" ليست هذه القصة من بنات خيالي . لقد قصها على رجل من رجال الدين كان معلما في كليه وولواتش منذ أربعين عاما ، أقسم لي أخلظ الأيمان على صدقها ، مارك توين
كانت الوليمة قد أقيمت لتكريم رجل من الأشخاص القلائل الذين كانت أسماؤهم تلمع في سماء المجد إذ ذاك ، هو أحد قواد الجيش الإنجلزي الذين أبلوا بلاء حسنا في حرب القرم ، وهو احد هؤلاء الذين لا تفتا الصحف والأندية تردد أسماءهم ، وتقتص أخبارهم وحركاتهم في إعجاب وتقدير بالغين .
كنا نجلس إلي المائدة متقابلين تقريبا ، فهو أمامي لا يفتا بشير إلي هذا ، ويحي ذاك ، ويجيب ثالثا ، وقد تعلقت ابصار الحاضرين جميعا بوجهه تتابع حركاته ، وقد أخذنا جميعا ما يشبه الزهو والفرح ، ان نكون المحظوظين الذين يرونه محسها ، بلحمه ودمه ، بينما تتلهف الجماهير في كل مكان على رؤية صورته ، أو سماع أخباره .
أي لذة وأي متعة للعين والقلب معا ، أن أجلس ، واستمع ، واري ، هذا العظيم ، في هيئته النبيلة ، وهدوئه العذب ، ووداعته الرائعة ، وهو يوزع وقته بين الحاضرين في تواضع وكرم ، غير واع لهذه المئات من الأعين التي ترمقه بإعجاب ، وإن هذه القلوب المحبة التي تهفو إليه كأنما تهفو إلي طيف ملك كريم ، تواضع فنزل إلي أهل الأرض يحدثهم ويحدثونه ؟
كان جاري إلي المائدة صديق من أصدقائي القدماء ، قضى الشطر الأوفي من حياته في خدمة الجيش ، فعمل أول
ما عمل معلما بكلية وولوتش الحربية ، ثم التحق بعد ذلك بوحدات الجيش ضابطا متطوعا ، حتى إذا ما وضعت حرب القرم اوزارها لجا إلى الكنيسة ، واستقر في خدمة الدين قانعا من حياته بهذا النصيب .
وأوشكت الوليمة على الانتهاء حينما مال على صاحبي هذا ، وهمس في أذني مشيرا إلى البطل الذي احتشدنا لتكريمه :
- أتسمع مني بإ صاحبي ؟ إن ما وصل إليه هذا البطل الذي تراه أمامك من مجد ومكانة ! إنما كان بمحض المصادفة ، وإحدي الاعيب القدر .
كنت أعرف عن صاحبي خلقه الرصين ، وانه ليس ممن يتحدثون لمجرد الحديث وقتل الوقت ، وما عرفت عنه يوما انه ممن ينتقصون اقدار الناس . لذلك نظرت إليه وقد عرثني الدهشة والاستغراب لهذا الذي يقوله ، دهشة قد لا تزيد عنها دهشتي لو كان هذا الانتقاص موجها إلي نابليون أو سقراط مثلا ، ولكنني لم أفه بكلمة ، فقد أشار إلي في هدوء ، أن أسكت ، فسكت على مضض
ومرت أيام على الوليمة لقيت بعدها صديقي القسيس فجلس يقص على قصة هذا القائد الموفق ، ويشرح لي سر ما آثار دهشني وعجبي . وهنا ليعذرني القاريء إذا أخفيت اسم هذا العظيم ، واطلقت عليه اسما ضخما ،
يتقارب مع اسمه في الضخامة والطول . . وليكن هذا الأسم . . " الليفتنانت جنرال لورد ارثر سكورسى " . قيل ذلك سلسلة من رموز قشير إلي ما يحمل من نياشين واللقاب
قال لي صديقي : منذ أربعين عاما كنت معلما بالأكاديمية الحربية بوولوتش ، وكان سكورس طالبا بأحد الفصول التي انتدبت للاشراف على امتحاناتها التجريبية ، التى تقام بأواخر العام لاختبار الطلبة وتهيئتهم للامتحانات النهائية .
وبدأت عملي فراعني من الطلبة هذا الذكاء الخارق والسرعة في الأجابة على الأسئلة ، بقدر ما رثبت لحال سكورس الذي كان لا يعرف شيئا بالمرة ، جاهلا بكل ما يحتمل كلة الجهل من معان ، لا يكاد يتلقي سؤالي حتى يضطرب لسانه ، ويتصبب بالعرق جيبته .
رثيت له اشد الرثاء ، فقد كان وديعا ، في عينيه ووجهه شئ يثير في النفس عطفا يبعث على ما هو اكثر من الرثاء ، كنت اتألم لحال هذا الشاب بدافع خفي لا ادري ما هو ، فبيما كان إخوانه يجيبون في سرعة ونشاط ، كان هو قد وقف في مؤخرة الفصل كانه تمثال خشبى ، كلما حاول ان يتخلص من موقفه ، فاه لسانه باجابات لم يكن أبلغ منها في الدلالة على الجهل والغباء .
وثارت في نفسي وتحركت في اعماقها توازع تدافعت فى شدة ، كلها عطف وحنو على هذا المسكين التعس الذي لا يعرف ماذا يقول ، وقفز إلى خاطري فجأة خاطر جري ، .
إن هذا الشاب راسب لا محالة في الامتحان النهائي فهو لن يحتمل دقيقة واحدة امام ممتحنيه حتى يقتنعوا بعدها بعدم صلاحيته ، فماذا على لو خففت من سقطته ، وهونت عليه ، إلى حد ما ، هذا العناء الذي سيلقاه؟ ماذا
على لو اعنته على الفشل بشيء من المعلومات التي قد تعرض له في امتحانه ، فلا يلقي ما يلقاء الآن من الهوان ؟
إن ذلك لن يضير احدا . وإذا كان لابد من رسوبه فلتكن سقطته هينة ، لا تحطم نفسه ولا تذل هاتين العينين الصافيتين ، ولا تطفئ هذا البريق الجذاب الذي يلمع فيهما .
وانصرفت عن إخوانه إليه ، وأخذت أدلله وأروضه كانه جواد جامع ، حتى اطمان إلي ، فعرفت منه انه يحفظ قليلا من تاريخ يوليوس قيصر ، حفظا مهوشا ، لا أثر للفهم فيه .
وجدت إذ ذاك منفذا إلى غرضي ، فرحت أطوف به في تلك الدائرة التي استقرت فيها معلوماته ، وجعلت ادربة على الاسئلة التي قد يلقيها الممتحن إذا عن له أن يسأله في تاريخ قيصر ، وكلى أمل أن لا يخلو الامتحان من واحد منها فيحظى ببعض درجات تلطف من سقطته وفشله .
وكان الأمر الثاني بعد التاريخ هو امر الرياضيات ، كان جهله بها مطبقا لا امل في تخفيفه او مداراته ، ومع ذلك فقد كافحت معه ولقيت في ذلك العنا ، لأن ترويض وحش ضار كان اهون شأننا من إفهامه مسألة رياضية واحدة ، حصرت جهدى في بضع مسائل يرجع ان يعرض لها الممتحن ، ورحت ادربه عليها ، حتى إذا استوثقت من فهمه لها تركته وقد تملكني نحوه شعور يشابه في كثير شعور الام ترقب في قلق مصير ابنها الصغير وقد شلت قدماه ، شعور حنان غريب لم أكن أتمني له فيه أكثر من فشل خفيف لا يلحظه احد ولا يثير عليه سخرية إخوانه وأساتذته
ومضت الأيام وجاء الامتحان ؛ فهل تعلم ماذا حدث ؟ لم يفشل صاحبنا لا فشلا ذريعا ولا فشلا هينا ، بل نجح وأي نجاح ؟
أما في التاريخ فقد أجاب بسرعة ومهارة حتى لقد هناء،
اساتذته ومنحوه اعلي الدرجات ، بينما مر إخوانه في الامتحان لم يشعر بمن نجح منهم أحد .
وأما في الرياضيات فقد نال الجائرة الأولى التي تمنح لأول الفائزين .
وهكذا لعبت المصادفة والحظ أول لعبة لن يحدث مثلها مرتين في قرن واحد من الزمان ، حدثت مرتين لهذا الشاب في يوم واحد فلم تخرج اسئلة امتحانه في التاريخ ولا في الرياضيات عما دربته عليه
أو تظن أنني فرحت لهذه النتيجة ؟ كلا . لقد طار عقلي شعاعا . قضيت أسبوعا كاملا
لا يغمض لي جفن ولا يهدا لي ضمير . إن ما فعلته بسبيل العطف والحنان قد انقلب وبالا وشرا ، لقد كنت أرجو أو اهون عليه الفشل ، فإذا بي أسيد له السبيل لفوز لا يستحقه
كان شعوري كصانع ((فرنكنشتين)) ندما وتحسرا وهلعا . أي ندم ! اكثر من انني قدمت لامتى شخصا لا قيمة له ليحمل عبئا من اعباء الدفاع عنها . رأس من الخشب قدمته لوطني على أنه رأس إنسان ليدير بعض شأنها ويرعي مصالحها .
كان كل ما يشغل فكري حقيقة هائلة تملأ رأسي رعبا ، إن هذا الشاب سيخطو في الحياة ويحمل بعض المسئوليات ، وسيذهب هو وماحمل من مسئولية إلي الشيطان في اقرب فرصة ، سيضيع ويضيع معه شان من شؤون هذا البلد ، وأنا المسئول الأول عن هذا المصير .
وتتابعت الحوادث بسرعة ، وأعلنت حرب القرم ، فكدت اتنفس نسيم الراحة حين علمت أن هذا الأحمق سيذهب إلي الميدان ، فلا تلبث سماقته ان تكشف امره ، فان حسن حظه إلي النهاية فسيلقي حتفه قبل أن يسيء بجهله إلي أحد .
ومضيت انتظر في قلق الخلاص من هذا المخلوق الذي
صنعته ، فلم تلبث النتيجة ان جاءت لتزيد قلقي ورعبي ، فلم تمض ايام على إعلان الحرب حتى صدرت الاوامي بتعيينه قائدا لفرقة من المشاة ، وهي رتبة يبيض شعر الكثيرين قبل ان يظفروا بها ، جاءت تسعى إلي هذا الشاب بالمصادفة المجردة والحظ الاعمي تحت ستار تعليلات ثلاثة ، قدر يسير في ركابه ، وحرب تتطلب الجنود والقواد ، وتفوق في الامتحان لا يعرف سره ولا يحمل وزره إلا أنا
لقد اصبحت امام امر واقع وحقيقة راهنة ، لقد حدث خطأ انا المسئول عنه ، لقد أخرجت للوطن عدوا سوف يؤذيه ، فعلى وحدي يقع عبء حماية الوطن من شره . لابد ان اتبع هذا الشاب حينما ذهب ، وإنى سأراقب حركاته واحول ما امكن دون جنايته على الوطن ، حتى لو ادي الأمر إلى قتله ، فأنا وحدي الذي يجب ان اقتله لانني وحدي قد خدعت الوطن فيه
وهكذا شرعت آخر الأمر اصفي ما أملك وما ادخرت خلال أعوام ، وسعيت حتي التحقت بفرقته ضابطا صغير الرتبة بعد ان بدلت في سبيل ذلك ما أطبق من مجهود وما املك من مال ؛ وهنا نبدأ اللعبة الثالثة يا صاحبي من الأعيب الحظ ؛ لا استطيع ان اسمي حياة سكورسبي من هذا الحين إلا سلسلة من الحماقات ، وأي حماقات ؛ لقد كان كل ما يعمل خطأ لا يقع فيه طفل ، خطأ لو ارتكبه أعظم قائد تسقط على الفور من سماه مجده ومرغ اسمه في التراب والوحل ؛ ولكن الحفظ لم يكن عابئا حين وقف إلي جانب هذا الشاب ، بل كان جادا يتحدي الذكاء والعلم والصواب
أما الأخطاء فقد سماها الناس إلهامات من العبقرية ونفحات من النبوغ ، وأما نتائج هذه الاخطاء فلم تكن أحكم خطة تصل إلي ما تصيبه من نجاح .
كانت كل حماقة تصعد به خطوة في طريق المجد . وكنت أنا وحدي - من يعرف سر هذا الشاب
أقف مبهوتا للآمرين ، فداحة الخطأ . . وروعة النتائج . وكثيرا ما خالجني خاطر كنت أفرق له ، سوف يعلو هذا الانسان حتى إذا حان حينه نزل من عليائه كالشهاب الهاوي .
ولكن خاطري لم يتحقق يوما من الأيام ، فقد ظل سكورسبي يصعد درجة فدرجة متخطيا سادته في العلم والذكاء ، وكانما كانت أحداث القتلي في الحرب فراشا لينا تخطو عليه قدماه إلي القمة ؛ ولم يطل الوقت ، فقد خطت الحرب إلى اشد مراحلها ، وفي ساعة قاسية سقط قائدنا الأعلى صريعا في الميدان ، وتلفت فإذا بسكورسبى ، التمثال الذي صنعته من الخشب ، يرتفع إلي قيادة الحيش تقديرا لعبقريته ونبوغه .
شارفت النهاية أخيرا ، ما في ذلك شك ، فلسوف يقودنا سكورسبي إليها ، فلا يذهب وحده ، بل يذهب معه جيش مكدود ، ووطن لن تكف دعواته باللعنة تنهال علي جدئي في القبر .
كان جيشنا يحتل مكانا حيويا بالنسبة للميدان ، فنحن في مواجهة العدو ، ومن هذا الموقع نستطيع ان نصليه نارا حامية ، وأي خطأ يحدث في حركاتنا سيؤدي بنا إلي الهلاك حتما ، اي حركة إلي اليمين أو إلي الشمال تفقدنا أحسن مركز حصلنا عليه أثناء الحرب .
وترقبت المصير المحتوم ، ان يأمر سكورسي بالتحرك إلي مكان آخر لا لشيء إلا ليمارس حماقته وجهله على حساب اجدائنا ، ولم يخب ظني ولم يطل انتظاري ، فقد صدر الأمر وتحركت قواتنا نحو مرتفع مجاور لا يخطر لعاقل ان يتصور وجود عدو يشرف عليه منه ، ولا يخطر مجنون ان يامر بالسير إليه لجيش مثل جيشنا هو مجرد فرقة واحدة قد انهكها التعب ، بينما قد توزعت باقي الفرق في مختلف الميادين ؛ فلو قدر لنا ان نلقي عدوا فلن نقوي على مقاومته مثل ما نستطيع ان نقاوم به في مركزنا
الأول ، فنحن هالكون على الحالين .
ولكنا لم نهلك وإن كنا رأينا الهلاك بأعيننا ، حين راينا جيشا روسيا كامل العدة قد اشرف علينا من اقصي المرتفع ، جيشا يستطيع أن يلتهم قوتنا الضئيلة في لمح البصر ، ولكنه لم يفعل لسبب واحد هو حظ سكورسبي وحده .
ايقن الروس حين راوا طلائع فرقتنا انها مقدمة للجيش الانجليزي كله ، فلم يكن يخطر لفرقة ان تجازف بالذهاب إلي هذا المرتفع ، ولم يكن يخطر للروس أن تكتشف حركاتهم بهذه السرعة ، خطر لهم كل خاطر إلا ان هناك أحمق ترفعه المقادير ، فتصوروا ان حيلتهم كشفت ، واننا مقبلون بكامل قوتنا ، فلم تمض لحظات حتى تقهقروا في هلع واضطراب هابطين من المرتفع تتبعهم نيراننا مسجلة نفحة جديدة من نفحات العبقرية للبطل الفذ سكورسي
أتقف حماقات سكورسي عند هذا الحد ؟ لا فهناك الحظ يريد له المزيد !
صدر امر القيادة العامة بعد هذا النصر الباهر الذي ناله سكورسبى ان يتوجه جيشنا إلي الخلف قليلا ليساعد الميمنة ويقوي مركزها ، فبدلا من ان يامرنا سكورسبى بالسير إلي الوراء أمرنا بالسير إلي الإمام خلف الجيش المتقهقر ، وبدلا من الإنحراف إلي اليمين انحرف بنا إلي اليسار ، فقطع خط الرجعة على جناح الجيش الروسي الذي كان يوشك ان يستعيد ثباته ، وهكذا تمزق جيش الأعداء في موقعة لم يشهد الروس يوما اشد هولا منها ، وكتب التاريخ لسكورسبي صفحة ناصعة كلها ذكاء وعبقرية ونبوغ " .
شهد صاحبي القسيس بعد ان فرغ من حديثه ( البقية هي الصفحة التالية )
وارتفع ببصره إلي السماء كانما يرقب شيئا يخاله من بعيد ، ثم عاد إلي الحديث في صوت خافت :
((إنه أعذب شخصية عرفتها في الحياة ، كل شي فيه يبعث على الحب والحنان ، يري كالطفل ، ولكنه لا يعرف اين يختبئ إذا أمطرت السماء ، إنه ملك لا عقل له ، هبط إلى الأرض ، تدفعه قوة خفية في طريقه إلي السماء ، ففي خلال خمسين عاما في حياته العسكرية لم يفعل شيئا لا يعد حماقة ، ولم تذهب حماقة واحدة من حماقاته دون ان تسجل له نصرا في الميدان وتقديرا لدي الناس )).
. . واشار في اضطراب إلي صورة لسكورسى قد علقت على الحائط قائلا في انفعال
" انظر . انظر إلي صدره . ألا تري هذه الأوسمة المتراصة كانها النحل تجيش به الخلية ؟ إن كل واحد من هذه الأوسمة يحمل إلي ذهني ذكري حماقة من حماقات سكورسى ، كما يحمل إلي ذهني برهانا جديدا على أن احسن شئ في هذه الحياة يناله الانسان هو ان يولد محظوظا سعيد الطالع " .
