الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد السابع عشرالرجوع إلى "الرسالة"

الخشاب الشاعر

Share

هذا النابغة الذى سأحدثك عنه كان ثانى النيرين وأحد الفرقدين  فى عصره اذ لم يكن لهما ثالث يجاريهما فى حلبة القريض، أو يدانيهما  فى مضمار الأدب. ولقد خان الحظ شاعرنا فى عصرنا هذا حتى  أصبح نسيا منسيا لدى الجمهور ولو أنه معروف بين الخاصة من  الطبقة الراقية فى الأدب. ولقد جنت عليه المطابع المصرية اذ لم  تنشر ديوانه، وطبعته مطبعة الجوائب بالاستانة مع مجموعة كبيرة  أصبحت نادرة جدا.

خدم الحظ البهاء زهير فطبع ديوانه فى أوربا ومصر عدة  طبعات بيع بعضها بقرشين حتى انتشر وحفظ منه الفقهاء والمنشدون  والمغنون كثيرا وغنوه فى الحفلات حتى شاع وملأ الأصقاع  مع أنه لا يذكر بجانب شاعرنا المترجم به.

وكان ثانى النيرين العالم العلامة والشاعر المجيد الذى ضرب  بسهم فى مختلف العلوم والفنون الشيخ حسن العطار شيخ الجامع  الازهر. وقد ارتحل عن مصر وقت هجوم الفرنسيين عليها وتجول  بين ربوع الشام واشقودره، ولما آب من رحلته مازج المترجم به  وخالطه، ورافقه ووافقه، فكانا كثيرا ما يبيتان معا ويقطعان  الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر، وكثيرا ما كانا يتنادمان  فى دار صديقهما الحميم الوفى الشيخ الجبرتى ويطرحان التكلف ثم  يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان فى كل فن جولة، وكانت تجرى  بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وافتك بالعقول من الحدق  المراض، وهما حينئذ فريدا عصرهما، ووحيدا مصرهما لم يعززا  بثالث فى ذاك الوقت

كان والد المترجم به نجارا ولما راجت صناعته فتح مخزنا لبيع الاخشاب بجانب تكية الكلشنى بالقرب من باب زويلة، وارسل

ابنه الى الكتاب لحفظ القرآن، ثم طمحت نفسه الى طلب العلم  فذهب الى الازهر ولازم حضور السيد على المقدسى وغيره من  أفاضل الوقت فانجب فى فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة، وشغف  بمطالعة الادب والتاريخ والتصوف حتى أصبح نادرة عصره فى  المحاضرات والمحاورات واستحضار المناسبات.

ولد ماثة أخلاقه، ولطف سجاياه، وكرم شمائله، وخفة روحه  صحبه كثير من أرباب المظاهر والرؤساء والكتاب والامراء  وكبار التجار

يقول لنا الجبرتى إن شاعرنا السيد الشريف أبا الحسن اسماعيل  ابن سعد بن اسماعيل الوهبى الحسينى الشافعى كانت له قوة استحضار  فى ابداء المناسبات حسبما تقتضيه حال المجلس، فكان يجالس ويشاكل  كل جليس بما يدخل عليه السرور ويأسر لبه بلطف سمره ومنادمته  الجذابة الخلابة

ولما دخل الفرنسيون مصر عين المترجم له محررا لتاريخ حوادث  الديوان وقرر له الجنرال جاك منو فى كل شهر سبعة الاف نصف فضة

علق المترجم به شابا من رؤساء كتاب الفرنسيين وكان جميل الصورة  لطيف الطبع عالما ببعض العلوم العربية ويحفظ كثيرا من الشعر،  فلتلك المجانسة فى الميول، مال كل منهما الى الآخر حتى كان لا يقدر  احدهما على مفارقة صاحبه، فكان المترجم له تارة يذهب الى داره  وطورا يزوره هو ويقع بينهما من لطيف المحاورة ما يتعجب منه،  وهو الذى نفح الشاعر بهذه النفحات العظيمة والغزل الفائق

ولم يزل المترجم به على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم  النفس والعفة والنزاهة والولع بمعالى الامور والتكسب وكثرة  الانفاق، وسكنى الدور الواسعة، وكان له صديق يسمى أحمد العطار  بباب الفتوح توفى فتزوج شاعرنا امرأته وهى نصف، واقام معها نحو  ثلاثين سنة ولها ولد صغير من زوجها المتوفى فتبناه ورباه ورفهه  بالملابس وأشفق عليه اشفاق والد بولده، ولما ترعرع زوجه واقام  له مهرجانا فخما، وبعد سنة من زواجه مرض اشهرا انفق فيها كثيرا  من المال عليه، ثم قضى الغلام نحبه فجزع عليه جزعا شديدا  وأقام له مأتما عظيما، واختارت امه دفنه بجامع الكردى

بالحسينية ورتبت له رواتب وقراء واتخذت مسكنا ملاصقا لقبره اقامت  به نحو الثلاثين سنة، وهى مداومة على عمل الشريك والكعك بالعجمية  والسكر وطبخ الاطعمة للمقرئين والزائرين كل جمعة على الدوام،  وشاعرنا طوع امرها فى كل ما طلبته، وكان كل ما وصل إليه من مال  أو كسب ينفقه عليها وعلى اقاربها وخدمها لا لذة له فى ذلك حسية  ولا معنوية، لانها فى ذاتها عجوز شوهاء وهو نحيف ضعيف الحركة  جدا، ومرض بحصر البول مع الحرقة والتألم وطال عليه حتى لزم الفراش  اياما ثم توفى فى يوم السبت ثانى الحجة سنة ١٢٣٠ بمنزله الذى  استأجره بدرب قرمز، وصلى عليه فى الأزهر فى مشهد حافل ودفن  عند ابنه المذكور بجامع الكردى

وقد اهتم الشيخ حسن العطار بجمع ديوان الخشاب فى حياته  سنة ١٢٢٧ لاعجابه الشديد برقته وبلاغته وسمو خياله، اى قبل  موته بثلاث سنين، ويؤيد ذلك التاريخ الذى وضعه ناسخ الديوان  محمد صالح الفضالى الواقعى المصرى إذ انتهى من نسخه فى يوم الاحد ١١ شوال سنة ١٢٢٧. وقد عاش المترجم بعد جمع ديوانه ثلاث  سنين، ولا يبعد انه نظم فيها شيئا ليس بالقليل، ولأنه لم يترك عقبا  امتدت يد الشتات الى نظمه الأخير.

لا نعرف بالضبط التاريخ الذى بدأ فيه بمعالجة القريض. وأقدم  تاريخ فى ديوانه سنه ١٢٠١ يؤرخ به ميلاد ابن أبى الأنوار السادات،  ومن ذلك يعلم انه مكث يقرض الشعر أكثر من ثلاثين سنة

طرق الشاعر عدة أنواع من الشعر وهى الغزل والخمريات والمدح  والرثاء والتهانئ والوصف والموشحات والادوار. وان القينا  نظرة عامة فى شعره وجدناه صادق الوصف منسجم السياق رشيق  الاسلوب يحسن اختيار الالفاظ، موسيقى الاوزان، خفيف الروح  فخم التراكيب، مسلسل المعانى متصلها، ولم نر فى جميع ديوانه شيئا  من الهجو، وهذا مما يدل على سمو أخلاقه.

ولغزله المكانة الأولى ولا سيما ما قاله فى صديقه الفرنسى الذى سبق  الكلام عنه، فانه يتأجج بعنيف العواطف والصراحة فى القول ورقة  التعبير ورشاقة الوصف. ومن أرق قوله فيه:

أدرها على زهر الكواكب والزهر  واشراق ضوء البدر فى صفحة النهر  وهات على نغم المثانى فعاطنى  على خدك المحمر حمراء كالجمر  وموه لجين الكأس من ذهب الطلا  وخضب بنانى من سنا الراح بالتبر

وهاك عقودا من لآلى حبابها  فم الكأس عنها قد تبسم بالبشر  الى أن قال فى آخر القصيدة. وفوق سنا ذاك الجبين غياهب  من الشعر تبدو دونها طلعة البدر  ولما وقفنا للوداع عشية  وأمسى بروحى حين جد السرى يسرى  تباكى لتوديعى فابدى شقائقا  مكللة من لؤلؤ الطل بالقطر

وقال فيه أيضا:  علقته لؤلؤى الثغر باسمه  فيه خلعت عذارى بل حلا نسكى ملكته الروح طوعا ثم قلت له  متى ازديارك لى أفديك من ملك  فقال لى وحميا الراح قد عقلت  لسانه وهو يثنى الجيد من ضحك:  اذا غزا الفجر جيش الليل وانهزمت  منه عساكر ذاك الأسود الحلك  فجاءنى وجبين الصبح مشرقة  عليه من شغف آثار معترك  فى حلة من أديم الليل رصعها  بمثل أنجمه فى قبة الفلك  فخلت بدرا به حفت نجوم دجى  فى حندس من ظلام الليل محتبك  وافى وولى بعقل غير مختبل  من الشراب وستر غير منهتك

ومن أروع ما قال فيه موشحه الذى عارض فيه موشح  الشيخ حسن العطار الذى مطلعه:

أما فؤادي فعنك ما انتقلا  فلم تخيرت فى الهوى بدلا (فاعجب)  وهذا الموشح الذى يسيل رقة ورشاقة مخمس ومرفل. قال رحمه الله:  يهتز كالغصن ماس معتدلا   اطلع بدرا عليه قد سدلا (غيهب)  ريم يصيد الاسود بالدعج  يسطو بسيف اللحاظ فى المهج  يزهو لعينى بمظهر بهج  فكيف أبغى بحبه بدلا    وليس عنه جار او عدلا (مهرب)

وضاح نور الجبين أبلجه  وردى خد زها توهجه  اليه شوقى يزيد لاعجه  فلست أصغى عذلا   وعنه والله لا أتوب ولا (أرغب)  المى شهى الرضاب واللعس  يزرى غصون الرياض بالميس  يختطف اللب خطف مختلس  لو يحل الخصر نبتنى أسلا   من رام يوما اليه أن يصلا (يحجب)  قطع قلبي بحبه اربا  وصد عنى فلم أنل اربا  أواه أواه منه واحربا!  أصلى فؤادى بخده وقلا   وذبت وجدا به ولى قتلا (فاعجب)  مجوهر الثغر يلفط الدررا  يدمى فؤادى وخده نظرا  علم عينى البكاء والسهرا  فانهل دمعى كالوبل وانهملا   بالدم خدى عندما هطلا (خضب)  مولاى رفقا بصبك الدنف  قد كدت اقضى عليك من اسف  تلاف روحى فقد دنا تلفى من ريقك العذب ارونى انتهلا   وهات كأسى وطف بها ثملا (واشرب)  راحا سناها يضىء كاللهب  تبسم عن رطب لؤلؤ الحبب  عطر مازج ثغرك الشنب  بين رياض ومسمع غزلا   على المثانى اذا شدا رملا (اطرب)  والورق من حسن صوتها الغرد  تميل قضب الرياض بالميد  وتوج الدوح لؤلؤ البرد تاجا من الدر نظمه كملا   فكن من اللهو سالكا سبلا (وادأب)

ومن درر نظمه خمريته:  أدر السلاف على صدى الألحان   ودع العذول بجهله يلحانى واستجل بكر الراح فى ظل الربى   بين الرياض تزف والعيدان  شمس لها من فوق خد مديرها      شفق الصباح اذا بدا الفجران  نور ولكن من سنا لآلائها          فى الخد نار فؤادها الولهان  نار لها فى وجنتيه وكفه              لهب به اعشو الى النيران  من كف معتدل القوام كأنه        قمر يلوح على غصين البان

نشوان من سكر الشباب يهزه   من خمر فيه وراحه سكران  ومهفهف ماء الحياء بوجهه       يزرى بهى شقائق النعمان

الى أن قال:  ليث العرين له تلفت جؤذر     يفتر عن در على مرجان  متلألىء تحت الشعور جبينه     كحسامة فى غيهب الميدان  عربى لفظ اعجمى المنتمى      هندى لحظ صائل بيمان  غصب النجوم فصاغهن اسنة   وبفيه نظمها عقود جمان

والقصيدة طويلة والجزء الغزلى فيها يرجع الى صديقه الفرنسى.  ومن الطف قوله قصيدته التى يمدح بها السادات  وصلتك واضحة الجبين المسفر   من بعد طول تمنع وتستر  قامت فخالست ازديارك قومها   وتربصت سحرا هجوع السمر  واتت ترنح كالغصين اماله         نفس الصبا وتجر فضل المئزر  هيفاء يخجل لحظها وقوامها        بيض الصفاح وكل لدن أسمر  ما أنس لا انسى ليالى وصلها       بين الرياض وحسن نغم المزهر

الى أن قال:  من سادة ورثوا النبى وجاهدوا   فى دينه حق الجهاد الاكبر  من خير بيت من ذؤابة هاشم   من معشر أكرم به من معشر  والقصيدة طويلة.

ومن أروع شعره قصيدة فقد مسودتها وراجعه فيها الشيخ  حسن العطار فذكر له منها أحد عشر بيتا من وسطها ونسى الشاعر  مطلعها وآخرها

ولرب ليل قد أبيت بجنحه     أطوى هضاب فدافد ووهاد  بأغر أجرد ضامر لكنه          جلد العزائم عند كل جلاد  متعودا وطء الاسنة فى الوغى   متجشما فى الروع هول طراد  ظن السيوف جداولا وعوامل   المران أغصان النقا المياد الى أن قال

متقلدا عوض السيوف عزائمى      متسربلا بدل الدروع فؤادى  حتى بلغت أخا السماحة والندى   وابن السراة السادة الاجواد

لقد فات الجبرتى أن يخبرنا عن ارتباط شاعرنا بعصر المماليك  قبل دخول الفرنسيين وفترة الاربع سنين التى تولى الحكم فيها ولاة  الاتراك، والعصر الذى عاشه فى عهد ساكن الجنان محمد على باشا

وللمترجم له من النثر بعض مراسلات وتقاريظ مسجعة كعادة  أهل عصره رحمه الله رحمة واسعة وألهم المصريين تخليد ذكره  وإعلاء شأنه.

اشترك في نشرتنا البريدية