الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 587الرجوع إلى "الرسالة"

الحروف اللاتينية لكتابة العربية

Share

سمعت منذ شهرين أن سعادة عبد العزيز فهمى باشا الذى  اقترح على مجمع اللغة العربية أن تكتب اللغة العربية بالحروف اللاتينية، يطبع كتابا يجيب فيه على المعترضين على رأيه، فقلت لمن أخبرني: جدير بكل ذى رأى أن يدفع عنه حتى يتبين  للناس إنه مصيب أو يتبين له هو إنه مخطئ

ثم أرسلت ألى نسخة من الكتاب منذ عشرة أيام فتعجلت النظر فيه آملاً أن أجد جدالاً يمليه الإنصاف، وتحوطه التؤدة والأناة، ويقصد إلى الغاية على طريق مستقيم لا يجور به الهوى، ولا تحيد عنه العصبية، ولا يقطعه الكلام فى غير الموضوع على غير وجه

ثم عبرت الكتاب فإذا المؤلف يعدد فى القسم الثانى من  كتابه ثلاثة وعشرين عنوانا متوالية على العدد، ويحاول بعد كل عنوان أن يذكر اعتراضا ويرده، ولو استقام البحث على هذه الطريقة لاستوعب المؤلف الاعتراضات كلها، وأجاب  المعترضين جميعا غير معرج على الأشخاص، ولا هانو عن الجدال

فى الرأى إلى الاستهزاء بصاحبه والافتراء عليه. ولكن الأستاذ  عرض فى بعض هذه العنوانات لذكر أشخاص بأوصافهم  أو بأسمائهم. وأطال فى تجريحهم بأشياء توهمها لا تتصل بموضوع  الجدال صلة قريبة أو بعيدة، على حين أوجز فى الفصول التى ردّ  فيها الاعتراضات غير مبال بالأشخاص. فنم صنعه عن قصده  إلى الانتقام من ناس خالفوا رأيه، ودل فعله على أن تجريح  هؤلاء ينال من اهتمامه نصيبا أكبر من الاعتراضات التى  جادل فيها

وقد قرأت الفصل الخامس عشر الذى تكلم فيه عن كاتب  أرسل إليه بالبريد صحيفة فيها مقال يجادله فيه. قرأت هذا الفصل متعجبا مشدوها لا أكاد أصدق أن هذا الهجوم الحاقد والطعن  المتدارك خطه قلم الأستاذ الجليل. وحسبت أن الأستاذ ترك  الموضوع إلى هذا الطعن والتجريح فى أمور لا صلة لها بالموضوع  عقابا لرجل يعرف الباشا إنه يستحق ما يرميه به، ويرى ألا يضيع الفرصة للانتقام منه. وحسبت أن الرجل لو لم يكن جديراً بهذا  ما رماه به المؤلف. ثم عرفت الرجل المقصود من بعد فإذا هو  رجل مجاهد مخلص يعمل دائباً صامتاً لا يمارى ولا يفترى.  فلبثت حيران لا أدرى ما وراء هذا من سر. وللرجل قلم هو أولى الأقلام وأقدرها على الدفاع، فلست محاولاً الدفاع عنه، ولكنى

أجعل الطعن فيه والبغى عليه مقياساً لما فى كلام المؤلف من  تثبت وتورع عن ظلم الناس والعدوان عليهم وكان العنوان:   (الحادى والعشرون)  نصيبى من رد  سعادة الأستاذ

وأنا أقدم قبل مجادلته فيما أدعي، أنى كتبت فى هذا  الموضوع قبل تسع سنين حينما نشرت فى مجلة الرسالة مقالاتى  عن النهضة التركية الحديثة. وأنى عنيت به منذ غير الترك  العثمانيون كتابتهم. وحادثت فيه وجادلت فى مصر والبلاد  العربية وفى تركيا وأوربا قبل أن يختار الأستاذ عضواً فى مجمع  فؤاد الأول للغة العربية. وقد اخترت موضوع محاضرتى:    (الخط العربي. مزاياه وعيوبه)  قبل أن ينشر تقرير الأستاذ  الذى قدمه إلى المجمع. ونحن نسجل موضوعات المحاضرات  العامة أول العام الدراسى ثم نلقيها ولاء فى أوقاتها. ولم يكن  سعادة الأستاذ يشغلنى كثيراً وأنا أكتب محاضرتى وإنما عمدت  إلى البحث الصرف غير مبال بالأشخاص لاسيما سعادة الكاتب  الذى لم يبتدع هذه البدعة بل تبع فيها دعاة هم أولى بأن يجادلوا فيها

ولكن المؤلف توهم نفسه إماماً فى هذه الدعوة، وحسب  كل مجادل فيها يعنيه لا يعنى غيره، وظن أن كل مخالف عدو،  وأن العدو ينبغى أن يحارب، وأن الحرب تبيع كل عدوان

ويعلم الله أنى حين قرأت ما كتب الأستاذ عزمت على ألا  أجادله يأساً من جدوى الجدال الذى يبتدئ على هذه الطريقة.  وقلت كيف أجادل كاتبا حديد الطبع، تحمله الحدة على التسرع، وينسيه التسرع التثبت، ومن نسى التثبت كان حريا أن يسير  على غير طريق إلى غير غاية، جديراً أن يقول غير سديد، ويطعن  غير مقتصد، ثم أشار على بعض الإخوان، كما أشار  عليه بإجابة المعترضين   (بعض المهتمين بهذه المشكلة)

وأبدأ بمجادلة الأستاذ فى الخطة التى ارتضاها لنفسه، وأقول  غير متردد: إنها خطة جائرة منكرة تكفل لصاحبها ألا يهتدى  إلى صواب، ولا يبتعد عن ضلال، خطة تعنى بأصحاب الآراء  أكثر مما تعنى بالآراء، ثم لا ينال أصحاب الآراء من هذه  العناية إلا الاستهزاء والبغى والافتراء، وسواء على صاحبها أن  يقارب الحق أو يباعده، وأن يصف خصمه بصفاته أو بما يناقضها

توهم الأستاذ لى صفتين أحسب أن وصفى بهما لا يكون  إلا ميلا مع الهوى، وجورا مع الغضب، ورجما بالأوها

عرضت لعيوب الكتابة الأدبية، وبينت من شناعتها  ما لا تذكر معه عيوب كتابتنا. ثم قلت إن الكتابة الأوربية  محمية بالأساطيل والطائرات والفتنة والهيبة اللتين تأخذاننا من  كل جانب. وهى كلمة حق تجمل ما نحن فيه من افتتان بكل  ما يأتى من أوربا وازدراء لكل ما عندنا. وما قصدت بهذه  الكلمة الأستاذ عبد العزيز باشا ولا جماعة فى مصر، ولا  المصريين وحدهم، ولا البلاد العربية فحسب. بل أردت بها  ما يعم أقطار الشرق كلها من هذه الفتنة. فأثارت هذه الكلمة  ثائرة الأستاذ، وقد اعترف هو بهذه الفتنة فى نفسه حين قال  وهو آخذ بمخنق الكاتب الذى أرسل إليه مقالاً بالبريد. قال  هو يعرب عن إكباره وإعجابه بالقوانين التى أخذناها عن أوربا:

(اعلم معلماً أن العقول التى كشفت لك عن عجائب  الكهرباء. وهيأت للناس التلغراف واللاسلكي. كما كشفت لك  عن معجزات الطيران الذى طبق عليك وعلى وعلى جميع الناس  أرجاء السماء - هذه العقول لها أخ من أبويها يشتغل إلى  جانبها بمسائل القانون ويسمو فى بيئته إلى ما يسمو إليه اخوته  الآخرون، ولكنك لا تراه لأن نظرك قصير)

وكان يمكن الأستاذ أن يطرد القياس، فيقول: ولهم كتابة  هى ولاشك أفضل من كتابتنا، وهى العلاج الوحيد للغتنا. الخ. أليس قياس القانون على الطائرات ونحوها هى الفتنة التى  ذكرتها فغضب الأستاذ. ولا أدرى لماذا ثار الأستاذ فقال عني: (هنا خلع العلم ثوبه وارتدى ثوبا سواه، الوطنية اللفظية،  ولحمة أناشيد أرباب الحناجر) . ومضى يكرر هذا المعنى إلى أن  قال:   (بل لعلى واهم فيما أخشاه على الأستاذ من إمكان حمل عباراته  على معنى تعمده مسابقة أرباب الحناجر فى حلبة الوطنية اللفظية)

وجوابى أن الله يعلم وأصحابى وتلاميذى يعلمون أنى لست من  أولى الوطنية اللفظية، ولا ممن ينشدون أناشيدها ويكدون  حناجرهم فيها، بل كل صلتى بالوطنية العمل الصامت الدائب  الذى لا يبغى من الناس جزاء ولا شكورا، وأن اتهام مثلى بهذا

جدير بأن يلقى الشك فى كل ما يزعم المتهم وينفى الثقة عن  كل كلامه

ثم انتقل الأستاذ فى غضبه وانطلاقه مع الغضب غير متئد  ولا متثبت، فوصفنى وصفا آخر يناقض الوصف الأول فى  معناه، ويوافقه فى إنه باطل مثله. وصفنى الأستاذ غير عارف،  أو متجاهلاً تجاهل العارف بأنى رجل متوفر متزمت. ثم لبث  يشرح التزمت ويبين آثاره فى خلقة صاحبه وخلقه، وفى الوضوء  والصلاة والصيام والزكاة والحج؛ فكتب صفحتين فى هذا  كأن مقصده الأول الكلام فى التزمت لا الدفاع عن بدعة الحروف اللاتينية، وأنا أعرض على القارئ مقدمة كلام الأستاذ فى  التزمت ثم أسأله كيف يسمى هذا الكلام، وما ظنه بمن  يرمى به وهو يجادل فى الحروف اللاتينية، ويلفظه وهو يجادل  رجلاً بعيداً كل البعد عن التزمت، قال الأستاذ:

(والتزمت، أجارك الله، متى أخذ بخناق الرجل نكر  خلقه إنه يورث اقعنساساً فيبدو مقعر الظهر، محدب الصدر،  منتفخ الأوداج، محتقن الوجه، بارز الحدقتين. في الأوج  هامته، وفي الحضيض همته. إن لم يكن كالمعلق بحبل المشنقة،  فهو على الأقل ضابط صف معلم بأورطة الأساس، يمشي متشامخا  مدلا بكفايته بين أنفار القرعة المستجدين. هكذا يفعل التزمت.  ثم هو يخرجه من تصرفاته عن التعابير المألوفة بين الناس.  يجعله متى أراد إخراج الكلمة من فيه رطلا خرجت على  الرغم منه قنطاراً. وإذا أرسل صوته يمينا التوى فذهب شمالاً،  وإذا بصق أمامه على استواء نكص البصاق إلى الوراء، هو  يخرجه من فيه، فيرتد لما فيه فيعجبه) الخ

هذا أيها القارئ مقدمة كلامه فى التزمت ووراءه كلام  طويل تناول الوضوء والصلاة والصيام والزكاة والحج، وإن أراد  الكاتب أن يضحك باكيا فليقرأ بقية الفصل ويرى كيف تعب  المتزمت فى كيل الزكاة وخنق دجاج الدار حين جاء يلتقط الحب،  ثم طلق امرأته إذ أمرها بإخراج الدجاج الميت فلم تمتثل.  وكيف فعل فى الصلاة والصوم والحج، ثم ليدلنى القارئ على  صلة عاقلة أو مجنونة بين هذا وبين الحروف اللاتينية واللغة  العربية. . .

وأنا أنشد الأستاذ الله الحق أن يسأل نفسه هادئا إن  استطاع: أهذه الأوصاف تنطبق عليى أو عليه خلقة وخلقا.

ثم أنشده الله الحق: ألا يشعر بشيء من التناقض والتهاتر والتهافت  فى أن يصف إنسانا فى مقال واحد بأنه من أرباب الحناجر  وأناشيد الوطنية اللفظية، وبأنه متوقّر متزمت، ثم أنشده الله  الحق مرة أخرى: أحسب نفسه صادقا حين وصف بهذه الأوصاف رجلا يعلم الله وكل من يعرفه من الناس إنه من أبعد خلق الله  عنها. إن كان قد غبى على الأستاذ وصف إنسان يعاصره  ويعايشه فى بلد واحد، وخفى عليه سيرة رجل قريب منه يستطيع  أن يعرفه باللقاء والمحادثة، ويستطيع أن يسأل عنه أصحابه  وتلاميذه، إن كان قد ذهب عنه هذا كله احتقاراً بالناس أو  احتقاراً للحق أو ولوعا بالافتراء، وجموحا مع الهوى؛ فهل يثق  عاقل بكلامه فى الأمور المعنوية المعيبة، الأمور التاريخية  والاجتماعية واللغوية الدقيقة، هل يظن عاقل أن من يجرى مع  الهوى وطلق الجموح، ويساير الباطل هذه المسايرة يكلف نفسه  عناء فى بحث موضوع أو وزن دليل، ونقد حجة؟ إنى لا أنال  من سعادة الأستاذ بمثل أن أدعو القارئ إلى قراءة هذا الفصل المضحك المبكى فهو أبلغ شيء فى وصف نفسه ووصف كاتبه

وليت شعرى أهذا شيء حديث عرض لسعادة الأستاذ  أم كان بهذه الطريقة نفسها يعالج قضايا الناس محامياً ونائباً وقاضياً؟ وبعد؛ فقد قرأت فى كتاب فارسى هذه القصة: ذهب رجل إلى طبيب وشكا إليه أنه يحس فى صدره عقداً،  قال الطبيب ما صناعتك؟ قال شاعر. قال نظمت شعراً منذ قليل؟ قال نعم. قال أنشدته أحداً؟ قال لا. قال فأنشدنيه؛ فأنشده. فاستعاده مرات. ثم سأله كيف تجدك الآن؟ قال أشعر براحة،  قال الطبيب هذا شعر كان معقداً فى صدرك

لعل سعادة الأستاذ استراح بعد أن أخلى صدره من كلام  تعقد فيه زمناً طويلاً، وقد بعد عهده بمجادلته فى المجمع التى ضج  منها الأعضاء ولا يزالون يضجون ويشكون، وكان فى مجادلة  المجمع عوضى عن مجادلات ألفها المؤلف طول عمره. فإن كانت  عقد صدره قد انحلت بما لفظه علينا من البغى والافتراء،  فليحمد الله الذى شرح صدره

وفى المقال الآتى أناقش الأستاذ فى الكلمات القليلة، التى  كتبها فى الموضوع آسفاً على أنه أخرجنى عن البحث كارهاً  مشمئزاً ولا ذنب للمكره، وللناس والأقلام محن تكره فيها على  ما لا تود، وتكلف ما يشق عليها.

(للكلام صلة)

اشترك في نشرتنا البريدية