الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 319الرجوع إلى "الرسالة"

الحريم في نظر الغرب

Share

إن حياة الحريم في قصور سلاطين آل عثمان لتمثل هذا الضرب  من المعيشة الذي تصوره ألف ليلة وليلة، والذي تفنن الكتاب  الأوربيون في وصفه ما وسعهم الخيال، ففيها الأجواء المفعمة  باللذة وضروب المتع والتسلية المختلفة. ولقد ظل  (الحريم)    من الأسرار الغامضة التي تتضارب فيها الأفكار، حتى إذا زالت  سلطة الخلفاء، وأبيح للجميع أن يدخلوا قصورهم الفخمة،  كشف القناع عن الكثير مما كان يجري فيه. ولا شك أن رغبة  الغربيين في تعرف أسرار     (الحريم)   في القصور العثمانية كانت  أعظم من أية رغبة أخرى في إدراك أحوال الدولة أبان عهد  السلاطين، وكان ذلك مدعاة لأن يكتب الكثيرون - آنا بالحق  وآنا بالباطل - حول هذه الناحية، وتنافس الخيال والحقيقة في  تصوير الحياة داخل   (الحرملك)  فكان نتاجهما هذه الكتب التي  تطلع علينا بها - بين حين وأخر - دور النشر في الغرب. ومن  الكتب القيمة الطريفة حول هذا الموضوع كتابThen Harem  الذي وضعه المستشرق الإنجليزي بنزر، وكان ملماً باللغة التركية،  عاش في الآستانة ردحاً طويلاً، وخبر الحياة التركية عن كثب.  وقد وصف في كتابه هذا حياة القصور، لا سيما قصر سيراليو  الذي كان يسكنه سلاطين آل عثمان من آلاف النسوة اللائى جيء

بهن - أما بيعاً أو اقتساراً - ويصف منظر   (الخصيان)  وهم  يرفلون في أزيائهم العجيبة، فلا عجب إذا اجتذب الغربيين هذا  الوصف لحياة تكاد تكون من بنات الخيال، بل لقد يقصر الخيال  في كثير من الأحيان عن أن يتطاول لبلوغ الحقيقة  الماثلة في قصر سيراليون

يقول مستر بنزر في وصف الحرملك   (إنه دنيا صغيرة،  محكمة الإدارة، دقيقة السياسة، خلى إلا من النساء اللائى تعيش  كل منهن من أجل واجب تؤديه. . . والحرملك، وإن كان مجتمع

نسوة، إلا أنه كثيراً ما دبرت فيه المكائد، وشهدت جدرانه  تدبير دسائس تقشعر لهولها الأبدان، كما كان حظ الكثير من  نزيلاته الجميلات القتل بلا رحمة. وكم ضمت أمواج البسفور  من فتيات غضب عليهن السلطان فأصبحن طعمة لحيتان البحر  وأسماكه)  أما الخصيان، فقد أخذ عددهم يزداد كلما اتسعت موارد  السلطان. وكانوا في أول الأمر من البيض غير أنه سرعان ما حل  محلهم السود لما طبعوا عليه من إخلاص لساداتهم، أما االبيض  فكانوا أهل دس وغدر وفتنة. ومنذ القرن السادس عشر أصبح  الحرملك يدبر أمور الدولة من وراء ستار. ولما نفى السلطان  عبد الحميد إلى سلافيك عام ١٩٠٩م، أذنوا له أن يصطحب معه  في منفاه بعض المقربات إليه. أما الباقيات ويجاوزن بضع مئات  فقد أصبحن بلا عائل. وقد وصف ذلك كله فرنسيس ماك كلاج  في كتابه   (سقوط عبد الحميد)  فقال: (لقد جمعن في قصر      (ثب كابو)   في حشد عظيم، وإذ كان أغلب النسوة في حريم  السلطان قوقازيات، وكن يؤثرن على غيرهن لجمالهن الرائع،  فقد أبرقت الحكومة التركية إلى مختلف القرى القوقازية تعلن  إليها أن لكل عائلة الحق في استرداد فتاتها من حريم السلطان  سواء أكان أبواها قد باعاها أم اغتصبت من بين ذويها. ومن  ثم وفد على القسطنطينية الكثيرون من جبلي القوقاز  يخطرون في ثيابهم العجيبة، وحددت لهم الحكومة يوماً توافدوا  فيه على قصر(ثب كابو)واستعرضوا محظيات السلطان سافرات  بلا قناع. وكم كان منظر الفتيات وهن يرتمين في أحضان آبائهن  أو أخواتهن مؤثراً، بعد أن حيل بينهم وبينهم، ويئسن من  لقائهن. . . فهذا أب يقبل أبنته وقد اغرورقت عيناه بالدموع،  وهذا أخ يعانق أخته بعد أن ظنا أن لا تلاقي بعد. ولشد ما كان  التباين عظيماً بين لباس هؤلاء الجبليين ولباس بناتهم وهن يرفلن  في غالي الثياب وأبهاها. وسرعان ما جمعت كل فتاة ملابسها،

وغادرت القصر غير آسفة عليه، فبلغ عددهن يومئذ مائتين وثلاث  عشرة انثى، اما الباقيات فقد اختار منهن الأمراء من اختاروا. . .) هذا وصف شاهد عيان لمنظر من مناظر ألف ليلة وليلة.

أما قصر سيراليو فقد خيم عليه الصمت كأنما استوحش من  ساكنيه، حتى إذا كان عام ١٩٢٤ جعلته الحكومة التركية  من المنافع العامة، وطبعت من أجله دليلاً يشرح للزائرين ما يبهم  عليهم إدراكه، وإذا كان الزائر لمصر لابد له من مشاهدة الأهرام  وأبي الهول، فإن نزيل القسطنطينية اليوم ليهرع قبل كل شيء  إلى قصر سيراليو فيمتثل صورة الحريم والترف في قصور السلاطين  ويرى روعة الفن وجلاله، وكم شهدت حجراته من مآس ومسرات!

اشترك في نشرتنا البريدية