جغرافية مصر وأثرها
ليست هناك بلاد يمكن أن يتتبع فيها أثر البيئة في طبيعة أهلها أكثر من مصر. فلفهم الحضارة التي قامت في مصر القديمة يجب علينا أولا أن نصف المظاهر الطبيعية لهذا القطر
تنقسم مصر قسمين لكل منهما ميزات خاصة: مصر العليا، ومصر السفلى. والأولى شريط من الوادي يمتد من رأس الدلتا أو القاهرة الحالية إلى الشلال الأول، وهي مسافة يبلغ طولها ٥٤٧ ميلا، ولا يزيد عرضها في أي أتساع على أثني عشر ميلا، وقد لا تزيد في جهات على مائة ياردة. ويقع هذا الجزء في منخفض حوالي ثلاثمائة قدم عن مستوى الأراضي المحيطة به. ويرى فريق من الجغرافيين أن النيل هو الذي حفر لنفسه هذا الوادي العظيم أيام أن كانت الصحراء التي تحيط به غزيرة الأمطار. ويقول آخرون: إن هذا الوادي العيبي كان بمثابة الخط الأقل مقاومة للمياه المتجمعة في الجهات المرتفعة في الجنوب
عاش ساكن الصعيد في واد ضيق يحد أفقه من الجانبين صخور جيرية تقع في أعلاها الصحراء، وهي أرض تكاد تكون عديمة الأثر في حياته. وقد قسم المصري الأرض إلى نوعين: الأرض السوداء، وهو أسم أطلقه على وادي النيل بسبب لون تربته الداكن، والأرض الحمراء، وأراد بها الصحراء الرملية. وكانت معرفته بالممالك الأجنبية بسيطة إن لم تكن معدومة، فكان يرمز إليها في لغته الهيرغليفية كأنها بلاد جبلية بالنسبة لسهل مصر المستوي. وأتخذ المصري مجرى النيل مرشداً له في غدواته وروحاته، فالشمال عنده هو الجهة التي يجري إليها النهر، والجنوب
الجهة التي يجري منها. فكان يقول صعد أو نزل مع النهر بمعنى سار جنوباً أو شمالاً، وعلى ذلك لما بلغ المصري نهر الفرات ببلاد العراق سمى ذلك النهر بذي المياه المنعكسة المجرى التي تنزل مع النهر أي تسير جنوباً بدلاً من أن تجري شمالاً. وليس هناك ما يدل على عزلة المصري القديم من اعتقاده هذا ( 1)
أما في الدلتا فقد كانت الأحوال مختلفة كل الاختلاف إذ أن هذا المثلث المستوى والذي هو حديث التكوين نسبياً يكاد يكون خالياً مما يحدد أفق سكانه. ولابد أنه ظهر لهم كأنه سهل متسع يمتد حتى الأفق في كل الجهات لا تتخلله تلال ولا مرتفعات؛ بيد أن شروط العمل على الأرض كانت شبيهة بدرجة كبيرة بمثيلتها في الصعيد
ولا ريب أن أتساع الأفق أمام سكان الدلتا وانعدام صخور الصحراء مما بث شعور الحرية في كل جهة، أنتج على عقولهم نتيجة مخالفة. وكان من سوء الحظ أن رسوب غرين النيل في الدلتا مضافاً إليه حاجة الزراعة جعلت أغلب المدن الفرعونية القديمة وراء علم الباحث، ولذا لا يمكننا أن نقدر الدور الذي لعبه في تطور التاريخ المصري القديم
أما من حيث الجو فمعروف أن الوجهين البحري والقبلي يتمتعان بجو جميل على العموم، ويسقط المطر في الدلتا ويكاد ينعدم في الصعيد، وقد ينهمر عليه سيل غزير مرة في كل عشر سنوات
وتشتد الحرارة في الصعيد وتزداد شدتها كلما اتجهنا جنوباً. هذه هي أهم المظاهر الطبيعية لمصر، ولا يقل عنها أهمية موقعها الجغرافي، وهي تحمي مدخل أفريقية ضد الغزو من جهات أسيا الغربية، فقد كانت تلك الأجزاء على الدوام مركزاً للاضطرابات التي كانت أحياناً تشتد جداً إذا كان سكانها يميلون إلى الهجرة إلى دلتا مصر الخصبة، وتكررت غزواتهم وكان لكل نتائج وقتية. ولا شك أن هذه الغزوات حالت دون الاطراد في تقدم مصر. ففي كل مرة خرجت فيها مصر من الضربة التي أصابتها استنفذ هذا الخروج كثيراً من نشاطها، وكان من الممكن أن تستنفذه في نيل تقدم حقيقي
ولم تكن الدلتا أسلم في جهة الغرب منها في جهة الشرق، فهناك
عاشت قبائل ليبية لم تقتصر في سكناها على الإقليم الساحلي، بل نزلت أيضاً في الواحات التي تمتد جنوباً داخل أفريقية؛ وربما استولى بعضها فعلا على الجزء الغربي من الدلتا في عصر ما قبل الأسرات. وعلى كل حال كانت هذه القبائل الليبية طول التاريخ المصري القديم تنتهز ضعف الحكومة في مصر أو قيام نزاع داخلي فيها فتنقض على الأراضي الخصبة التي اعتقدت إنها ميراثها القديم
أما الصعيد فلم تهدده غزوات تقريباً؛ إذ ليس له جيران في الشرق ولا في الغرب؛ ثم إن الصحراء نفسها كانت بمثابة سد منيع ضد أي إغارة من الجهتين
أما من جهة الشمال والجنوب فقد كان من السهل الدفاع عن البلاد بمقدمة حربية لا تزيد على ميل أو ميلين بل لا تزيد أحياناً على بضع مئات من الياردات
وكانت الدلتا من جهة الشمال سداً منيعاً ضد غزو الأسيويين من الشرق والليبيين من الغرب
أما من جهة الجنوب فإن القبائل المتوحشة في النوبة العليا والسودان لم تزعج مصر إزعاجاً يذكر إلا في عهد الفاتح بعنخي في القرن الثامن قبل الميلاد
على ذلك نرى الأحوال في الصعيد كانت تنعم بالاستقرار الذي كان ينقص الدلتا. وفي كل مرة تقع فيها الدلتا فريسة للغزو الأجنبي نرى الصعيد ينجو منها ويصل تقدمه السياسي والاجتماعي، بل يكون على استعداد عندما تتخلص البلاد من غزاتها الأجانب أن يعيد المياه إلى مجاريها في الداخل والعمل على توسيع ملكها في الخارج
مصر قبل الأسرات
كانت مصر العليا والنوبة قبل قيام الأسرة الأولى في يد جنس واحد له مدنية واحدة ونسميه شعب ما قبل الأسرات. ولا يزال البحث العلمي يكشف لنا شيئاً عن هؤلاء القوم الذين يمكننا أن نتبع حوادثهم في مقابر البدارى، وعندما نسمع عنهم لأول مرة لا نراهم متوحشين بل نجدهم قد عرفوا النحاس ولهم فنونهم وحرفهم؛ وأهم من كل هذا أنهم عرفوا الزراعة واشتغلوا بها
وهذه الحقيقة الأخيرة هي أساس فهم حياة مصر الاجتماعية، فنظامها قائم على الزراعة - ولا نعرف أين نشأت لأول مرة بل ليس من المؤكد أيضاً أنها ظهرت في تلك الجهات مثل
وادي النيل أو الفرات حيث الظروف أكثر مناسبة لها، وإنما يمكننا أن نقول إن الزراعة وما تطلبته من صناعات تقدمت بسرعة بعد أن قامت في مصر وأخذت تؤثر في أخلاق الناس ونظمهم
أما الصيد وهو إحدى الوظائف الثلاث الهامة التي أشتغل بها الإنسان الأول فلم يلعب دوراً هاماً في الحياة المصرية. نعم يرجح أن الصحراء التي تقع على جانبي وادي النيل كانت تأوي كثيراً من الحيوانات المتوحشة، فهناك لوحة يرجع تاريخها إلى ما قبل الأسرات عن حملة منظمة أرسلت لصيد الأسود. ثم نرى في مقابر أشراف المصريين القدماء طول مدة تاريخهم مناظر تمثل أصحابها وهم يقومون بحملات لصيد الأسود والفهود والوعول مستعملين لذلك السهام. على أن الصيد كان ولا يزال عندهم وسيلة من وسائل الرياضة عند الأشراف ولم يتخذه الأهالي وسيلة للارتزاق؛ فإن هؤلاء كانوا يحصلون على حاجاتهم من اللحوم من طيورهم وحيواناتهم المستأنسة. وفي الوقت نفسه يظهر أن صيد الوعول وغيرها من حيوانات الصحراء الصغيرة التي تربى وتسمن وتقدم على المائدة مع (الدواجن المألوفة) كان ذلك من الأشياء التي تمارس لتكون مرتزقاً
أما الطيور والسمك فقد كانت برك الدلتا ملأى بكثير منها، وكانت تصاد بشباك ثم تربى للأكل. وقد عثر على بقايا الفخاخ التي كانت مستعملة لذلك. والمقابر ملأى بالرسوم التي تمثل الطيور
وقد أتخذ النبلاء صيد الطيور وسيلة للرياضة أيضاً فترى من هذه الرسوم صوراً تمثل النبيل في قاربه المصنوع من البردي وهو يصيب الطير بعصاه
وقد أولع المصريون بصيد السمك إذ كان طعاماً أساسياً للأهالي. وكان الصياد يصيده بالشص؛ أما النبيل الذي يتخذ هذا الصيد وسيلة من وسائل الرياضة والتسلية، فقد كان يصيده برمح. وقد كانت هذه الطريقة في الأصل مستعملة في عصر ما قبل الأسرات كما يستدل على ذلك من الحراب المصنوعة من العظام والنحاس التي عثر عليها الباحثون
هكذا لم يكن المصريون الأوائل صيادين بمعنى الكلمة فلم تدفعهم الحاجة إلى تتبع فريستهم مما يجعل شعب الصيادين متنقلاً غير مستقر، فقد يفر الأسد وعجل البحر أو الفيل من الصعيد
إلى النوبة ثم إلى السودان ولكن المصري لم يحاول أن يقتفي أثرها قد يختلف علماء الأنتربولوجيا في النقطة الآتية: هل من الممكن لشعب أن ينتقل من طور الصيد إلى طور الزراعة دون أن يمر بطور الرعي؟ ولكن هذه المسألة لا تعنينا هنا فإننا نجد في مصر في عهد ما قبل الأسرات، الزراعة والرعي قائمين جنباً إلى جنب
ولهذا السبب لا يمكننا أن نعتبر المصريين قوماً رعاة بمعنى الكلمة، وليست مصر على أي حال بلاداً من طبيعتها الرعي. أجل قد يكون من الجائز أن الزراعة لم تشمل كل البلاد في الزمن العريق في القدم، وأنه كانت هناك أرض مغطاة بالأعشاب مخصصة للماشية. على أي حال فإن أراضي الرعي في عهد الدولة القديمة كانت قليلة في الصعيد لدرجة كبيرة حتى اضطر القوم أن يرسلوا ماشيتهم في عهدة رعاة إلى الدلتا مدة أشهر الصيف. ولعل هذه الحال تغيرت فيما بعد وأصبحت كما هي اليوم حيث تربي الماشية على علف خاص يزرع لها
أستأنس المصريون قليلاً من الحيوانات منها الماشية التي اتخذوا منها اللبن وزودت الأغنياء باللحوم وأستعملها فوق ذلك وسيلة من وسائل النقل. وإن أهم حيوان في هذه الناحية كانت الإبل. أما الغنم فلم تقتصر الفائدة على لحومها بل كانت هامة أيضاً لأصوافها؛ ثم استعملت الخنازير فيما بعد (للدوس) فوق البذور بعد بذرها
ومن الحيوانات التي استأنسها المصريون الجدي والكلب السلوقي والقط؛ أما الحصان فلم يعرف إلا بعد دخول الهكسوس مصر. وكذلك ظل الجمل مجهولاً حتى عهد اليونان
وكان للثور أهمية كبيرة كأهمية الجاموسة في العصر الحالي. وكان الفلاحون يعملون على تسمينه بإعطائه خميرة من العجين إذا قل غذاؤه الطبيعي. وكان الرجال يحلبون البقر بدلاً من أن يقوم النساء بهذه العملية
وترى في النقوش التي تمثل لنا حياة المصريين (جنباً إلى جنب) مع الحيوانات المستأنسة صورة غزالة خجلة، وكانت هذه من الأطعمة الفاخرة للأغنياء وقد عملوا على تسمينها بإعطائها خميرة - كما كان الحال مع الماشية - وليس هناك ما يدل على أنها ربيت، بل يرجح أنها كانت تصاد من الصحراء بشباك أو فخاخ
ولم يستأنس المصريون الطيور إذ كانت برك الدلتا ملأى بالبط على أنواعه، وأدرك القوم أن صيدها بالشباك وتسمينها في مدة
قصيرة قبل ذبحها للأكل أوفر لهم من الإنفاق عليها لاستئناسها وهنا يجب أن نذكر أن الدجاج لم يعرفه المصريون حتى عهد الدولة الحديثة عندما عادت إحدى حملات تحوتمس الثالث بأشياء عجيبة من بينها طيور (تبيض كل يوم بيضة)
على أن الزراعة كانت أهم ما أشتغل به أكثر المصرين على الأقل في فترات معينة من السنة، فقد كان النيل كريماً من ناحية وقاسياً من ناحية أخرى على البلاد: فهو كريم بما يجلبه من غرين يلقيه على تربة الأرض فيجعل السماد غير ضروري تقريباً، وهو قاس لأنه بمجرد أن يتم فعل هذا يأخذ في الانخفاض فيصعب على الفلاح أن يروي أرضه منه. وإذا كانت مصر شحيحة الأمطار كانت سعادتها متوقفة على نشاط الزراع ومجهودهم في رفع المياه من النهر وتسييرها في قنوات وترع إلى أرضهم. والغريب أن الطريقة التي استعملوها لذلك هي نفس الطريقة التي يستعملها الفلاح اليوم أي بالشادوف
أهم المحصولات
كانت أهم المحصولات في العصر القديم والقمح والكتان؛ وكانت طرق الزراعة غاية في البساطة، فحينما ينخفض ماء النيل يحرث الفلاح الأرض بمحاريث من الخشب كان يجرها في عصر المملكة القديمة الثيران، ثم يبدر الحبوب وتدوسها الغنم كي تغرسها في الأرض (وقد استخدمت الخنازير فيما بعد في هذه العملية) ثم يلي ذلك أسابيع يقضيها الفلاح في العمل بنشاط أمام الشادوف. فإذا طاب الزرع حصد الفلاح القمح وترك العيدان في الأرض، ونقل القمح المحصود في شكل حزم على الحمير إلى الجرن، وهناك تدوسه الحمير والماشية، ثم يذرى في الهواء بمذراة من الخشب فينفصل التبن عن القمح (الحب) ثم يوضع القمح في الزكائب وينقل إلى مخازن خاصة تتكون من بناء من اللبن كالقباب له فتحة صغيرة في أعلاه يصب القمح منها، وفي أسفل البناء باب لسحب الغلال حسب الحاجة. وكان الكاتب يشرف على هذه العملية فيدون في لفائف ورق البردي التي يحملها ما يخزن من الغلال زكيبة زكيبة وما يخرج منها
وقد استعمل الشعير والقمح في صنع الخبز وعمل الجعة. وزيادة على هذه المحاصيل كانت هناك نباتات أخرى أهمها الخضر المختلفة وخصوصاً البصل، وكان غذاء أساسياً؛ ثم فواكه كثيرة
أهمها التمر والتين والعنب، وكانت تكثر زراعته في الدلتا، وقد صنع المصريون من التمر نوعاً من النبيذ والعرق
توحيد القطرين
كانت مصر قبل الأسرة الأولى منقسمة إلى مملكتين منفصلتين: مملكة الوجه القبلي ومملكة الوجه البحري. وكانت هاتان المملكتان مقسمتين إمارات لكل منها طوطم خاص كان بمثابة علم الإمارة الذي كان يحمل أمام رئيسه. ومما لا شك فيه أن بعض هذه الرموز كانت اسماً للمقاطعة باللغة الهيرغليفية، وكان البعض الآخر رموزاً للقبيلة؛ ومن هذه الرموز ما هو في شكل حيوان كالأرنب والوعل
ويعتقد العلماء أن أصل هذه الرموز راجع إلى إن مصر كان يسكنها في وقت ما قبائل مستقلة، كل قبيلة ترمز لنفسها بنوع خاص من الحيوانات أو النباتات يكون معروفاً لجميع أهلها ويميز كل قبيلة من غيرها
وحدث قبل قيام الأسرة الأولى أن انضمت قبائل الوجه القبلي وكونت مملكة واحدة، وكذلك فعلت قبائل الوجه البحري ثم قامت محاولات لتوحيد القطرين، وتم ذلك على يد رجل واحد عرف باسم مينا. ويرجح أنه بقيام الأسرة الأولى انتهى الدور الطوطمي بمدلولاته الاجتماعية؛ وأهم ما تركه من آثار مجموعة الآلهة التي في جسم إنسان ورأس حيوان مثل تحوتي ورمز له بطائر أبي منجل، وسبك ورمز له بالتمساح، وحوريس ورمز له بالصقر
كان اندماج القبائل في كل من الوجهين القبلي والبحري أمراً طبيعياً، لأن انتشار الزراعة أدى إلى الرغبة في الاستقرار وإدراك المصلحة المشتركة؛ أما انضمام الوجهين إلى بعضهما فقد كان أقل ضرورة، إذ كون كل منهما وحدة جغرافية قائمة بنفسها؛ ولذلك يرجح أن هذا الضم تم على يد رجل ذكي دفعته أطماعه إلى ذلك. هكذا استطاع مينا أن يوحد القطرين وأصبح الميدان حراً لظهور شعور قومي. ومع أن المصريين حافظوا على ذكر هذا الضم وحرصوا على إظهاره في ألقاب الملك وفي أسماء دواوين الحكومة إلا أن الاندماج كان في الواقع تاماً وأبدياً فأصبحت مصر منذ ذلك الوقت - عدا فترات الفوضى القصيرة -
مملكة واحدة (البقية في العدد القادم)
