ما من رجل يشتهر فى الناس أمره ، وينبغ فى شئ من الأشياء ذكره ، إلا تطلعت النفوس إلى رؤيته ، وسعى إلى شهوده من استطاع السبيل إليه ، فإذا تعذر ذلك لسبب من الأسباب ، كبعد الشقة فى المكان ، أو تقدم صاحب الشهرة فى الزمان ، لم يفتأ الناس يستخبرون عن أوصافه من رآه أو ادعى لهم رؤيته ، فاذا لم يجدوا ما ينفع الغلة ويشبع الرغبة ، رجعوا إلى وهمهم فى هذه المهمة ، فلا يقر لهم قرار ولا يهدأ لهم بال ، حتى يتصوروا على وجه من الوجوه هيئته ، ويتمثلوا لعين خيالهم سحنته وشارته .
ومن ثمة العناية التى نجدها فى صحافة اليوم من إيفاد المصورين إلى رجال الساعة لنقل صورهم والتعريف بأشخاصهم . فضلا عناية الطابعين لأسفار التاريخ والسير - بعد أن كملت للطباعة عدتها - بأظهارنا على التصاوير والتماثيل لمن ذكروا أخبارهم وترجموا لهم . فاذا لم يك تصاوير وتماثيل ، عمدوا إلى ما يخيله الرسامون فأضافوه إلى ما وصفه الواصفون . وذلك كله كما يتمثلهم هيئة وجسما من عرفوهم سيرة واسما .
وهذه الحال دليل على ما هو مركب فى الطبع من ربط الظاهر بالباطن ، وعلى أن القائلين بالفراسة يصدرون عن نزعة فى أصل الفطرة . وإليك نصيحة الشاعر ابن الرومى :
وإذا ما مخابر الناس غابت
عنك ، فاستخبر الوجوه الوضاء
هذا وجه من فضول الناس واهتمامهم ؛ والوجه الآخر
هو تطلعهم إلى الحياة الخاصة للمرء وما يجرى فيها مما لا يعنى غيره . ونحن الأحياء نستكره هذا من إخواننا وجيراننا ، ولكننا نتلقف ما يروى من هذا القبيل عن مشاهير التاريخ ، حتى لننسى غير قليل من المواقف العظام والأحداث الجسام ، ولا ننسى ما تقرؤه او نسمعه عن مشية هذا العظيم وشده على يد من يصافحهم ، وعن ضحكته المرسلة الطلقة وتدقيقه فى المواعيد ، وعن علائقه بأصدقائه وأوامره لخدمه ومعاملته لأهل بيته ، وسائر نوادره ومتصرفاته ، وكل ما اتصل بخاصة شئونه ونواحى معيشته اليومية ، ومألوف عاداته وأخلاقه الشخصية .
ولاشك عندنا فى أن فطرة الناس صادقة هنا أيضا . وذلك أن التصرفات العامة هى فى الغالب الأعم إملاء للظروف الملابسة ونتيجة حتمية لمقدمات سابقة . والحكم الذى يقوم على العمل الظاهر وحده حكم ناقص إن لم يكن خاطئا . ومن ثمة كانت بعض السمات فى حياة العظيم الخاصة أدل عليه مما يكون قد جاء على يديه فى حياته العامة .
كان الخديو إسماعيل ربعة القامة ، ممتلئ الجسم ، وثيق البنية ، حسن الملامح ، متناسب تقاطيع الوجه ، عريض الجبهة ، كث اللحية والشارب والحاجبين ، ولشعره ولا سيما حاجبيه حمرة المجد ولمعته ، وفى أذنيه بسطة وغلظ ، جميل الثغر ممثلى الشفتين بالقوة الحسية ، وعلى سماته المعبرة الحركة مخايل اليقظة والفطانة ، وقد اكتسى محياه من إسبال جفنيه لرمد كان فى صباه مسحة لطيفة من التفكير ، وكان يكسر على جفنه الأيسر خاصة ، فإذا أنصت أطبقه ، وأشخص عينه اليمنى إلى محدثه يديرها فيه كانما يفجعه وينقب عن المنفذ إلي قرارته . وعلى عكس ذلك إن هو أنشأ يتكلم ، فانه يميل برأسه ناحية ، ويقضى عينه اليمنى ويحدق باليسرى تحديقا رائعا يتوقد بحدة الفهم والذكاء . وفى ذلك جرى قول بعضهم : " إن الخديو يسمع بعين ، وبتكلم بالأخري " . فلما بلغنه ذلك قال : " وإنى لأفكر بالاثنتين معا" .
ولم يتغير من صورة إسماعيل فى الكبر إلا زيادة السمن ، فصارت لمشيته هزة ، وبقيت يده كعهدها فى حس المصافحين له جاسية صلبة . وكانت له مهابة لا تزايله ، وهى مهابة لا يفرضها فرضا ، ولكنها تأخذك شيئا فشيئا - مهابة رفيقة رائعة .
وكان إسماعيل صادق الفراسة فى الرجال ، نافذ البصيرة فيما يعرض من الأمور والأحوال ، لا يخطئ حدسه إلا أن يريده لغاية فى نفسه .
وكان إحدى الكبر فى الحيلة والدهاء ، سعيا وراء الاستقلال بحوزته عن الدولة العلية ، ولتسير دفته فى تيارات السياسة العليا بين سائر دول أوربة العظمى ، وهى متعارضة الأهواء متنافسة ، ثم - وذلك الأشد الأنكى - وهى متفقة المآرب متألية .
على أن موهبة إسماعيل العليا ومعجزته الكبرى هى شخصيته الساحرة ولا يعرف التاريخ واحدا من هذا
العديد الذى لا آخر له اتصل به بعض الوقت ، أو لقيه لحظة فى إحدى المناسبات العامة ، أو قابلة على موعد مقابلة خاصة ، إلا فتنه إسماعيل وأخذه بسحره واجتذبه إلى حبه واستولى لوقته على لبه .
ولبيان بعض السر فى هذه الفتنة ، نقول إن إسماعيل كان ذا نظر وفراسة ، يقرأ فى لمحات من يجالسه ، ويتوسمه من حركاته ، ويتلقفه من لحن كلامه ، حتى يتعرف طبيعته ويتشربها ، ويستشف مساربها ويتبطنها ، ومن ثمة يدخل إلى نفس جليسه من مداخلها ويضرب على وتيرتها . فلا عجب إن رأينا جميع من اتصلوا به يثنون عليه وهم أشتات ، ويعلن كل من محاسنه غير ما يعلن الآخر . فهو مثلا عند البعض عنوان الكياسة وحسن الدخول ولطف الوسيلة مع رقة الشمائل وظرف المصانعة وبراعة المؤانسة . وهو عند البعض مثال لرجل الأعمال يتوخى الموضوع ويتوجه رأسا إلى الغرض .
ومن ذلك ما اتفق ذات مرة فى شأن تأسيس بعض شركات السكر ، إذ تقدم فريقان : فريق من الفرنسيين ، وآخر من من منشستر . فأما الأولون الفرنسيون فاستغرقت المفاوضة معهم أياما ، وقد خلبهم وأخذ بعقولهم ما طفق يبديه الخديو من سعة الاحاطة بجملة الأمر وتفاصيله ، وما كان يبذل من عناية واهتمام فى تمحيص مقترحاتهم وعروضهم فى أخفى جزئياتها وأدق دقائقها . وأما الفريق الثانى البريطانى فقد أبرم إسماعيل الاتفاق معهم فى بضع ساعات ، وخرج رجال منشستر وهم يقولون عنه إنه إذكى من لقوه خارج بلادهم من رجال المال والأعمال .
فلما أوقفه أحد المتصلين به من الأجانب عما أحدثه فى الفريقين من طيب الأثر مع اختلافه ، أبرقت عينه التى يتحدث بها وقال مبتسما :
" من الناس من يمتطى صهوة الجواد ، ومنهم من يركب حمارا ، ومنهم من يعتلى جملا ، ولكل مطية
من هذه المطايا حركة تخالف الأخرى. والفارس الفارس من يحسن ركوبها جميعا".
ويروي كذلك عن الخديو إسماعيل أنه في سياق حديث له عن حاجته إلى إيفاد مندوبين في بعض المهام إلي أوربا، قد أظهر الأسف لأنه لم يجد من يوجهه إلى باريس. "فهذا نوبار يصلح للأستانة لأنه قادر على التزيد والمبالغة، وشريف يصلح لانجلترا، فهو يحب الرماية والصيد، ولكنه لا هذا ولا ذاك بالذي يغني في فرنسا. إذ لا مندوحة عن نسج أرق من هذين ليكون اللباس المناسب لباريس".
وندع الآن هذه الصفة - صفة النظر والفراسة - التي هي في عالم السحر الاسماعيلى بمثابة المدخل، لننتقل إلي غيرها، فنتحدث - قدر الاستطاعة - عن سحر حديثه.
كان إسماعيل واسع المعارف، وقد أفاد الشئ الكثير في سياحاته. وكان مغري بدراسة الأشخاص وتقصي الأمور، وقد ضربنا على ذلك الأمثال. ويضاف إلى ما قدمناه أن ذاكرته كانت عجيبة في الاستذكار والحفظ. والأمثلة على ذلك أيضا كثيرة: منها أنه كان في حديث مع البعض في شأن قناة السويس، وجري ذكر المفاوضات الأولى لها، فخالفه في بعض تفاصيلها، فأورد الخديو مما علق بحافظته نحو عشرين سطرا من مستند لا يعتبر من الوثائق الهامة، وكان تلقاه منذ ما لا يقل عن عشرة أعوام. فاستأذنه محدثه في تدوين ما ألقاء له. فلما رجع بعدها إلى المستندات ألفي الأمر كما ذكر له.
كما أنه كان ذا بديهة صادقة في الفكاهة، وكان في ذلك خفيف الروح لطيف الهزل مهذب اللسان. من ذلك أنه جرت بينه وبين أحد قناصل الدول وحشة، فتطوع من أهل مودتهما من أصلح بينهما. وكانت للقنصل زوجة تهمة تعاف مؤاكلتها لما تظهر من الجد في الأكل وسرعة الابتلاع. فلما وقع الصلح أرسل الخديو على سبيل الايذان
به والاحتفال له سوارا بديعا إلى قرينة القنصل، فلما خوطب في نفاسة الهدية كان جوابه للسائل المتعجب: " لم يكن أمامي إلا هذا أو دعوتهما إلي وليمة. وإني - يا عزيزى! لأوثر الحرب على رؤية هذه المرأة وهي تأكل".
وهذه البديهة السريعة الحاضرة لم تفارق إسماعيل حتى في إبان الازمة المصيبة التي ائتمرت الدول فيها على المطالبة بخلعه، ولم يسفر فيها لجميل مساعيه السياسية وجليل شفاعاته المالية في دار الخلافة أثر يعول عليه أو خير يطمأن إليه.
ففي الليلة السابقة لعزله جاءه المستر لاسيل القنصل العام للدولة البريطانية والمسيو تريكو القنصل العام لدولة فرنسا يعاودان الكلام ليحملاه على خلع نفسه عن العرش واستخلاف ابنه توفيق عليه. وكان إسماعيل قد ناط أمله بالاستانة. فأعاد عليهما القول بأنه لا يملك من الأمر شيئا إلا بموافقة الباب العالي. فهتف المسيو تريكو على عادته عالي الصوت صخابا: "إنك تصرفت عشرين مرة على خلاف رغبة السلطان. ومع ما في هذا القول من الصدق فإن إسماعيل كان يعرف الرجل الذي أمامه، فبادره على الفور: "أتحداك أن تذكر هنا مثلا واحدا". ولما كان
حضور الذهن آخر ما يتصف به المسيو تريكو فانه أسقط في يده وأرتج عليه. فتدخل المسيو لاسال بدوره في أدب ولطف: "ولكن - يا صاحب السمو! - أليس يجمل بكم إظهار بعض الاستقلال عن الاستانة، فقد يغرر بكم الباب العالي". فأجابه إسماعيل في مزح هادي مؤثر: "إذا كان مرادك - يا سيدي العزيز! - أن يكون أول ما أصطنع فيه استقلالي هو التنازل عن ملكي كله، فاني لا أكاد أري وجه المنفعة فيما تدعو إليه من استقلال".
وأظهر ما كانت تتجلي هذه الروح حين كان يخلو بمن يأتمنه ويطمئن له بثقته ويأنس بناحيته. فأن الخديو إسماعيل إذ ذاك كان يتبسط في الحديث، فيورد الملح مما وجد في طبائع الناس وسير الحوادث، وهو مستقر علي الصفة الوثيرة يريح ساقه، أو متمش يدرج في الحجرة جيئة وذهابا، ويزيد من وقع الكلام بما بيديه من حركة وإشارة. وكذلك يزجي السويعات القلائل التي يسمح لنفسه فيها بالراحة والاستجمام. ولم يكن الخديو فيما يرويه يصدر عن حزازة يتشفى منها بالمزاح، بل كان ذلك فيض الفؤاد الذكي والملكة الناقدة والنفس الطروب.
وكان إسماعيل ممتلي الصوت، خلاب المنطق. وكان رشيق العبارة يخلع على معانيه حتى المطروق منها حسنا يملك القلوب ويسترق الأفهام. وهو يجيد الفرنسية وبها أكثر حديثه. وقد حدثنا من استقبلهم من الكتاب الفرنسيين أنه قد يتلكأ بادئ الأمر وكأنما لا يساعفه اللفظ، حتى إذا نشط وهزته من الحديث شجونه، وبخاصة إذا تناول غرضا من الأغراض التي لها موضع في نفسه، فانه لا يلبث أن يفيض في بيانه ويتدفق الكلام تدفق اليعبوب على لسانه. والمسائل التي يرددها كثيرة وخطيرة: منها قلة الأيدي العاملة وكيفية الاعتياض عنها في بلد يستورد الفحم بالثمن الباهظ؟ السبب في بخس قيمة القمح المصري في الأسواق الأوربية؟ ومن أين تأتي تلك الحرافة في الطعم وهذه الرائحة الممسكة التى له؟ وهل
مرجع هذا العيب إلى طريقة الفلاحين في الدراس، أو هي طبيعة التربة التي لا فوسفات فيها؟ وهل يصلح لنا استيراد الأسمدة، وما أصلح أنواعها؟ كذلك الآفات التي تفتك بالقطن والسبيل إلى علاجها؟ ثم محصول قصب السكر فانه جيد وفير، ولكن السكر المستخرج منه لا يعدو أنه متوسط، فكيف تعليل ذلك؟ وهلا يوجد في أوربة أو غيرها زراعات يصح في مصر اقتباسها ويرجي من ورائها الخير والربح؟ وما العلاج لهذا الانحطاط في صفات الحيوان، وهذا الفساد المتطرق إلى النبات؟ وهل ما يطعمه الأهالي واف بصلاح بنيتهم وجبر قوتهم؟ وما هو نصيب المساوئ الحكومية في فقر الأمة وسوء الحال؟
بهذا الاهتمام الحفي وهذه الصراحة النادرة كان يتحدث إسماعيل. فهو عليم كل العلم بما هو واقع. بل إن نظره كان يمتد إلى ما وراء الواقع الحاضر، فتراه يقول وهو يطمئن المسيو دي ليسبس على حسن نيته نحو مشروعه: "إني يا مسيو دى ليسبس لا أكون خليقا بولاية مصر إن لم أك أشد منك تعصبا لإنجاز قناة السويس، ولكن همي أن تكون القناة لمصر، لا مصر للقناة".
وكان الخديو إسماعيل يشفع كلماته بابتسامة من ابتساماته المشرقة، فتلين أمامه الطباع، ويرتفع له حجاب الأسماع، فإذا ما يقوله يدخل الآذان بلا استئذان، ويفعل في الألباب فعل السحر.
وإلي هذا رقة حاشية وظرف شمائل وأدب جم. وهذه الصفات المأنوسة يلمسها كل من لاقاه أول ما يلقاه. ويبلغ من أثرها أنك لا تقرأ لكاتب من زوار مصر الأجانب تعرض لوصف الخديو إلا ضمنها ذلك مهما أوجز كلامه وغالب افتتانه.
والآن ندخل في غمرة أخري من فيض ذلك السحر، غمرة ذاهبة الغور لم تقف عند ساحل؛ وهي كرم الخديو إسماعيل وخطل يديه بالتوال وكثرة بذله الأموال.
والعجيب أن الأمير إسماعيل قبل ولايته العرش كان إلي ما عرف عنه من الجد في مزاولة الأعمال معروفا بالحرص في تدبير المال والقصد في الانفاق، وكان من أثر هذا في إدارة شئون أملاكه وحسن القيام عليها أن جاءت أطيانه في الصعيد بضعفي محصولها من قصب السكر، كما زاد معمل التكرير الذي أنشأه عندها في توفير الأرباح، فعظمت بذلك ثروته، فماذا الذي تراه جعل الأمير المقتصد واليا معطاء كثير البذل؟
إن هذا العجب لا يلبث أن يبطل، حين تذكر أن إسماعيل كان خلف صدق لجده العظيم محمد علي، ينزع نزعته ويصدر عن عزيمته في طلب العظمة لملكه. فتراه منذ اليوم الأول من ولايته يعمل على أن يضفي علي مصر مخايل العظمة، لا يعرف في ذلك أناة ولا صبرا، وإذا كان جده قد أراد الاستقلال بملكه وتوسيع رفعته بحد السيف عنوة، فحرمته من ثمرة انتصاره الدول الأوربية، فإن حفيده إسماعيل يسعي سعيه ويعالج مطلبه، ولكنه يفعل ذلك لا بقوة السيف هذه المرة بل بسلطان المال.
فهذا هو يبذل المال ذات اليمين جملا من الذهب عظيمة، وهدايا فاخرة، وأعلاقا نفيسة، للخليفة العثماني وللصدر الأعظم والوزراء ورجال المابين وموظفي الديوان ليحصل من الباب العالي على مقومات الاستقلال من ألقاب وحقوق وراثة وتملك للثغور والأصقاع اللازمة.
ثم هو يبذل مثل هذا ذات الشمال ليكسب عطف الدول الأوربية. وحسبنا أن نذكر في هذا المقام معرض باريس الدولي عام ١٨٦٧. فقد زاره فيمن زاره من ذوي التيجان إمبراطورا الروسيا والنمسا، وملكا بروسيا وإيطاليا، والسلطان العثماني خليفة الاسلام، وولى عهد الإمبراطورية البريطانية، وغيرهم من الأمراء والأقيال. ومع هذا فلم تقم الصحف الباريزية لواحد من هؤلاء بمثل الحفاوة التي استقبلت بها خديو مصر، فقد صدحت جميعها بالتهليل له والهتاف باسمه ، وفاضت أعمدتها بالتعريف
به والاطناب في وصفه، والإشادة بمساعيه وإظهار محامده. ولقد أظهر إسماعيل من سعة البذل والبذخ في هذه الزيارة ما أحله في المنزلة الرفيعة بين ملوك أوربة، وما جعل أهل الغرب يتمثلون منه في رأي العين وحقيقة الواقع سلطانا من سلاطين الشرق الذين قرءوا عنهم في أساطير "ألف ليلة وليلة".
فلما انتهى العمل في حفر قناة السويس، ولم يبق إلا الاحتفال بفتحها، وقرر الخديوي السفر لدعوة الملوك، كان استقباله في كل بلاط استقبال ملك عظيم بالغا غاية الرعاية والتكريم. وتعمد الخديوي ألا يقصد تركيا قبل الجميع، كما تجنب في العواصم التي زارها مقابلة السفراء العثمانيين، حتى يتقرر في الآذهان أنه سيد أمره لا تابع لمتبوع.
وفي حفلة افتتاح القناة، ضرب إسماعيل المثال الذي ليس قبله ولا بعده مثال، على حبه الشرقي للعظمة، وارتخاصه في سبيلها كل نفيس وغال، وفرط اعتماده على استمالة أوربة بمظاهر الكرم والحفاوة. ففعل ما يخطر وما لا يخطر في بال، وأقام في لحظة من الزمن كل ما يرد على الوهم ويعلق به الخيال، حتى سحر الوافدين من بلاد الغرب ذات الشوكة والثروة والسلطان الواسع، وأخذ منهم بالألباب وأدخل عليهم الابتهاج. وحسب إسماعيل شاهدا على حفاوته أن هتفت إمبراطورة فرنسا الجميلة: "إستقبال رائع! لم أر في حياتي حفاوة أجل من هذه!".
وإذا كان إسماعيل قد أنفق في زيارته لمعرض باريس بضعة ملايين من الفرنكات واستحدث بعض الديون، فانه تكلف أضعاف ذلك في توفير أسباب البهجة والأبهة في حفلات القناة وما اتصل بها من مظاهر ومنشئات ولقد بسط الخديوي رواق ضيافته إلى ألوف من الضيوف ليسوا كلهم من الأعلام الممتازين، أياما عدة يقضونها في مصر علي نفقته، ويشمل ذلك تذا كر قدومهم وإيابهم في
الدرجة الاولى، ومقامهم وطعامهم وأجور خدمهم وانتقالهم مزودين بالأدلاء والتراجمة للتفرج على المدن والآثار في السكك الحديدية وفي البواخر النيلية؛ وبالجملة لم يكن لهذه الألوف أن ينفقوا من حر مالهم فلسا واحدا من يوم يغادرون بلادهم إلي يوم يعودون.
ولقد وفق الخديو بسحر كرمه وبذله الأموال إلي تحقيق حلمه بالاستقلال - وإن تكن قد شاءت المقادير والديون أن يخرج من سيطرة الباب العالي إلي الوقوع من الدول الغربية تحت سيطرتها المالية ثم السياسية.
على أنه مهما قيل في تعليل "سحر إسماعيل"، فإنه يبقى في آخر الأمر بقية بغير تعليل، وذلك ما يسمونه "الجاذبية" و "قوة المغنطيسية".
ولقد كان المتصلون به يحارون، ويخجلون من أنفسهم أحيانا، حين يجدون أنهم ينسون معه ما قدموا من أجله، ويذهلون عما بيتوه من نية واعتزموه من أمر، فهم لا يملكون في حضرته إلا أن ينجذبوا له وينحازوا لرأيه.
ومما يروى في ذلك، أن أحد القناصل كان إذا قابل الخديو في أمر من الأمور انتهى بأن يوافقه على كل ما يقول، فإذا خرج من عنده وخلا بنفسه ليكتب إلى حكومته قدح فيه وأساء القول في حقه. وكان الخديو
إسماعيل يردد متعجبا: لماذا يقول الشئ في وجهي، ويقول غيره من ورائي؟
فسأله سائل: ألم تكلموه سموكم في ذلك؟ فضحك إسماعيل:
"أى والله! عشرين مرة! وهو يقول في كل مرة إنه أخطأ في كتابة الرسالة، وسيعقبها بما يصلحها في الرسالة التالية، وفي التالية يزيد الطين بلة. فماذا تراني أفعل! أتراني أكون حاضره أيضا وقت كتابة رسائله!"
وكان عزاء الواحد من هؤلاء أنه يري غيره يتورط في ذات الورطة ويقع في عين الحيرة. فلا جرم يعذر ضعفه ويطيب نفسه علمه أنه ليس المسحور وحده. ولا غضاضة ما دام المسحورون بإسماعيل كثيرين.
وجملة القول في الخديو إسماعيل أنه كان من أقدر الرجال وأعلاهم همة، شديد التعلق بالحضارة الغربية، متوقد الروح بالطموح المأثور عن جد الأسرة المحمدية ومهما قال القائلون له أو عليه، فانه كان مستوليا على أمده، متقدما علي زمنه، وإن مصر الحديثة مدينة له بمعظم ما فيها من معالم المدنية.
