كان نظام الحكم في الإغريق ، أول ما كان ، فيما وصل إلينا علمه من التاريخ ، نظاما ملكيا
فالعصور الهومرية الأولى كانت عصور حرب دائمة ينتظم فيها المجتمع الإغريقي ، وعلاقات الناس بالناس ، والبيت بالبيت ، والمحكوم بالحاكم ، بما ينفق وضرورات الحرب القائمة . وكانت المجموعة السياسية الواحدة والإغريق مجموعات عدة - تتألف من أسر ترتبط
بروابط الدماء . وكان لهذه الأسر الكبيرة المديدة أشياخ . وكان علي رأس هؤلاء الأشياخ شيخ ) كبر بدين له الكل بالطاعة . وكانت تلك المجموعات السياسية مجموعات متنقلة متيمة لا انجهاد لها ، فكانت عيشتهم اشبه بأعراب
البوادي وإن لم يكونوا في بادية . وكانت أشياخهم كاشياخ الأفخاد والبطون من القبيلة . وكان شيخهم الاكبر كشيخ القبيلة ، ولكنهم اسموه ملكا ، وأسموا من دان من الأشياخ كذلك ملوكا . فاللمك في الإغريق من أول
من كان ملكا فوق ملوك سواسية ، وقرنا فاق أقرانا . وكان الملك في تلك العصور الأولي قائد حرب ،
وقسيس معبد ، وقاضي احكام . ففيه ، وفيه وحده تركزت كل هذه الواجبات المدنية ، ففي الحرب كان يقود الجند إلي الإعداء ، وكان في الطليعة من صفوفهم . وعلي شجاعته في الحرب ، ومكانته في الجند ، بني مجده وثبت
عرشه . وفي المعبد كان الرسول المشفع بين الناس والألهة وكان على الأرجح لكل مجموعة من تلك المجموعات السياسية . وإن شئت قلت الدويلات ، إله في السماء تختص به ، كما لها
ملك في الأرض يختص بها . وكان الفلك علي الأرض خليفة الإله في السماء ومن هذا المعنى زاد الملك عرشه توطدا .
وفي ساحة القضاء جلس الملك للناس مجلسا عاما ، فاختصمو إليه فيما يختصم بنو الناس فيه ، مما تتخالف فيه طبائعهم وتتشاجر مصالحهم ؛ فقام فيهم قيام الوالد يصلح بين بنيه ، يفرض فيه أن يمزج العدل بالرحمة ، ويأخذ الأمور بملابساتها وينظر ما يكون لحكمه من أثر في خير
المجتمع الأسروي كله ، فقد كان مجتمعا أبويا ، وإن شئت استخدمت اللفظة الإغريقية فقلت مجلسا بطريقيا . ولم يكن للملك سنة في الأحكام يجري عليها ، ولا قوانين
ملقنة أو مكتوبة يرد قضاء إليها ، ولكن كان له ما هو أفضل من ذلك وأهدي : عصمة يستمدها من الآلهة ، تمنع من زلل ويؤمن من عثار قال هومر : " زيوس أعطي الأحكام وأعطي الصولجان " .
وكان الملك ذا إرادة مطلقة ، ولكن كان إطلاقها نظريا فحسب . فما كان لمجتمع كهذا ، يحيطه الخطر من كل باب ، وفي كل زمان ، ان يأذن بإطلاق إرادة واحدة فيه . ثم إن الخطر يدعو إلي التوحيد ، والأمن في الحرب يكون
في القيادة التي لا يعرفها الخلاف ، ولكنه توحيد كان لا بد من دعمة بالمشورة ، ومده بالرضاء العام . فكان إلي جانب الملك مجلس سموه مجلس " الأشياخ الحكماء وكان للملك ان يستشيره وكان له الا يستشيره . ولكن
الحقائق والوقائع اضطرته إلي استشارته حتى صار هذا عرفا ؛ والعرف كالقانون قوة عند الأحزمين . وكانما الجمهور لم يرضه حتى هذا المجلس أن ينوب عنه . وكان مجلسا ثابتا أعضاؤه ، لأنهم في الأغلب كانوا رؤساء الأسر الأشياخ .
فطلبوا رضاء الناس وكلهم من خمي الدولة بسيفه ، واشتري حريتها بدمه - بجمعية عامه يحضرها الناس إطلاقا ، وفيها بتلي عليهم ما استقر الرأي عليه بين الملك والأشياخ في الخطير من الأمور ، وكان لهم أن يجيبوا عما
يعرض عليهم إثباتا أو نفيا ، أن يجيبوا بنعم أو لا وما كان لهم أن يناقشوا فيه أبدا .
حدث مرة في جزيرة إيتيكا ان عرض أولو الامر على جمعية عامة كهذه رأيا ارناه الملك والاشياخ ، فقام ترسبتس يريد الكلام والحجاج . فما كان من اوديسيوس الملك ان
ضربه على رأسه بصولجانه ليسكته . فسمى بعض المؤرخين هذا المدفوق على رأسه بأول ديمقراطي . ولا إدري ، للسانه الوثاب كان هذا ، أم لرأسه المشجوج .
وانقضي هذا العهد ، وبدأ عهد جديد ، هو عهد النزحات الكبرى التي نزحها الإغريق غزوا إلي الجنوب ، إلي شبه الجزيرة السفلي التي سموها البيلوبونيس ، فأحدثت في المجتمعات الإغريقية قلافل كبري ، ولكنها لم تمس
الملكية من قريب أو بعيد . فكان علي الملكية أن تعيش وتمتد أعمارها ، حتى تتأسس في ظلها ، وفي أكنافها ورعايتها ، تلك المدائن الإغريقية الكبرى التي إنجمدت عليها جغرافية الإغريق التي عرفنا فيما جاء بعد ذلك من أحداث .
وجعلوا المدائن على إلا كثر في سفوح الجبال أو من حولها . وعلى رأس الجبل بنوا قلعة الدولة ، أو الدويلة . وتضمنت بيت الملك ومعبد الرب ( كالأ كرويول بأثينا). ومن حول القلعة بني الخاصة بيونهم ليسكونوا على مقربة من دار الملك والحكومة ، ومن دون هذه بني سائر الناس
دورهم . ومن حول كل هذا أقاموا أسوار المدينة . ومن وراء الأسوار وفي الوديان ذهب الناس لفلاحة الارض واستنبات الطعام . فإن عدا عليهم عاد ، فأطل من وراء
الحدود بقرونه ، أسرعوا بالنساء والأطفال إلي رأس الجبل ، إلي مثل معقل السموأل ، إلي المدينة وأسوارها ، ثم خرجوا في لباس الجند يحصدون من بعد حصد الأرض حصد الرؤوس .
وكان في هذا الاستقرار النسبي ، استقرار المدائن ،
ضبيع الملكية الإغريقية ، وضاعت لغير رجوع .
ومن أسباب ضياعها ما كان من هذا النزوح ، فالملكية التي تغير ديارها تفقد فيما تخلف وراءها بعض أسباب القوة التي ألفتها ، وتلك المنازل الحصينة التي اعتادتها وهي بخروجها عن قديمها تخرج مع سائر الامة
إلي حظ مجهول لا ينكشف عما يرضي إلا بمن حول الملك من اعوان . والملك المطلق في سكنه إلي المعلومات اقل حاجة إلي العون منه عند ارتياده المجهول ، ثم عند ما يؤسس ملكه من جديد بعد ذلك في ارض غريبة ، وفي اجواء ومخاطر جديدة
ومن أسباب ضياع الملكية ترك حال اكثرها حرب إلي حال أكثرها سلم . ففي الحرب مشغلة للناس عن مناهضة الملك وفي الحرب امتحان الملك في بأس وشجاعة يشتري بهما المجد الحربي وقد كان عند ذلك دعامة السلطان .
ومن أسباب ضياع الملكية المطلقة تركز حياة الناس في المدينة ، وألفة الناس للملك الفرد ذي السلطة الواحد وبحضور الألفة ذهبت المهابة . وبقرب شخص الملك من الجماهير اضمحل إعجابهم به لاسيما وقد قل حمل الملك للسيف
وبتركز الحياة في المدينة تعددت مطالب الحياة ، بعد فرد واحد بقادر علي استجابتها . فنشأ عن كل هذا أن أخذت واجبات الملك تتوزع على الأشياخ ، حتى صاروا هم وذلك سواء فيما اطلعوا به من أحمال ، إلا اسما حفظو له ، مطاوعة للعرف وحرمة الماضي
ثم منعوا الملكية أن تكون وراثية ، فصار الملك ينتخب ليكون ملكا طول حياته . ثم قصروا الملك علي سنين ، ثم قصروه على عام واحد ، حتى صار الملك لا شئ إلا موظفا أكبر في الدولة ، حتي لفاته من صفات الموظف استقراره ودوامه وحدث هذا تدرجا ، فكان تطور بطيئا ، لم تتراكم سرعته فتصبح اصطداما . فلم تثر له
عاطفة ، ولم تغضب له عادة مألوفة
وكان لا يعتزل ملك إلا كان له مكان في مجلس " الأشياخ الحكماء فصار عضوا من أعضائه . فانتقلت خير كفايات الدولة التي جلس الأشياخ ، وصار الثبوت والدوام لهذا المجلس ، وصار الحكم له ، وصار الملك المؤقت
طوع أمره ، فإليه مرجعه بعد عام ، فكان حكما جديدا أسموه بالحكم الأرستقراطي ، وهي لفظة معناها حكم الأحسن ، أو حكم خيار الناس ، أو الحكم بالأحسن أو بخيار الناس . وكانوا عند خيار الأسر ، وأثرياء القوم ، وكان معيار الثراء ما يملك الرجل من أرض
كان هذا الحال في القرن الثامن قبل الميلاد .
وبدا حكم خيار الناس ، أو الأشراف بلغة العصر ، بالخير فقد اختصوا بسياسة الدولة دون سواهم ، ولكنهم كذلك أدركوا إدراك صدق ما يعني هذا من واجبات واطلعوا مما طلع لهم في سبيله من مسئوليات . وجعلوا
الحكومة مرافق نعني بمرافق الناس . والقضاء جعلوا الأحكام فيه على غرار ثابت . وجعلا من الأحكام قواعد درجوا عليها حتي صارت قوانين محفوظة ، كانت خزائنها صدور الأشراف .
ولكن حكما تختص به أقلية لا يمكن أن يدوم علي من ، ولو بدأ خيرا ، ذلك لأن الأقليات ، ولو خيرة ، ملء جراثيم فنائها في طيباتها . فالمختص بالحكم ، إن عدل لنفسه وللناس ، وجد في الحكم اللذة والمتعة والأمر المطاع ، ووجد كذلك كبد الواجبات ومرارة المستوليات . والنفس
الإنسانية تأخذ من اللذة طوعا وطبعا ، ولا تأخذ من الكد المر إلا كرها وتطبعا . وما ارشك أن يبقى الطبع وما أوشك أن يذهب التطبع ، فيصبح الحكم في الأقليات مطالب متع ولذات ، وننسى الواجبات ويستخف بالمسئوليات ، فينقلب الحكم الأرستقراطي ، حكم خيار الناس ، إلي حكم الجرشى Oligarchy حكم قبيلة من
الناس . والحكم الاستقراطي حكم قلة ، وكذلك الحكم الألجرشى حكم قلة . ولكن الإغريق عنوا بهذا الاسم الأخير قلة تعمل لذواتها وصوالحها وإن ضاعت صوالح الناس ؛ فلة خلابة جائزة ، تحلب البقرة وتنسي أن تعلقها ، فان هي أعلفت أعطت أسوا الأعلاف .
وحكم القلة بأنه السوء من داخله ، فعصاية السوء لاهادي لها من ضمير . وما ضاع الضمير إلا صار الحكم انتهابا . فليحمل كل فرد في العصبة ما استطاع من أسلوب وتصادم المطلع ، ويدب الشقاق ، وفي الشقاق الضف والفناء
ثم إن حكم القلة لا يعدم أن يترك خارج الحظيرة أقواما ذوي خطر وسلطان ، تؤهلهم اخطارهم لدخول تلك الحلقة . فيصبح هؤلاء المحررون مع الزمن مصدر شغب وعنت .
فكل هذا حدث في بلاد الإغريق ، فانقلبت الأرستقراطيات الخيرة ، إلي الجرشيات جائرة ، آذن جمودها بزوالها
ومما آذن بزوالها تغير الزمن نفسه ، وتغير حال الناس بتغيره .
فمن تغيرات الزمن ما كان في صناعة الحرب ، فقد كانت الحرب بادئ الأمر على ظهور الخيل ، والإغريق في الشمال حيث الأرض أكثر انبساطا . وكان صاحب الخيل صاحب سعة ، وكان الفرسان قلة هم صفوة الناس ، وهم أرستقراطية القوم ورجال الحكم فيهم . فلما نزح
الإغريق إلي الجنوب حيث الأرض أوعر ، وطلوع الجبال أشق ، تشبثوا بالخيل زمانا ، ثم أدركوا ان الحافر لم يخلق للجبل ، وان المحارب اقدر علي طلوع الوعر راجلا منه على ظهر جواده . فصارت الفرسان رجالا . وزوال الجياد دخل الجيش سواد الناس ، وبدخولهم لم يعد لحكم القلة الجائرة رجاء في طويل بقاء .
ومن تغيرات الزمن ما كان من خروج الإغريق عن بلادهم واستعمارهم شواطئ آسيا وأوربا . ففي هذه المستعمرات أثري الكثير من طبقات الشعب الدنيا . ونشطت المستعمرات التجارة ، لا بين مستعمرات الإغريق والأصول من بلادهم ، بل كذلك بينهم وبين سائر الأمم والتجارة مصدر للثراء قديم . فكان أن تكونت في العالم الإغريقي فئات جديدة لها قوة المال الكثير ، وليس لها قوة المولد الأصيل ، فكانت بطبيعتها مناهضة للذي كان في دول الإغريق من حكومات قلة كل عمادها أنسابها
وحاولت حكومات تلك القلات ، لما أحست بدواوين الحكم تهتز جدرانها وترنج سقوفها ، وتهم بالسجود عمدها ، حاولت درأ السوء المنذر بالذي لا يتناسب مع خطره . فانا نوسع مكانا بين أعضائها للمحرومين من أهل البيوتات الاخري . وآنا يبدلون شرط الثراء ، كائنا أصله ما كان ، بشرط النسب إجازة لدخول الحكم .
وآنا يجعلون لدخوله نصابا من مال لا يشترك في الحكم من يقل زيعة عنه . ثم هم يرفعون هذا النصاب في دولة حتي لا يكاد يدخل الحكم من الرجال جديد ، إلا أن يحل رجل عصامي ذو مال مكتسب مكان رجل ذي نسب أو هم يخفضون هذا النصاب في دولة خفضا كبيرا فتشترك كثرة ذات بال من الشعب في تبعات الحكم ، على أنهم
وجدوا أن هذا النوع الأخير خير ما انتجت تلك التجارب من ثمرات ؛ فالنصاب المنخفض من المال فتح الأبواب للسواد من أواسط الناس ، فصار الحكم بهم شيئا وسطا ، ليس فيه فساد الترف من نشب أو نسب ، ولا عرام الحرمان في عوز وجهالة
ولكن ما نفع الدواء يجيئ والجسم قد تخمرت أحشاؤه ، وتحللت أعضاؤه ، واختلطت وظائفه . لقد
كان الحكم في هذه الدويلات الإغريقية بلغ من السوء سلنا تعطلت فيه الجزئيات ، وارتبكت الاقتصاديات ، ولبس الموت ثوب الجوع يستأذن إلي انفس الخلق . فلم يكن من الثورات بد وما أرخص شئ حياة كإرخاص
جوع . فقامت الثورة في الدولة بعد الدولة . فانقضي بهذا في نحو منتصف القرن السابع قبل الميلاد عهد الإرستقراطية ، أو إن شئت فالألجرشية ، ودخل عهد الدكتاتورية . وفي الدكتاتورية الاستبدادية مخلص إذا عزت المخالص علي ذوي الرأي في الكرب الشداد .
(خاتمة هذا في المقال القادم)

