الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 293الرجوع إلى "الرسالة"

الحياة، هل هي وليدة المصادفة ؟

Share

من تفكير مدام كيرى - هل نحن والتفاحة شئ واحد - هل تكتب القردة بينا من الشعر - وهل يرفع الماء طوبة مغمورة فيه إمكان الحياة على كويكيات أخرى - شعورنا بأنها غير وليدة المصادفة .

فى خطاب لمدام كيرى مكتشفة الراد يوم لبنت أختها " زلاى " ما يدعو لإنعام النظر ، لهذا أذكر منه بعض الفقرات :

" عني ابنتاى فى الربيع بتربية دود القز وكنت وانا مريضة اتنبع مدة عطلتى بالمنزل التطورات التى يحدث عند تكوين الشرانق ، وكانت لى فى ذلك لذة عجيبة ، فقد لفت دود الحرير نظري إلى الشعور بجانبها العجيب الذي يشهنا فى ناحية الجلد على العمل والنشاط والثابرة

لقد ثابرت طول حياتي على العمل لغرض واحد ، وقمت بهذه المهمة دائما نحو غرضي رغم علمي أن حياتنا سريعة العطب محتومة الفناء لا تترك شيئا أبا كان وراءها ، ولا بد أني فعلت ذلك لأن وراءنا شيئا يحفزنا للعمل ، لعله نفس الشئ الذي يحفز الدودة لتبنى هذه الشرنقة . هذه الدودة المسكتينة يجب عليها ان تبدا هذه والشرنقة التى من المستحيل عليها ان تتمها ، فهي كما نعلم لا تصل إلى نهاية مهمتها بل تموت فى طريق العمل دون تعويض

فليستمر كل منا يا عزيزتى فى نسج شرنقنقته دون أن يسأل لماذا وإلى أية نهاية "

حياة النملة أو دودة القز أو الإنسان ، هذه الحياة وما يخفى وراءها من حافز شخصى وما تكته من وراثة بعيدة المدى ، تلك الوراثة التى محفزنا للعمل المستمر ، هذه الحياة - وادهش ما فيها الإنسان الحي - نريد ان نعرف الفكرة فى منشئها ونتبين علاقتها

بالكون ، ويتناول هذا الموضوع مدرستان أو مذهبان : الأولى تعتقد أن الحياة وليدة لمصادفة وقعت فى الكون ، وان الكون لم يكن فى نشأته مخصصا او مقصورا عليها . والمدرسة الثانية تقول عكس ذلك وتعزو للحياة وللانسان أهمية خاصة

أما عن نفسي فإن احساسا خفيا وإن كان غير مبنى على حقائق علمية او على اساس فى العلم التجريبى يدفعنى إلى ان أكون من أنصار المدرسة الثانية

ان تحاول إقناعى اليوم اننى والتفاحة التى اكلتها شئ واحد ، وانثى والمحبرة التى ا كتب الان منها مركب متشابه من النيترون والالكرون وغيره وان ترتييا خاصا من هذه الذرات وما يدور فى غلافها من الكتروونات هو الذى جعل هذه تفاحة تنبت غيرها من التفاح وجعلتنا ادميين ننسل غيرنا من جنس الإنسان وجعلت هذه محبرة لا تصلح إلا لتمكنني من أن أمد القارئ بهذه الأسطر

أن يحاول أن تدخل فى روعى أبنى وبقية النبات أو الجاد شئ واحد وأن الحياة ظاهرة وليدة الصدفة كظاهرة المناطقية او الإشعاع المادى ، واننى وهذه الكائنات تتساوى ، كل هذه مسائل لا أجد من نفسي تساهلا فى قبولها

قد تكون بليغا جدا فى محاولتك ، وقد تكون براهينك العلمية والعملية من القوة بحيث نطأطي الرأس لحججك ، وبحيث لا نستطيع اليوم ان تقنمك بطريق العلم النظرى او العلم التجريبى بخطا علمك ومجاربك ، ولكن غريزة فى النفس تشبه الغريزة التى بحمل دودة القز السابقة على العمل ويحمل على الخروج من المنزل كل يوم لكب عيشك ، تدفعني إلى أن أخالفك فى الرأى ، ويداخلني شعور يستقر فى نفسي بوحى إلى اننا يختلف عن التفاحة والمحبرة اختلافا سبينا ، وان فى جوهر حياتنا ما يجعلنا نفترق عن الأشياء وعن الظواهر الأخرى للكون

فى محاضرة لمسييو روجيه عميد كلية الطب السابق بباريز حضرتها فى شتاء ١٩٣٤ بين آلاف المستمعين فى إحدى ردهات بوليفارد سان جرمان بالحى اللاتينى ، القاها فى جماعه العقليين الى هو وكيلها تعرض للحياة وعلى الاخص Les Rationallistes لما نسميه الروح والعقل . ولو انك حضرت هذه المحاضرة لايقنت آن روجيه على حق ، وخرجت مثل الكثير مقتنعا بأنك والتفاحة وباقى الكائنات شىء واحد ، وان ما نسميه العقل والروح والنفس وغير ذلك ما هو إلا نوع من الآمال التى نتصورها لأنفسنا ، وانه لا وجود لها إلا فى خيالنا . ليست أمامى الآن محاضرة الأستاذ روجيه حتى أعيد قراءتها والخص لك نقطها القوية التى تستند إلى وقائع فعلية ويجارب عملية فى الطب والتشريح المقارن والتى تعرض فى ختامها لفلسفة برجسون Bergson التى لا يعترف بصحتها وبهاجمها هجوما عنيفا

ولعل رأى روجيه يمثل رأى غالبية العلماء زملائه اليوم من الأطباء والبيولوجيين . والظاهر لى أننا إن أردنا أن نستدل على تفسير للحياة بين علماء الطبيعة والرياضة المعاصر بن يغلب على الظن أننا نصل إلى النتيجة نفسها . وها هو ذا السير جينز فى كتابه " العالم الغريب " يقول وهو يتكلم Sir James Jans عن الارض كيار انفصل عن الشمس : إننا لا نعرف كيف وستى ولماذا تولدت الحياة بطريق الصدفة فى واحد من هذه الأجزاء التى تناثرت من الشمس وهو الأرض

هذه الحياة التى بدأت فى مخلوقات بسيطة لا تعرف فى المبدأ شيئا غير انها تتوالد ثم تموت . أجل هذه الحياة التى ايمتر خيطها يطول ويتعاظم إلى ان وصلت إلى هذا الوضع المعقد الذى تتوالد . فيه كائنات تهب الجزء الأكبر من عمرها لأطماعها ورغباتها بل لأديان وضعت فيها أكبر آمالها . وإن شيئا من التأمل فى البحث عن صلتنا بالكون المحيط بنا يحملنا كما يقول ذلك السير جينز على الفزع ، فالكون يفزعنا بعظم مسافاته الشاسعة وبطول الزمن الذي يمر ويبدو كأنه لا نهابى ، والذى لا يعد تاريخ الإنسانية فيه إلا لمحة من البصر - الكون يفزععبا بوحدتنا وبضآلة المادة التى يتكون منه عالمنا الشمسى بالنسبة إلى ملايين العوالم ، وإن أرضنا على حد تعبير السير جينز ما هى إلا جزء واحد من مليون جزء من حبة رمل من مجموع كل رمال الشواطئ - إنما الفزع ان

تدرك ان العالم أصم لا يشعر بنا وانه ممانع لكل نوع من الحياة تشه حياتنا . فالفر بين العوالم او الشموس من البرودة بحيث ان كل حياة تنتهى فيه بالجمود والموت ، والجزء الاعظم من المادة المكونة للنجوم ، من الحرارة المرتفعة بدرجة مجعل كل حياة فيها مستحيلة ، ويصل إلى هذه الاجرام من الاشعة المختلفة ما هو غير ملائم للحياة وقاتل لها . ويكفى ان اذ كر القارىء ان طبقة الأوزون المحيطة بالكرة الارضية بحمينا من الإشعاعات القاتلة فى عالم هذا وصفه الفينا أنفسنا مخلوقات فيه تتحرك وتفكر ، ولو اعتقدنا كما يعتقد جينز وغيره ان وجودنا حادث وليد الصدفة فان فناءنا ايضا بييكون وليد الصدفة ، فان من المعقول فى رابهم انه باستمرار الزمن يحتمل أن يقع أى نوع من الحوادث .

ويعتقد السير جينز ان " هكسلي " هو الذي قال : " لو فرضنا وتركنا ستة من القردة تكتب على الآلات الكاتبة دون ان تعي ما بخطه مدة طويلة تبلغ ملايين الملايين من السنين ، فإننا فى سير الزمن ترى بين اسطرها بطريق الصدفة كل الكلمات المحفوظة فى المتحف البريطاني . ولو أننا اختبرنا آخر صفحة من الصفحات التى سطرتها القردة فقد نلاحظ ان توقيعاتها العمياء قد خطت احد اببات شيكسير ، وعند ذلك يحق لنا ان نعتبر هذا البيت من الشعر حادثا من أغرب الحوادث . ولو أننا بعد ذلك تصفحنا ملايين الصحائف التى كتبتها القردة فى ملايين السنين فإنه مما لا لإشك فيه اننا سنعثر مرة اخرى على سطر آخر من أبيات شيكسببير كان هو أيضا وليد الصدفة العمياء " .

وهكذا لا بد ان يحدث لعدد قليل من الشموس بين ملايين الشموس الاخرى الحائرة ما حدث للشمس من وجود سيارات تدور حولها ، مما اوردناه فى مقالنا السابق ، ويدل الحساب على ان هذا العدد من الشموس قليل جدا بالنسبة لعدد شموس الكون .

ومن البدهى ان الحياة كما نستوعبها لا يحدث إلا على سيارات شبهة بالارض إذ يجب لوجودها شروط طبيعية ملائمة مثل اعتدال درجة الحرارة ، وعلى هذا الاعتبار تستحيل الحياة فى الشموس نفسها التى هى نيران متقدة كما تستحيل فى الحبز بعيدا عنها ، فهذا لا تزيد درجة حرارته على اربع درجات فوق الصغر المطلق ) أى أقل من ٢٦٨ درجة تحت الصغر العادي ( فالحياة جائزة على كويكبات تقع على مسافة معينة من هذه

الشموس ، إذا ابتعدنا عن هذه المناطق المعينة امتنعت الحياة للبرودة المهلكة ، وإن اقتربنا امتنعت ايضا بسبب الحرارة المحرقة

وتستدل من الحساب على أن المناطق التى يجوز فيها الحياة لا تكون إلا واحدا على مليون البليون من مجموع الحبر . على أن الحياة تندر فى هذا الجزء النادر من الحيز ، ذلك لان تناثر جزء من احدى الشموس وانفصاله عنها يعد حادثا نادرا جدا ، ويغلب على الظن أنه يوجد بجم واحد فى كل مائة ألف بجم يشبه الشمس فى وجود سيار يدور حوله كالا رض حيث الحياة على هذا السيار قد تكون جائزة .

لهذا يجوز الاعتقاد ان الكون لم يخلق خاصا لغرض الحياة ، هذا رأى يميل إليه السير جينز وغيره ، والواقع انه لا تناسب مطلقا بين عظمة الكون والنتيجة الضئيلة الموجودة فى بعض أجزائه والتى ترى أثرها فى الحياة .

على أننا لا نعلم هل توجد شروط طبيعية كافية بذاتها لإيجاد الحياة ، فيم مدرسة تعتقد أنه عند ما بردت الأرض كان لا بد من ظهور الحياة فى أثناء ذلك ، ومدرسة أخرى تقول إن حادثا أولا أوجد الكائن وانه كان لابد من حادث ثان ليوجد الحياة فى الكائن

على أن المركبات المادية للكائن الحي هى ذرات كيميائية عادية ، هى الكربون كالذى تجده فى دخان المصانع ، والا كسيجين والهيدروجين كاللذين يجدهما فى الماء ، والازوت الذي يكون الجزء الأكبر من الجو المحيط بنا - كل هذه الجزئيات والذرات الوجودة فى الكابن الحي كانت موجودة حتما فى الارض ، هذه المولودة الجديدة ، وقد حدث فى وقت من الا وقات ان مجموعة من هذه الذرات - بطريق الصدفة - ترتب بالطريقة الموجودة بها اليوم فى الخلية الحية ، وكان لا بد من ذلك مع طول الزمن ، كما كان لا بد للفردة الستة من أن تسطر يوما احد اشعار شيكسببير . وعلى هذا لنا ان نتساءل هل هذه الذرات بترتيبها هذا هي التى كونت بمفردها وبهذا الترتيب الخلية الحية ؟ وبعبارة أوضح ، هل الخلية الحية هى مجرد مجموعة من الذرات العادية مرتبة بشكل خاص أو هى شئ آخر ؟

هل المادة الحية مجموعة من الذرات او مجموعة من الذرات مضافا إليها الحياة ؟ ويعبارة اخرى هل يستطيع كيمياني ماهر ان يوجد لنا الحياة على اى شكل باستعمال عدد معين من الذرات أو تنقصه قوة اخرى غير العدد والترتيب ؟

هذا ما يحاول ان نتناوله فى المقال القادم . ويبدو لى انه للاحابة على ذلك لا مناص من الدخول فى عميق العلوم الطبيعية فسدا وصفا وجيزا للمادة وللمادة الحية وفق آراء العلماء اليوم

وخلاصة القول انه بالرجوع إلى فكرة ترجع فى الواقع لشئ اشبه بحساب الاحمالات  _(Calcul de Probabilit ) وبارجو ع إلى جواز طول الزمن وجد العلماء مخرجا وتفسيرا محتملا لوجود الأرض ولووجود الحياة عليها ، تفسيرا مبنيا على الصدفة

فى مثال ذكره العالم الكبير جان بيران ( Jean Perrin ) وأبلغنيه الاستاذ الكبير هنرى موتون ( Henry Moon ) أننا إن اعتبرنا الحركة البراونية التى تتلخص فى أن ما يصيب أى جسم داخل السائل من ضغط هو مجموع صدمات جزئيات السائل عليه ، فان لنا ان نعتقد انه يصح بعد ملايين السنير ان يحدث مرة أن يرفع الماء فالبأ من الظوب مغمورا فى ماء ساكن ، وعندئذ لنا ان نعتبر حادث رفع هذا القالب على سطح الماء من المعجزات النادرة ، وإن كان هذا الحادث ليس مستحيلا عند العالم

الذي يعرف الحركة البراونية والذى يتوقع حدوثه يوما

ومع جواز تسليم القارئ بما يذهب إليه كل من هاكلى وبيران فالحياة عندى رغم القردة التى يصح ان تكتب يوما ما سطرا من الشعر ورغم الطوبة التى يصح أن ينهض بها الماء ، من الغرابة بحيث لا تطاوعنا النفس على أن نعتبرها وليدة الصدفة وأنها طرأت عن غير قصد .

اشترك في نشرتنا البريدية