صنع العرب لهذا الخط ما أزال إبهامه ، وسد نقصه . وكذلك فعل الفرس والترك وغيرهم من الأمم الإسلامية التي اتخذت الخط العربي لكتابة لغاتهم
ولا ريب أن من يسمع دعوانا في إيثار الشكل علي حروف الحركة يتردد في قلبه أو علي لسانه هذا السؤال : كيف يفضل هذا الشكل المشكل على هذا الضبط الواضح الذي يحدد صورة الكلمة فيحفظها الرائي كما يراها ؟ وما الذي أدي إذن إلي التحريف الكثير الذي تعب علماؤنا في التحرز منه ، وألفت فيه الكتب ! وكيف نحمل الكلمة شكلات كثيرة لا تتسع لها !
وإني أعجل الجواب لهؤلاء السؤال : إن إهمالنا الشكل ليس عيبا في الشكل . ولو أنا حرصنا عليه وجرينا فيه على اصطلاح واضح متبع لتيسر لنا وضبطنا به لغتنا . وينبغي أن نتدارك اليوم ما فاتنا قبلا .
نحن في شكل كتابتنا بين إفراط وتفريط ، نجد كثيرا من المخطوطات والمطبوعات الدينية والأدبية مشكولة شكلا تاما ، لا يخلو حرف فيها عن شكلة . ونجد مخطوطات أخري ومطبوعات لا شكل فيها أو يندر فيها الشكل . فأما إهمال الشكل فيؤدي إلى الغلط والتحريف واللبس ؛ وأما الشكل التام ففيه عبث ، وفيه تحميل الكلمة من الشكل ما يزدحم عليها فيغلط القارئ ويتعبه . أليس عبثا أن نضع فتحة على حرف بعده ألف مثلا ! ألبس عبثا وضع شكلة على حرف في كلمة مثل قالوا وباعوا ، أو شكل ضمير مثل أنت وأنتما وأنتم ، أو شكل واو العطف والحرف في وأمثالها ؟ ! ينبغي أن يترك الشكل في مثل هذه الكلمات
ثم ينبغي ألا ننسى خصائص لغتنا ، وأن نلغي الشكل
الذي تغنينا عنه هذه الخصائص . اللغة العربية لغة أوزان ؛ لأفعالها ولأسمائها أوزان معدودة. وقد قلنا آنفا إن الخط إذا جعل لكل صورة من الحروف لفظا واحدا فحسبه هذا ، وإن لم يدل كل حرف على صوت في الكلمة كما بينا في رسم الكتابة الفرنسية والإنكليزية . فإذا كان في الكتابة العربية صور من الحروف لا تحتمل إلا لفظا واحدا وجب ألا تشكل هذه الصورة ؛ وهذا موضوع يحتاج إلي التفصيل والضبط . ولست أتعرض لتفصيله الآن ، ولكني أعرض منه أمثلة : ما الذي يدعو إلي شكل اسم المفعول من الثلاثي ؟ وهل يلتبس على قارئ العربية النطق بمحمود ومقصود ومطلوب ونحوها ، ألها وجه آخر محتمل ؟ ومثل آخر مصدر ما زاد على الثلاثة مثل التفعيل والاستفعال ؛ فإذا رأي القارئ ألفاظا مثل تكريم وتعليم وتقويم ، ومثل استفهام واستخراج واستكبار ، أيتردد في تحديد لفظها ؟ أليست هذه أدل على النطق من laugh و ntighbour و night وأمثالها ؟ فلماذا لا نستغني بأوزاننا عن الشكل ؟ وإذا شئنا الاصطلاح على أمر أو أمور غير هذه لتقليل الشكل فلا حرج . قد سمعت من بعض الباحثين في هذا الموضوع ، وصدق ما سمعت تجربتي أن الفتحة أكثر حركات العربية . وقد تتوالي عشر فتحات أو أكثر كما في الآية " فحشر فنادي فقال أنا ربكم الأعلى " والآية " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه"؛ وكنا نسمع الصبيان في الكتاتيب يلغزون بالسؤال عن عشر نصبات بين عم والنازعات ، ونحو هذا فإذا اصطلحنا على أن نشكل كلماتنا وندع الحرف المفتوح فتكون علامته سلبية ، كما يترك الأوربيون علامة السكون ، استغنينا عن شكل نصف حروفنا ، واتسعت الكلمات للشكلات الأخرى فإذا حسبنا مع هذا حروف المد وهي كثيرة في العربية ومغنية عن الشكل ) وقد خلت الحروف اللاتينية من حروف المد ( ، ولم ننس خصائص لغتنا ، هان الأمر
جدا نستطيع أن نكتب - مثلا - :
" عسي أن يبعثك ربك مقاما محمودا" فلا نشكل إلا أربعة حروف ، ولا يحتمل حرف منها وجها آخر . وكذلك :
" ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك" نشكل فيها اثني عشر حرفا .
وقد أردت ضبط الأعلام الأعجمية حين نشرت الشاهنامة فوضعت قاعدتين : الحرف الساكن أو الممدود لا يشكل ، والمفتوح أول الكلمة كذلك ؛ فاستغنيت عن شكل كلمات مثل جمشيد وأفريدون وكيكاؤوس إلخ
ولست أريد بهذا وضع خطة معينة ، ولكن أريد التمثيل ليتبين أن الأمر لا عناء فيه إن صدقت النية
لعل معترضا يقول : إن هذه مسائل لا يعقلها إلا العالمون ، ونحن نريد كتابة تجمع العالم والجاهل. وجوابي أن الناس لا يقرءون اليوم إلا مطبوعات ، وإنما خط اليد للرسائل الخاصة وأشباهها ، وكاتب الخطاب يكتب بلغة عامية أو عربية ، ويعرف من يكتب إليه فيكتب له ما يتضح لديه ، ويشكل ما يحتاج إليه .
وأما المطبوعات وهي رسائل التهذيب والتعليم في هذا العصر ، فيشرف علي طبعها عارفون لا يعسر عليهم ان يتبعوا القواعد التي توضع للمطبوعات كلها .
إذا بلغ الخط العربي بهذه الوسائل ونحوها أن يحدد ألفاظه تحديدا تاما ، فهل هذا أحسن من رسم الحركات أثناء الكلمة ؟ نعم! لأن هذا أقرب إلي طبيعة اللغة ، ولأنه أقصر وأيسر علي القارئ وعلي المستملي.
هل الخط العربي بعد هذا واضح ؟ هل حروفه على صغرها أبين في نظر القارئ من الحروف اللاتينية ؟ إني أتهم رأيي في هذا؛ لأني ألفت الخط العربي فلا أدرك غموضه ، ولأني أخشي أثر العصبية في نفسي، قد سألت
المستشرقين وهم لا يتهمون بعصبية ، ولا بإلف . قال مستشرق ألماني واسع العلم بالعربية والفارسية والتركية ، وكنت أحدثه في هذا الشأن في اسطنبول : ما أذ كر أني عجزت عن قراءة مكتوب عربي أرسل إلي ، ولقد أعجز وزملاني عن قراءة مكتوب ألماني ! وقال لي هذا المستشرق مرة أخري في مصر بحضرة مستشرق آخر نابغة : هل للخط مزايا أعظم من الوضوح والجمال والاختصار ؟ إن الخط العربي يجمع هذه المزايا كلها ، بل يكاد ينفرد بها . قلت : ولكن يلتبس أحيانا على القارئ . قال أشكل وأمن نفسك من اللبس.
وأما جمال الخط العربي فأمر وراء البيان والجدل . لقد سار هذا الخط فنا ذا أصول ورسوم ، له كتب وأئمة ، كما بينت من قبل ؛ وقد صار منذ قرون كثيرة حلية وزينة وجمالا في الأبنية والأوراق والثياب ، وافتن فيه الكتاب والنقاشون والمهندسون أي افتنان .
وأمر آخر : سمعت من طبيب تركي عظيم من أطباء العيون ، قال : إن الخط العربي أكثر ملاءمة للعين وإراحة لها من الخط اللاتيني، فعجبت وقلت : كيف ؟ قال : لكثرة الزوايا في الحروف اللاتينية . وأنا أزيد على هذا أن اختصار الخط العربي لم يحوجنا إلى تصغير حروفه كما أحوج الأوروبيين خطهم الطويل . وكثيرا ما يقرأ أحدنا خطا عربيا في غير إجهاد لنظره ، فإذا أخذ كتابا إفرنجيا تعب بصره فاستعان بالمنظار أو عجز عن القراءة .
نحن لا ندعي أن خطنا كامل ليس فيه موضع لليت ولعل ؛ ولكن ندعي أنه على علاته كخطوط الأمم أو خير منها ، وأن إصلاحه يسير ، وكماله قريب ، وليس علينا إلا أن نصدق العزم ، ونستمد العقل .
وبعد ، فلو أننا نعيش في القرن الأول الهجري لحق لنا أن نقيس خطا بخط لنختار ما نختار ؛ ولكنا نتكلم في خط نسج في حضارتنا أربعة عشر قرنا أو أكثر ، وصار
لنا تاريخا وأدبا وصنعة ، وحوي تاريخنا وأدبنا ومعارفنا ، فإن غيرنا خطنا وأخذنا خطا آخر فقد قطعنا حاضرنا من ماضينا ، وسدلنا الحجب بيننا وبين آدابنا وعلومنا التي تملأ الخزائن في المشرق والمغرب ، ومحونا جمالا نحسد عليه ، وفنا يضيء في عيوننا وقلوبنا كلما رأيناه في مصاحفنا ومساجدنا وقصورنا . إن كان منا من يرى تاريخنا عارا ، وماضينا سبة ، ويري الخير في أن نقطع كل ما يصلنا بهذا التايخ ، ونستعير تاريخا أو نعيش بغير تاريخ ، فله أن يدعو إلي نبذ خطنا فيما ننبذ من تراث الأعصار والأجيال. لقد سألت صبيا تركيا في بروسة قبل ست سنين ، وأنا أتأمل الجمال والجلال في القبة الخضراء ، قبة السلطان محمد جلبي ، قلت : يا غلام أتقرأ هذا ؟ وأشرت إلي جملة جميلة وضاءة واضحة على جدار ؛ فقال : اسكي تركجه بيلبورم " "لا أعرف التركية القديمة" . لا جاء اليوم الذي يدخل فيه أحدنا إلي دار الكتب فيري مصاحف سلاطين المماليك ويسأل شابا عربيا مسلما أن يقرأ البسملة فيقول : " عفوا أنا لا أعرف العربية القديمة "
إننا نقرأ اليوم مكتوبات القرن الأول الهجري ، وندخر مخطوطات القرن الرابع فما بعده ، ونقرؤها في غير عسر ونفسرها . وهي ميزة يحسدنا عليها امم الحضارات الكبرى المسيطرة على العالم اليوم ، كما نفهم لغة العرب قبل الإسلام ، ونتمثل بشعر امرئ القيس مع شعر شوقي . وهذه عجيبة أخري لا نعرفها لأمة من أمم الأرض اليوم . ولهذا توالت علينا النصائح : دعوا اللغة القديمة واكتبوا اللغات العامية كيلا تلحنوا ، دعوا الخط العربي واكتبوا بالخط اللاتيني كيلا تضلوا . ومن قبل راع الناس ما يري من التجانس والتقارب بين الأقطار العربية خاصة ، والأقطار الإسلامية عامة ، فدعينا إلي الارتداد إلى الجاهليات الأولى لتنقطع بيننا الأواصر ، وتتفرق بنا السبل
أشهد لقد سألت مستشرقا إنكليزيا منذ سنين عن
كتابة الفارسية بالحروف اللانينية ، فقال يمكن ولا يلزم؛ ثم سألته عن كتابة العربية بهذه الحروف . فقال : أري أن اللغة العربية والقرآن والحديث والخط العربي بناء واحد ، إذا هدمتم جانبا منه انهدم كله - أو كما قال - . وأشهد لقد سمعت مستشرقا آخر يقول : إن كتبت اللغة العربية بالحروف اللاتينية صارت كاللغة المالطية بعد جيلين .
ثم ، هذا الخط العربي ليس لنا وحدنا ؛ هو تراث عزيز عند أمم كثيرة . وأشهد مرة أخري لقد سمعت مستشرقا يقول : إن هذه دعوة قديمة ، ولو سمعناها من إنكليزي أو فرنسي لقلنا إن له مقاصد استعمارية ، ولكنا سمعناها في مصر فماذا نقول ؟ !
ولقد حدثت أديبا عربيا كبيرا مغرما بمصر وأهلها ، كثير الاعتراف بفضلها ، حدثت هذا الرجل فأفاض في الحديث ، ثم احتد ، ثم صاح غاضيا : أمصر تدعونا إلي هذا ؟ ! والله إنه ليعز علينا . ثم زاد غضبته فقال : والله لنقاطعنها ثم نقاطعنها إن همت بذلك .

