كان عدد المكشوف الأخير خاصا بوصف الحفلة التذكارية السنوية لجبران ونشر ما قيل فيها من الخطب. ولعل قراءنا لا يعلمون شيئا من تاريخ هذه الحفلة، فنحن ننقل لهم طرفا مما كتبت المكشوف:
عندما توفى جبران خليل جبران منذ سبعة أعوام خلف ثروة قيل أنها تبلغ خمسين ألف دولار، أوصى بها لشقيقته مريانا التي رافقت جثمانه إلى لبنان، ثم عادت إلى بوسطن، حيث تقيم الآن
وفتحت وصية جبران فإذا هو يطلق يد ماري هاسكل في مخلفاته الأدبية ولوحاته الزيتية على أن تختار ما تشاء منها فترسله إلى بشرى. أما ربع مؤلفاته الإنكليزية فقد أوصى بإنفاقه على المنافع العامة في وطنه الصغير
وبلغ مجموع ما أرسل إلى بشرى منذ سبع سنوات إلى اليوم ٢٥ ألف ليرة لبنانية سورية، ويتراوح الدخل السنوي من المؤلفات بين ٦و٧ آلاف دولار
وترك جبران مخطوطة كتاب بالإنكليزية عنوانه (حديقة النبي). ولكن شقيقته مريانا رفضت ضم دخل هذا الكتاب إلى دخل رفاقه بحجة أن الوصية تشمل الكتب المطبوعة لا المخطوطات. وكانت بينها وبين لجنة جبران الوطنية في بشرى منازعة حول هذا الحق نظرت فيها المحاكم الأميركية فحكمت لها، لأن لجنة جبران لم تتمكن من إقامة وكيل عنها إلا بعد مرور الزمن بعد صدور الحكم لمصلحة مريانا
أما ماري هاسكل فقد نفذت القسم المتعلق بها من الوصية وتتولى الآن تنفيذ القسم المتعلق بالإنفاق على المنافع العامة في بشرى لجنة مؤلفة من ١٦ عضوا يمثلون جميع الأسر البشراوية ويرأس هذه اللجنة الأستاذ سليم رحمة. ويتجدد أعضاؤها كل سنتين، وهي التي تحيي كل سنة حفلة تذكارية لليوم الذي وصل
فيه جثمان جبران إلى لبنان. فيقام قداس في دير مار سركيس الذي يضم بين جدرانه رفات جبران، ثم تقام حفلة خطابية يتكلم فيها أدباء بدعوة من اللجنة
وكان يوم ٢١ أغسطس الماضي موعد الحفلة التذكارية، فانتدب غبطة البطريرك الماروني سيادة المطران الحاج لإقامة الذبيحة الإلهية في الصباح. وبعد الظهر غصت باحة فندق لبنان الكبير بالمدعوين إلى الحفلة الأدبية التي ترأسها سعادة فؤاد بك البريدي محافظ الشمال وحضرها جمهور غفير من الأعيان والمصطافين وقد تعاقب الكلام عن جبران وأدبه الأساتذة مارون عبود وعمر فاخوري وخليل تقي الدين وحليم كنعان
وقد قال الأستاذ سليم رحمة في خطابه الذي تحدث فيه عن الأعمال التي قامت بها اللجنة:
(أما العمل الذي تعتبره اللجنة في مقدمة واجباتها فهو إنشاء جائزة سنوية قدرها مائتا ليرة لبنانية سورية تشجيعا للتآليف القيمة وسعيا لتحقيق أمنية في نفس جبران عندما كان لا يزال في قيد الحياة. ويسر اللجنة أن تساهم بهذه الجائزة في الحركة الأدبية، على أن تمنح الجائزة الأولى لأفضل كتاب يدرس جبران درسا واسعا عميقا شاملا. وقد سعت اللجنة في تأليف مجمع أدبي من كبار أدباء لبنان قوامه تسعة أعضاء: سبعة من حملة الأقلام المعروفين واثنان من بشرى)
ومن أنفس ما نشر في هذا العدد فقرات من رسائل تبودلت بين جبران ومي وجدت بين مخلفاته؛ وهي تكشف عن ناحية مجهولة في حياة الصديقين العبقريين نختار منها قطعة من رسالة لمي تاريخها ١٥ يناير سنة ١٩٢٤
(. . . ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به. ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيرا فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر. أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير. ولكن القليل في الحب لا يرضيني. والجفاف والقحط واللاشيء خير من النزر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط به، لا أدري. الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به، لأنك لو كنت حاضرا بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمنا طويلا فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا لأني بها حرة كل هذه الحرية
أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إنه خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب؟ إن القديس توما يظهر هنا. وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. ما هو؟
قل لي أنت ما هو هذا؟ وقل لي ما إذا كنت على ضلال أو على هدى، فإني أثق بك وأصدق بالبداهة كل ما تقول. وسواء أكنت مخطئة أم غير مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما في يظل حائما حواليك، يحرسك ويحنو عليك.
غابت الشمس وراء الأفق. من خلال السحب العجيبة والأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة، نجمة واحدة، هي الزهرة إلهة الحب. أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وجد فيها من هي مثلي، لها جبران واحد حلو بعيد بعيد هو القريب القريب، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم
أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحبه، فتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانبا لتحتمي من الوحشة في أسم واحد: جبران. مصر، ١٥ يناير سنة ١٩٢٤
وحى بغداد
صديقنا الدكتور زكي مبارك من الشعراء المقلين القلال. وقد يفيض عليه الإلهام في بعض أحواله فيطول نفسه ويتسع مداه. وقد نظم في هذه الأيام قصيدة عصماء بلغت أبياتها ١١١ بيت عنوانها (من جحيم الظلم في القاهرة، إلى سعير الوجد في بغداد). وقد تفضل فخص بها الرسالة، وسننشرها في العدد المقبل.

