الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 332الرجوع إلى "الرسالة"

الحيلة في تقليد السياسة الألمانية

Share

للسياسة الألمانية طرائق وأساليب قلَّ أن يعتريها التغيير وإن تغير الجيل واختلفت العصور. وقد مر سبعون عاماً منذ  اعتزم بسمارك محاربة فرنسا، مدفوعاً بفكرة ضم الولايات الألمانية  المتحالفة التي حازتها ألمانيا، نتيجة لحروبها السابقة التي وضع  خطتها بعناية وإتقان. وكان بسمارك يطمع في تقوية مركز  بروسيا للسيطرة على هذه الولايات. فأشعل نيران الحرب في أوربا  من أجل هذه الأسباب التي تتعلق بسياسة ألمانيا الداخلية.

وقد كتب الكثيرون في موقفه هذا والطريق التي سلكها  لتحقيق بغيته، ولكن تلك القصة العجيبة مازالت قابلة لأن تعاد.  كانت أسبانيا تقطع مرحلة من مراحل السلام والهدوء فأظهرت  حاجتها إلى حاكم عادل يسوس أمورها. فعرضت عرشها على أمير  من أسرة   (هوهنزلرن) . ومن الجلي أن الفرنسيين لا يرحبون  بفكرة مثل هذه الفكرة ولا يسمحون بتحقيقها، إذ أنها تبيح  لأسرة واحدة أن تحكم على الرين والبرانس.

فلاقى بسمارك صعوبة في تحقيق مطلبه - لا من ناحية  الفرنسيين الذين لم يكن يعبأ بهم - ولكن من ناحية   (سيك)   ملك بروسيا الذي يقول عنه في مذكراته: (لقد كان رجلاً  في الثالثة والسبعين من عمره محباً للسلام، فلم يشأ أن يخاطر  بأكاليل النصر التي نالها في حرب عام ١٨٦٦. ويشير بسمارك  هنا إلى الفوز الذي أحرزته بروسيا على أوستريا عام ١٨٦٦ في حرب  قصيرة المدى.

فلما رأى الملك المعمر أن حرباً أوربية توشك أن تقع  من جراء قبول أحد أقربائه عرش أسبانيا، اعتزم أن يمنعه.  فما كاد يصل احتجاج فرنسا إلى يده حتى استدعى   (البرنس  ليوبولد أوف هوهنزلرن)  وما زال به حتى رفض ما عرض عليه.  ورأى بسمارك أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد، وأنه لا يجد

أمامه ما يحارب من أجله فانتهز فرصة غياب الملك للاستشفاء بمياه  أحد الأنهار وأخذ يدبر الحيل لإثارة الحرب. وبينما هو والكونت  مولتكي وفون ردن القائدان الألمانيان يتناولان العشاء ويتباحثان  في شئون الحرب، إذ وردت برقية من سفير فرنسا يطلب على  لسان حكومته بعض تأكيدات في موضوع عرش أسبانيا،  فرأى بسمارك أن الفرصة سانحة للتدبير لبغيته، فأدخل بضع  كلمات على برقية السفير الفرنسي، ثم التفت ذات اليمين وذات  اليسار إلى القائدين الألمانيين متسائلاً عن مبلغ استعدادهما للحرب  فأجاباه بما يؤيد رغبته. فلما أطلع المليك على الرسالة الفرنسية اعتبر  ما فيها حاطاً للكرامة، ورفضها رفضاً باتاً. ثم أمر أن يمنع سفير  فرنسا من المثول في حضرته. وقد كان بسمارك قد أعد اللازم  لظهور هذه الرسالة في الصحف الألمانية في اليوم التالي، ومن  ثم أعلنت الحرب بين فرنسا وبروسيا. إنها لصورة خبيثة بالغة  حد البشاعة تلك الصورة التي ظهر بها هؤلاء الشيوخ الثلاثة  وهم يتجرعون كئوس الخمر ويهنئ بعضهم بعضاً لنجاحهم في إشعال  الحرب بين هاتين الأمتين العظيمتين.

ليس من الصعب علينا بعد هذا أن نتصور موقفاً مشابهاً لهذا  الموقف فيما حدث في أوربا منذ أسابيع، إذ قامت تلك العصابة  المتعطشة إلى سفك الدماء بوضع شروطها الستة عشر التي بنت  عليها إنذارها النهائي لبولندا بحيث لم تطلع عليها بولندا نفسها  أو الحلفاء إلا بعد فوات الوقت اللازم للرد عليها.

ففوجئ الناس بخبر الحرب ليلة ٣١ أغسطس عن طريق  الإذاعة الألمانية دون مقدمات سابقة. ولكن الأمر تبين بجلاء  في خطاب رئيس الوزارة الإنجليزية بعد ظهر اليوم التالي، فتحولت  الدهشة إلى احتقار واشمئزاز.

إن ريبنتروب يحاول أن يقلد بسمارك في أحاييله السياسية.  ولكن كم من الفروق الشاسعة بين تلك الشخصيات التي بنت  مجد الإمبراطورية وتلك التي تذهب بمجدها إلى الهاوية.

أما هتلر فقد عقد نيته على الحرب سنة ١٩٣٩ كما فعل بسمارك  سنة ١٨٧٠. وقد نستطيع أن نقول: إن ذاك الأرستقراطي  البروسي لا يختلف على وجه العموم عن ذلك النقاش الآستوري،  فكلاهما على استعداد لإزهاق ما لا يعد ولا يحصى من النفوس  البشرية في سبيل المطامع الشخصية.

ألا إن بسمارك كان أكثر تهذيباً وأنضج عقلاً، فقد كان  يعرف من أين يبتدئ والى أين ينتهي.

اشترك في نشرتنا البريدية