسان إلا بوجود نقيضه ، وتطور الوجود يقع بتغلب النقيض على نقيضه وحاوله محله . ولزيادة هذا القول بيانا نقول إن كل ما في الوجود من ماديات ومعنويات ينطوي منذ نشوئه على جرثومة سلبية تؤدي إلى فنائه . وهذه الجرثومة هي النقيض الذي ينمو ، ويظل يشتد في صراعه مع نقيضه الإيجابي حتى يتغلب عليه ، فينشأ المضمون الجديد الذي يحتوي هو كذلك على جرثومته السلبية ؛ وهكذا وقد ضرب هجل البيضة مثلا لذلك فقال : إن السلبية ، وهي عملية التفريخ ، تستهلك الإيجابية في البيضة وتخرج بمضمون جديد . ولعل الفرق واضح بين رأي أرسطو في التطور ورأي هجل ؛ فيما يقول الأول إن الشئ يفقد شكله في تطوره دون طبيعته الأصلية ، يقول هجل إن التطور يتناول شكل الشئ وطبيعته معا . فلزمن يجيء على الدوام بالجديد المتكاثر ، ويجيء للجديد المتكاثر بنواميس مستجدة ، والحياة لا تسير بين ضفتي القوانين الجامدة التي خدع بها فلاسفة القرن السابع عشر ، ولكنها تزداد بما يستجد فيها من كائنات وعقائد ونواميس وقواعد ، تركيبا وتعقيدا ،
وجاهد هجل في سبيل التدليل على أن الفكر يخضع لنفس النواميس التي يخضع لها الوجود . فالعقل يتطور مثل تطور المادة . بل إنه ذهب إلى أبعد من هنا فقال : إن العقل والمادة توأمان لا يختلف أحدها عن الآخر ، أو هما شئ . متحد . وليس معني هذا أن هجل كان يناصر فكرة مادية الوجود ، أو فكرة تفسير كنه الوجود على أساس مادي ، فإنه كان يقرر نقيض ذلك . إذ بينما يقول المذهب المادى إن
الفكر يتأثر في تطوره بتطور المادة ، يقول ذلك الفيلسوف إن الفكرة أساس كل تطور ، وإنها الحقيقة الخاصة في الوجود ، وعلى الرغم من توافق الفكرة والمادة المقابلة لها ، فإن تطور الماديات وليد تطور الأفكار .
وقد عني دارون في منتصف القرن التاسع عشر بنظرية تطور الأحياء ، وتناولها من ناحية جزئية ، وهي ناحية أصل أنواع الأحياء وتطورها . وقد قرر أن فصائل الأحياء تتطور مع الزمن إلى مراتب أعلى من مراتبها بحافز الصراع الذي يسفر عما يسميه الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح . ولا تخرج نظرية الصراع هذه عن مضمون التناقض الذي قرره هجل . فما تنازع الأحياء إلا نوع من صراع النقيضين ، وما بقاء الأصلح قياسا على المذهب الهجلي إلا بقاء الأحسن أو الأسمي .
ولكن الذي يؤخذ على نظرية داروين أنها انحصرت في دائرة الصراع بين الأفراد ، وجعلت معيار قيمة كل حي وقدرته لا يخرج عن نطاق نجاحه في الحياة ، أو في كفاحه للاحتفاظ بالحياة ، والذي يفوز في ذلك الكفاح هو الأجدر بالحياة والأصلح لها ، واستمرار الصراع كفيل في النهاية بظهور الكائن الأسمي . ولم تكن نظرية داروين إلا أصدق تعبير عن صراع العصامية بعد الثورة الفرنسية في سبيل الوثوب إلي الثروة والسلطان . وقد ترتب على ازدياد نفوذ الأفراد الذين أصابوا الثروات الطائلة والسلطان الضخم من طريق الأعمال الصناعية والتجارية ، أن تحركت جموع العاملين توافقة إلى رفع مستواها المادي والاجتماعي ، وأسفر ذلك عن تكتل العمال وانتظامهم في جمعيات ونقابات . ولم تستطع الحكومات أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ذلك الصراع ، فسارعت إلي سن القوانين العادلة لتهيمن على نشاط القوي المتضاربة ، فتحمى الظلوم من الظالم والضعيف من القوي ، وقد استهدفت في تشريعها رفع الحيف قدر المستطاع عن شعوبها ، وتوفير القدر الممكن من أسباب رفاهيتها . وانتشر التعليم وارتفع مستواه . وازدادت تلك الشعوب فطنة ووعيا ، فاستطاعت أن تؤازر
حكوماتها فيما تبذل من جهود لصون حقوقها وحمايتها من طغيان من لم تردعه القوانين من الأفراد .
ثم تعد نظرية التطور والتغير والتجدد معلومة في الوقت الحاضر للفلاسفة وقرائهم فحسب ، ولكنها صارت معلومة لسواء الناس بعدما نافست الصناعة الحديثة الطبيعة العتيقة في مزج مختلف المواد وصهرها وتوليد مواد منها مستحدثة ذات صفات جديدة ، وكذلك بعدما أمكن استحداث أنواع جديدة من محصولات الزراعة ، وإرغام قوي الطبيعة على توليد ما يحتاج إليه الإنسان في حياته من حاجيات -
كان أصحاب الفلسفة الآلية أو " الميكانيكية " يرون ظواهم الحياة تنمو وتشتد ، ثم تضمحل وتموت ، وقد حسبوا أن هذا يجري على غرار واحد ؟ فالناس في نظرهم يولدون ويكبرون ، ثم يضعفون ويتوارون ، وكذلك النبات وسائر الظواي الطبيعية التي تظهر وتختفى ، ويجري كل ذلك على وتيرة واحدة بلا تغيير أو تبديل .
ولكن داروين استطاع أن يثبت انتقال الحيوان على مرور الأحقاب من طور إلي طور ، وانه يتغير تغيرا كيفيا متواليا في صفاته الجسدية والعقلية . وقد رأينا كمن هنا في مصر بعد ان ثم كشف بعض القبور المصرية القديمة والعثور على بعض حبات القمح بها ان نوع ذلك القمح يخالف النوع المعروف في العصر الحاضر ، وعلى هذا القياس يمكن القول أن القمح الذي كان ينبت طبيعيا في العصور السابقة على التاريخ كان أشد اختلافا عن قمح العصر الحاضر ، والذي يقال عن الحيوان والنبات يقال كذلك عن ظواهر الطبيعة الأخرى .
والذي يهمنا هنا في مصر من هذا البحث أن نعتصم بما يتضمن من حقائق في كفاحنا وتوثبنا إلى تحسين حالنا ، وان ندرا عن انفسنا ما يصمنا به خصومنا من جمود يزعمون أنه متأصل فينا ، وانه يقعد بنا عن تحقيق غابات نهضتنا وأننا لا نستطيع الخلاص من ريقته مهما جاهدنا في تلك السبيل ؛ فالدول الغربية التي احتلت الشرق وحققت باحتلاله رقيها الحاضر ، وفازت بالمكانة المرموقة التى وصلت إليها ،
نود أن يظل الحاضر جامدا لا يتغير ، فتظل هي في مكان الصدارة ما بقي الزمن .
وعلى ذلك حرص أبناء تلك الدول على ترديد قول شاعر الإنجليز راديارد كبلنج " الشرق شرق والغرب غرب وان يلتقي الاثنان أبدا "، وظل رجال الاستعمار يغرسون هذا المعنى في نفوس النشئ من أبناء الشرق والغرب حتى يغنوا في عضد الأولين بقدر ما يشدون من عند الآخرين . والواقع أن التفرقة بين أجناس البشر في الصفات الطبيعية والاستعداد الفكري شبيهة بالتفرقة العنصرية التى نادي بها هتلر ، فأثار حوله تسفيه العلماء والباحثين من كل حدب وصوب ؛ فالاستعداد واحد بين جميع البشر ، وما تفاوت الأجناس في مداركهم ومشاعرهم إلا نتيجة لاختلاف ظروف حياتهم وملابساتها .
وليس معني هذا أن تذعن نحن الشرقيين لظروف حياتنا وملابساتها التي تحدث بنا في القرون الماضية عن مجاراة الركب الأوربي في حضارته أو أن نترك قيادنا للزمن معتمدين على تطورنا الطبيعي . بل علينا أن نفرغ قصاري جهدنا حتى تصل نهضتنا إلى مستوي النهضة الأوربية فنرد للشرق مكانته بين الأمم . وقد أشرنا في ثنايا هذا المقال إلي بطء التطور الطبيعي ، وإلى إسراع التقدم الحضاري في خطاه يوم استطاعت الحضارة أن تدفع التطور إلي الأمام بالوسائل الصناعية ، وإن مثل القمح الذي ضربناه آنفا يمكن أن يزيد ما نريد تقريره وضوحا . فقد كانت عيدانه تنبت كل عام ، في عهد ما قبل التاريخ ، من الحبوب التي تساقطت من محصول العام السابق . فلما اهتدي الإنسان إلي الزراعة وحرث الأرض وبث الحب ، ورواه في مواعيده ، كثر المحصول وكبر الحب ، وظل الإنسان يتعهد زرعه حتي استطاع في العصر الحاضر أن يجدد أنواع القمح ويحسنها بانتخاب البذور الممتازة والإكثار منها . فإذا أجدنا حرث التربة لنهضتنا الحاضرة ، واتبعنا طريقة الانتخاب والإكثار على النحو العلمى المتبع في الزراعة فلابد أن ينتهي هذا إلي إسراع نهضتنا في خطاها صوب الرقي المرتقب .

