الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 678الرجوع إلى "الثقافة"

الحياة التجارية فى المدينة، بعد الهجرة

Share

لم يكن خروج النبي وأصحابه إلى بدر أول حادث قصد به محاربة قريش في حياتها الاقتصادية القائمة على التجارة ، بل إن اكثر السرايا التي خرجت قبل بدر كانت غايتها ترصد عير قريش - كذلك كانت أول سرية خرج فيها حمزة ، ومن أجل هذا الغرض نفسه كانت غزوة ودان وذي العثيرة ؛ ومن المؤكد أن هناك أربعا من السرايا - على الأقل - خرجت تحاول التعرض للعير قبل معركة بدر وتترصد القوافل في رجوعها من بلاد الشام أو في ذهابها  إليها ، والعير التي من بعدها نشبت معركة بدر ترصدها المسلمون في ذهابها وإيابها ونجت منهم في الحالين .

وكانت تلك القوافل المكية لا تزال على ما كانت عليه قبل البعثة من كثرة في عدد الجمال ووفرة الأدلاء والحفراء وسعة في رءوس الأموال . ونسمع أن إحداها كان يرأسها أبو جهل ومعه ثلاثمائة رجل . وأن قافلة أخرى كان يسير بها أمية بن خلف الجمحي ومعه مائة رجل وعدد الجمال فيها الفان وخمسمائة بعير ، ويقال إن العير التي نجت من المسلمين قبل بدر كانت ألف بعير ، ورأس مالها خمسين ألف دينار . وكانت هذه القوافل لا تزال تحمل إلى سورية التمر والأدم وزبيب الطائف . وتعود من الشام محملة بالخمر والزيت والقمح وغيرها .

والحق أن بدرا لم تستطع أن تحطم التجارة القائمة بين مكة والشام ، ولذلك تلتها محاولات كثيرة جرب المسلمون فيها أن يضربوا الاقتصاديات القرشية ؛ وفي السنة السادسة من الهجرة استطاعت سرية يقودها زيد بن حارثة أن تستولي على عير لقريش راجعة من الشام وتحرز ما تحمل من سلع . وكان من نتيجة هذه السياسة أن تحققت قريش من أن المسلمين في المدينة يهددون اعز ناحية لديها ، وقد عبر

أبو سفيان عن هذا الشعور بالتدهور الاقتصادي في قوله : كنا قوما تجارا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد خضدنا حتى تهتكت أموالنا (١ ) .

غير أن الحرب في الحقيقة لم تكن خطرا على المكيين وحدهم ، بل كانت خطرا علي مصالح الفريقين معا . ولعل الرسول أبدي تساهلا في صلح الحديبية لأنه كان يدرك ببعد نظره حاجة المدينة إلى استقرار يكفل لها حياة اقتصادية نشيطة . كما أن الفريقين رحبوا بهذه الهدنة ترحيبا عمليا ، إذ عادوا يجددون رحلاتهم التجارية إلى الشام . وفي هذا يقول أبو سفيان : " فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله خرجت في نفر من قريش إلى الشام وكان وجه متجرنا غزة ( ٢ ) " وفي السنة نفسها أي بعد عقد الهدنة - نري أهل المدينة أيضا يجهزون قافلة إلى الشام على رأسها زيد بن حارثة ، ولكن هذه القافلة لم تعد بفائدة لان ناسا من قرارة تعرضوا لها في الطريق وضربوا زيدا وأصحابه وأخذوا ما كان معهم ( ٣ ) .

ولم تكن هذه أول مرة يظهر فيها خطر هذه القبائل المقيمة على جانبي الطريق التجارية . فقد كانت من قبل خطرا علي القوافل المكية ، وكانت المصالح التجارية تعرض على قريش أن تستعمل سياسة اللطف معها . فلما اعتنق بعض هذه القبائل الإسلام أو دخل في معاهدات صداقة مع المدينة أصبحت طريق الشام أمام القرشبين محفوفة بالمخاطر . ولذلك كان من خطأ القرشيين أنهم ضربوا أبا ذر الغفاري وعذبوه حين أسلم حتى لقد نبههم العباس بن عبد المطلب

إلي خطئهم ذاك بقوله : " قتلتم الرجل بإ معشر قريش ، أنتم تجار وطريقكم على غفار ، أقتريدون أن نقطع الطريق " . وقد ساعد إسلام أبي ذر على تهديد التجارة المكية فعلا لأنه كان يخرج بقومه فيكمنون لعير قريش وهي تحمل الطعام فينفرونها حتى يضطروها إلى إلقاء حملها ثم يهجمون عليها فيجمعون الحنطة ؛ وكان أبو ذر إذا استولى على الحنطة أقسم أنه لا يصيب أحد من قومه حبة منها حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها أخذوا الغرائر .

ولكن هذه السياسة التي أقادت المسلمين في المدينة أول الأمر عادت فأصبحت خطرا عليهم ، لأن السكوت عن عدوان هذه القبائل زاد في جرأتها وتماديها ، حتى أصبحت تتحكم في التجارة الوافدة إلى المدينة نفسها وتعرقل خطوات التجار الأجانب الذين يزودون المدينة بالمؤن ، حتى اضطر الرسول أن يخرج في أوائل السنة الخامسة للهجرة كي يؤدب جموعا من البدو وقفوا في طريق الضافطة ( التجار الأقباط ) الذين كانوا يحملون إلى يثرب الدقيق والزيت .

بالإضافة إلى هذه السياسة الخارجية القائمة على إضعاف قريش في النواحي الاقتصادية وعلى محالفة القبائل وإخضاع بعضها ، شهدت المدينة بعد الهجرة نشاطا داخليا في حياتها التجارية ، فقد جاءها المهاجرون المكيون وفي صدورهم تلك الحماسة التجارية والمقدرة الاقتصادية التي اكتسبوها من بيئة مكة ، وزادهم نشاطا رغبتهم في أن لا يكونوا عالة على إخوانهم من الأنصار ؛ وربما كان عبد الرحمن بن عوف من أبرز الأمثلة على مقدرة تجارية فذة ، فإنه حالما حل في المدينة قال دلوني على السوق . فدلوه وذهب فتاجر وعاد يحمل معه ما ربحه من سمن وأقط . ولم تمضي عليه إلا مدة قصيرة حتى تزوج من المال الذي حصله بالتجارة وأصبح له على عهد الرسول قافلة تتكون من سبعمائة بعير تحمل البر والدقيق والطعام .

وفي بدر الصغري خرج الرسول مع أصحابه يحملون بضائع وتجارات ، وكانت بدر مجتمعا للعرب وسوقا تعقد لمدة ثمانية أيام من شهر ذي القعدة فباع المسلمون بضائعهم

وتجاراتهم وربحوا الدرهم درهما . وكانت المدينة أيضا مقصدا للتجار الغرباء وخاصة من الشام . وفي الأخبار أن أبا الحصين الأنصاري كان له ابنان ، فقدم تجار من الشام فتنصرا ولحقا بهم . وكذلك نجد من الغرباء في المدينة سيمونة البلقاوي الشماس الذي جاء في جماعة من التجار الغرباء يحملون القمح إلى المدينة ، وأرادوا أن يشتروا منها تمرا فتشدد عليهم أهل المدينة واشتطوا في الثمن . ولم يعدل بهم عن تشددهم إلا تدخل الرسول فإنه قال لهم : أما يكفيكم رخص هذا الطعام بغلاء هذا التمر ؟ .

وكان للنساء حظ من هذا النشاط ، إذ نسمع عن نساء كن تاجرات . ولكن لا كتاجرات مكة اللواتى كن ينفقن على إعداد القوافل ويخرجنها إلى الشام ، بل تاجرات محليات وخاصة من كان منهن يزاول بيع العطور .

وقد عبر أبو هريرة عن هذا النشاط التجاري معللا لزومه للرسول بقوله : " إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم " . فقد قضت الحياة على الفريقين من مهاجرين وانصار أن ينصرفوا إلى العمل ، وشهدت المدينة بتزايد عدد السكان وربما بتزايد المنافسة ، حيوية مبكرة في الميدان التجاري . ولكن علينا أن لا ننسى جوانب أخري تأثرت منها الحياة التجارية في المدينة ، فقد جاءت الهجرة لها بطبقة من الفقراء الذين لم يكونوا يجدون ما يأكلون ولاما يعملون ، وكان القضاء على اليهود فيها قد أظهر بوضوح أهمية النهوض بالنواحي الاقتصادية . أضف إلي ذلك أن التشريعات الإسلامية التي حرمت الخمر قد أسقطت جزءا هاما من السلع التي كانت تجلب من الشام . كما أن بعض أهل المدينة انصرف عن تجارته لأنه رآها تعوقه عن العبادة ، ومن أمثلة هؤلاء أبو الدرداء الذي يقول : " كنت ناجرا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ( لعله يعني أن يهاجر ) فلما بعث زاولت التجارة والعبادة فلم تجتمعا ، فأخذت العبادة وتركت التجارة ( ١ ) .

اشترك في نشرتنا البريدية