إن الخطر الأكبر الذى يهدد شباب هذا الزمن لا يأتيهم من القنبلة الذرية أو الإيدروجينية ، بل ينبعث من ميلهم إلى أن يحيوا حياة خالية من الصوافق والأحداث ، فى دنيا حافلة بالمطالب الهائلة والضرورات المروعة والمسائل الملحة والطوارق الفادحة . والواقع أن الخطر الثانى من أشد ما يبتلى الانسان بالعذاب والنكير وسوء المصير ؛ إذ ما من شك فى أن الرجال العمالين الجادين الذين يعيشون فى خطر يزيدون خصب الحياة ويجنون أسمى معانيها ، ويحركون فى نفوسهم نعمة الإحساس بذاتيتهم . والاعتزاز بوجودهم وامتداده وخلوده . أما الرجال الذين لا يمدون أيديهم إلى عمل ، ولا ينقلون أقدامهم إلى درك ويطمئنون إلى الفراغ
فلا بد أن يخمد حسهم فلا ترقى همتهم إلى منقبة ولا يدفعهم طبعهم إلى مكرمة .
ما ساد ملكا أو أعز قبيلة من آثر الإخلاد والإذعانا
ومن المعلوم أن مر الزمن لا يعاجل الناس بالشيخوخة بقدر ما يعاجلهم بها الانزواء عن مجاهدة الحياة الناشطة ، والخلو من مكافحة شوادهها . حقا أن الوهاسة التى كانت تدار بالدوس لتعذيب المذنبين لا تحتضر إلا الضجعة الذى يتلكأ على هامش الحياة ، والشباب الذى يتقمع ويترك أيامه بين الثؤباء والمطواء ، لا بد أن يشل نشاطه وتخذل قوته ويحنى صلبه كالشيب ، والطوارئ التى تستنزف قوانا وتضنيها يجب أن تستتبع التجديد لطاقتنا وتزيدنا ارتباطاً بالروح الكلى وتضاعفه تمكيناً وتوثيقاً . ويقول " جينه " " لا شئ مثل الشدائد المفاجئة . إنها تحرر النفس من الأغلال وتطهرها من الأوضار ، وتصقل الروح من الضعف وتفتح البصر على الحقائق وتؤمن القدم من الهاوية " . وتجدد الإيمان بالحياة وحينذاك نملك ثروة من التثبت والاجتهاد وضبط النفس والرضى وقوة الارادة . وإننا لنستطيع أن نعزز كيان الآخرين ونتسامى بمصايرهم إلى الأوج ونبث فيهم روح الإقدام لو أطلقنا لهم نصيباً من هذه الثروة التى جعلنا مستخلفين فيها . . روى أن سيدة نبيلة كانت تستعرض مجموعة من الأوانى الفضية الثمينة الموروثة من أجدادها الأكرمين ، وإذ كانت تستخرجها من مستودعاتها قالت : " إنها صدئة وسأنظفها ، ولكنى لن أقدر على الاحتفاظ بلمعانها وبريقها ما لم استعملها كل يوم" ! وكذلك يجدر بنا أن نصقل مواهبنا ونتمرس بها كل يوم ، لكى يشرق الوجود ببهائها ويسرى بمنافعها . وغير خاف أن العقل الخامد كالعلية المهجورة التى يخيم على أركانها نسيج العكبوت . بل إن ضغط النار والبخار لا يؤذى مراجل عقولنا كما يؤذيها الصدأ والرين . إن ضوء الشمس الذى يسطع على الغدير أو الجدول البطئ فى جريانه لا يمكن أن ينقى مياهه ، ولكن الجنادل والشلالات ومساقط المياه المتدافعة ، هى وحدها الكفيلة بأن تجعله صافياً كقضيب البلور - إذا مسته يد النسائم حكى سلاسل الفضة وصار ماؤه كالزجاج الأزرق المتألق . إن الله تعالى يهيب بنا أن نذهب إلى جميع أرجاء الأرض
برسالة الحياة ، ومعنى هذا أنه يهيب بنا أن نعمل - فى دأب وجد وترو وتفكير ونظر وتحر ، واستقصاء واحتياط واستيقان وحزم واستيفاء ؛ فما إن يوضح أمامنا النهج ويستقيم لنا القصد حتى ننقض سبل الطلب إلى غايتنا فى غير ريث ، ونركب كل صعب وذلول فيها ، ونعانى كل مرتقى وعر . وكل مبتغى وعث وكل درك منيع ؛ ونحن أمضى من الصارم عزما وأقوى من الطود رسوخاً وأشد من النسر قوة ، إن الواجب الذى يتحتم علينا النهوض به يتطلب منا التحمس والحمية ، لا المغامرة الجاهلة والمجازفة الطياشة أو الإيواء إلى ستر ظليل يقينا لفحة الرمضاء أو يسترنا من ثلوج الشتاء ؛ وان يتوافر لنا الغلب على العقبات وتنفيذ أى مشروع صالح ما بقى العزم منا من الأساطير الهائمة فى الهواء أو الطافية على زبد القول والهراء ، وما لم نمزق بكدحنا البتار حجب المصاعب الكثيفة ، إن عواطفنا لابد أن تضعف وتنخثر إذا لم تحركها من الأعماق البواعث الطيبة والدوافع الحافزة الناهضة التى ترجع صدى خواطرنا وتلبى دواعى نياتنا وخوالجنا ، ولن يستطيع الشباب أن يكونوا " شباب الساعة" إذا ارتضوا أن يحيوا حياة راكدة خافضة تحالف الدعة ، وتستوطئ العجز وتستمهد الراحة ، ولمثل هذه الساعة تريد المثالية الحقة أن تدعوهم إلى اقتسام إيمانهم بحقهم فى الحياة الكريمة الحرة مع الآخرين . لمثل هذه الساعة تريد المثالية الحقة أن تكون فعالة صادقة صميمة ؛ وهناك الأدواء التى تطالعهم فى كل لحظة بفواجع إنسانية قاسية تجعل شباب النسوة أول من يطالب بتقديم العلاج . هذا وإنى لأشهد صادقة ، بأن من أيسر الأمور أن تكون كالجمل الذى يعصبون عينه ليدير ترس الساقية ، فيلف حولها لفات محتومة تشتغل بها حوافره ولكنها لا توصله إلى مكان .
وما أكثر العمل الذى ينتظر كلاً منا ؛ فلنذكر أن الجد والكدح والاجتهاد وسعة الحيلة والساعات الطويلة فى السعى النمطى المرهق يجب أن تؤلف جزءاً من مطالب هذا العمل المقدس ومقتضياته . لسنا ننكر أن " فرانكلين " قد عرف ماهية الصاعقة بالطيارة والمفتاح ، ولكن " أديسون " هو الذى استخدمها لإجراء عشرات المئات من التجارب ومنحنا آخر الأمر بيكة النور الكهربائى الذى
انتصر على الظلام ، ولله در "كارلايل " الذى قال : " إن الصخور تسد طريق الضعفاء أما الأقواء فيتخذون منها مرفاة يركزون أقدامهم عليها ليصلوا إلى القمة " وليس أدل على ذلك من قصة" بول فتبنجسابن " عازف البيان النمسوى الشهير ، الذي اصطنع من عاهته مصعداً للمجد ، فقد فقد ذراعه اليمنى فى الحرب العالمية الأولى ، فأسف محبوه العديدون ورثوا لحاله . لأنهم توهموا ان حياته الفنية قد انتهت بهذا الحادث . ولكنه بعد أن غادر المستشفى ، عكف على تحسين مقدرة يده اليسرى وتدريبها على العزف فى يسر ، ثم بدأ فى إعداد طائفة من رائع النغم وتقييد رموزها الموسيقية من جديد لتعزف باليد اليسرى فقط ، ولم تنقض أشهر قليلة ، حتى عاد إلى المسرح واستعاد شهرته الأولى ، ولم يكتف بذلك بل حقق المعجزة فأصبح عازف البيان ، ذا الذراع الواحدة ، علما بين عازفى البيان فى العالم بأسره ، مما حدا بفريق من كبار المؤلفين والملحنين والموسيقين إلى إعداد معزوفات خاصة لا تعزف إلا باليد اليسرى . فيا شباب الناطقين بالضاد ويا شباب مصر ، هيا إلى العمل . إنكم لوقت مثل هذا وصلتم إلى ملكوت العمل المقدس . أذكروا أن الشاعر الفلاح المصرى " توفيق العوضى" قد صدق حين قال :
لا يأس فى سعينا فالنصر منتظر
وان تلاحقت الأحداث والغير
إنى أرى هذه الأحداث بوتقة
فى نارها عزمات الشعب تختبر
والشعب يدفعه عزم ويضبطه
حزم فإن ثار لا يبقى ولا يذر
وفى سبيل أمانينا وعزتنا
لمجد مصر يهون الخطب والخطر
فهيا يا شباب . هبا احبوا حياة الحب والعظمة والمفاداة والأخطار ، وحذار أن تبددوا رصيد العمر في الخمول والعبث والاسقامة والرخاوة : " ولكن الآن تموا العمل ايضا حتى إنه كما أن النشاط للإرادة ، كذلك يكون التميم أيضا حب مالكم " .
