من الآراء الغالية والاعتقادات الشائعة أن لكل أمة من الامم خلقا خاصا يميزها عن غيرها من الأمم ، وان هذا الخلق يثبت على الزمن ويغالب الأحداث والمحن ، وتنسم به أفكارها وأعمالها ، ويبدو اثره فى كل جانب من جوانب حياتها ، وكل ركن من اركان حضارتها ، وهذا الاعتقاد عنصر قوي من عناصر تصوراتها القومية ، وعامل هام فى تكوين محلها الوطنية التى تدين بها وتستوحيها حين المناضلة عن كيانها ، والمفاخرة بقوميتها ، والاعتزاز بشخصيتها وهو يقتضي تمجيد الأمم لمزاياها وخصائصها وإعجابها بتقاليدها وعاداتها ، والتعالي على غيرها من الامم وانتقاصها . وأكثر الناس وبينهم جمهرة كبيرة من المفكرين وذوي الرأي يقبلون هذه الفكرة قبولا مطلقا ، ويعتبرونها فرضا لا سبيل إلى الشك فى صحته ، وانها من الوضوح كالنهار فى قول المتنبي :
وليس يصح فى الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
على ان مجافاة التعصب ومحري الاعتدال لم يذهب من الدنيا ، فإن هناك فريقا من المفكرين لايتطوحون كل هذا التطوح ، ويحاولون ان يخضعوا امثال هذا الرأي للبحث الخالص والنظر العلمي المجرد ، وينبذون منها ما كان بين الغالاة مسرفا فى الأدعاء ، ولكنهم مع ذلك يسلمون بأن وجود الخلق القومى مما لا يمكن نكرانه والمماراة فى وجوده ، ولو انهم قد يعجزون عن اكتناء حقيقته وكشف سره .
وقد انتهى المؤرخ الألماني المعروف فون رانك إلى هذه النتيجة وهي " إن الروح القومية يحس بها ، ولكن لا يمكن فهمها ، فهي هواء روحي يغشى كل شئ " وهو كما يرى القارئ بتحاشى التورط فى التفاصيل وتتناول الدقائق واستيعاب الحقائق ، ولكن مؤرخين كثيرين غيره لم يلتزموا مثل هذا الاحتياط .
ومعظم الآراء التى من هذا القبيل تقوم على إرجاع كل أمة من الأمم إلى سلالة من السلالات البشرية ، والقول بأنها تستعد ملامحها النفسية وصفاتها العقلية من ملامح هذه السلالات وصفاتها .
وقد لحظ الرحالة القدماء والسياسيون والكتاب اختلاف القوانين وتباين العادات ، وتناقض الامزجة والشارب بين مختلف الاقوام ، واجالوا الفكر فى تعرف اسباب ذلك وتعليل حدوثه . والمعروف عن مفكري العصور الوسطى أنهم لم يحفلوا كثيرا بهذا التنوع ، ولم يعيروه كبير عناية ، ولكن المفكرين الإنسانيين جددوا الاهتمام به ، وأعادوا النظر فى تعليل القدماء لذلك ، ومنذ ذلك الحين كثرت الكتب عن الخلق القومي . وبعض هذه الكتب يكتفي بوصف الخصائص القومية وبعضها محاول التعليل وتحري الأسباب والاصول . وقديما كانوا يمثلون الخصائص القومية بتأثير القوي الطبيعية مثل النجوم والجو أو التري فى الدم والإفرازات الداخلية وأمزجة الناس ، ومصدر معظم النظريات الخاصة بتأثير الجو هو الكتاب
المنسوب إلى أبقراط . أما الرأي القائل بتأثير النجوم فقد تكفل ببيانه بطليموس وجالينوس . على أن بعض مفكري اليونان أدركوا ان تأثير الطبيعة فى الدم أقل اثرا فى تكوين عقلية الأفوام من العوامل الجغرافية ، والعوامل الجغرافية تؤثر فى الأحوال الاجتماعية ، والأحوال الاجتماعية فى دورها تؤثر فى صوغ عقلية الأمم وتوجيهها . والنظرية الأولى القائلة بتأثير الطبيعة فى الدم نعلل خلق سكان الصحراء بفعل أشعة الشمس المباشر . أما النظرية الثانية القائلة بتأثير العوامل الجغرافية فى الأحوال الاجتماعية فإنها توضح أن الصحراء تستلزم الحياة البدوية المتنقلة ، وهذه الحياة من شأنها أن تطبع الخلق القوي بطابعها الخاص . وقد لوحظ بعد ذلك أن الأمر أكثر تعقيدا مما يبدو ، وأن لقوي التاريخ الفعالة مثل الحروب والهجرة والتجارة والاختلافات الاجتماعية والكشوف والمخترعات والثورات والاحتكاكات الثقافية ، وما إلى ذلك من العوامل ، أثرا فى خلق سمات لحضارة وإقامة بنائها ؛ وهذه العوامل التاريخية إلى حد ما من مستحدثات الطبيعة . ولكنه أصبح واضحا بوجه عام أن الطبيعة عامل نسى ، وان تأثير الطبيعة يختلف باختلاف الأقوام والظروف والأحوال ، وهو يتوقف على مجموعة من العوامل العديدة ، وأن الشخصية الفردية أو الاجتماعية عامل بعيد الأثر فى هذه المنظومة من العوامل المؤثرة .
وفي الفترة الممتدة من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر كانت مسألة تنوع العادات واختلاف النظم والقوانين وتحليلها من الموضوعات التى تداولها البحث وكبر فيها الغوص ، وكان لما كتبه يودان ومنتسكبيه اعظم تأثير فى هذا الصدد . وقد بشط يودان رايه فى كتابه عن " المنهج التاريخي " وقد اشبع الحديث عن تأثير الجو فى أحد أجزاء هذا الكتاب ، وأضاف الكثير إلى ما قاله القدماء فى هذا الموضوع . أما منتسكبيه فقد تناول هذا الموضوع فى كتابه القسم المعروف عن روح القوانين " وقد
حاول منتسكييه فى هذا الكتاب ان يكشف روح القوانين وان يفسرها ، وان يقتني اثر علاقتها بالعادات والمعتقدات ، وصور الحكم والأحوال الجوية ، وكتابه حافل بالملاحظات الهامة والآراء السديدة . على أنه قد بالغ فى تقدير قوة الجو وتأثيره وقد كان هيوم وهردر فى طليعة المفكرين الذين هونوا من فكرة ان تأثير الجو عظيم شامل . وقد بالغ كتاب القرن الثامن عشر بوجه عام فى تقدير اثر الجو ، وجاء فى آثارهم انصار مذهب الرومانسيزم فأكدوا فكرة التطور التاريخي العضوي " وتوعوا بالروح القومية التى يمكن أن تقتفي آثارها خلال تاريخ أي أمة من الأمم . وحاول كثير من المؤرخين ومخاصة فى ألمانيا وفرنسا أن يثبتوا أن تاريخ أمتهم يؤكد ثبات الخلق القوي وتأبيه علي التغيير ، وكانوا يعزون كل مظاهر نجاح الأمة إلى عبقرينها القومية . أما ما كانت تحقق فيه فكان يعري إلى التأثير الاجنبي الغريب عن خلقها . وهذا الرأي لم يثبت طويلا للبحث ، ولذا أعرض عنه الباحثون .
وقد أدى تقدم المعلومات الجغرافية والتاريخية إلى بحث هذه المسائل بحثا انتقاديا علميا ، وتناول مشكلة الخلق القوي بطريقة منظمة ، وتسمى هذه البحوث ، الجغرافيا الانسانية وقد عني كثير من المؤرخين وعلماء الاجتماع وعلماء علم الإنسان وعلماء النفس بتوضيح السمات القومية ؛ وكان مما يزيد قيمة هذه البحوث انها لم تقتصر على تناول المسألة من ناحية عامة ، وإنما تناولت احوال الأمم الخاصة ونظرت فى تقاليدها ومثلها العليا وميولها الفكرية ونزعاتها العقلية ، وقد اسفر النظر إلى المسألة من الناحية الجغرافية عن تعميات عريضة مؤيدة بأمثلة مستمدة من حياة امم مختلفة وحضارات متبابنة . وقد أجدت هذه الطريقة ، لأن دراسة البناء الاجتماعي لكل أمة من الامم فى ضوء أحوالها الطبيعية وتطوراتها التاريخية والنظر إلى العقلية القومية باعتبارها نتاجا للقوي الاجتماعية والتاريخية يجنينا الكثير
من الأخطاء والاحكام العجلى . وقد كان الكتاب السابقون يبدءون يحسهم بفكرة غامضة عن الخلق القوي ، ويتحررون إظهار اثره فى حياة الأمم وتاريخها . ولكن الباحثين الآن يمدون إلى وصف النظم الشائمة عند أي امة من الامم ويحللون مظاهر حضارتها ، ويستخلصون بعد ذلك الخصائص العامة للأمم . على أن هذا الأسلوب نفسه لم يخل من إنارة بعض الشكوك الانتقادية ، فما يمكن أن تتسع فيه شقة الخلاف مسألة هل تسيطر الاتجاهات العامة التى يتكون منها ما يسمي بالخلق القومي فى نواحي الحضارة المختلفة جميعها مثل الناحية الاقتصادية والناحية السياسية والناحية الأدبية والفنية ؟ فالوحدة والانساق فى الناحية الواحدة من نواحي الحضارة من الأمور التى قد يرتفع إليها الشك ، وقد يشك مثلا فى وجود روح عامة للأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني ، وفضلا عن ذلك فإن الحضارة القومية ليست تعبر تعبيرا خالصا عن الخلق القومي .
لأن كل أمة من الأمم قد استوردت من الخارج أجزاء هامة من حضارتها ، وفي بعض الاحيان فرضت على الامم بعض النظم بطريق القسر والإرغام ؛ فقبائل الساكسون مثلا أرغمت إرغاما على الدخول فى الديانة المسيحية بعد أن قاومت ذلك مقاومة عنيفة ، وهذه النظم قد آثرت بعد ذلك تأثيرها فى حياتها . والدراسة المقارية للامم التى يتشابه مستواها فى التطور الاجتماعي تظهر انه ليس هناك سمة من السمات مقصورة على امة من الامم وتخلو منها عقلية الامم الآخر خلوا تاما ، وان الاختلافات إنما هي اختلافات فى الزمن والدرجة والتركيب ؛ فبعض السمات قد تظهر مبكرة فى حياة أمة من الأمم ، أو قد تظهر فى شكل أوضح فى إحدى الامم ، أو قد تأتلف بصفات اخري بنسب متفاوتة فى أمم أخرى .
والحجج المناهضة لفكرة الخلق القومي اهمها وجود تنوعات كثيرة وفروق ملحوظة فى ملامح الأفراد الخلفية
وسمائهم الثقافية ، وذلك فى كل أمة من الأمم . ثم التغيرات الجوهرية التى تتناول الآراء السابق تكوينها عن الخلق القومي وثباته وتأبيه على التغير ، وحدوث هذه التغيرات ينقض فكرة امتياز الخلق القومي وبقائه على حالة واحدة ، ويهدم الفكرة القائلة إن الاختلاف فى الخصائص العقلية بين الا مم اختلاف عميق ولا يمكن ان يزول او ان يتغير ؛
وبالرغم من وضوح هذه الملاحظات والنقدات فإن فكرة الخلق القومي لا تزال مسيطرة على العقول ، ويرجح ان يكون سبب ذلك تلك الفكرة الخاطئة عن " الخلق " بوجه عام ، فالخلق الفردي نفسه ليس ثابتا ثباتا مطلقا ، ولا مطردا اطرادا فوق منال التغيير ، وهو يشمل مجموعة من النوازع والميول المحتربة المتناقضة القابلة للتغيير إلى حد ما ، ويمكن ان نفهم الخلق على انه تلك المجموعة من القوى المتجهة إلى نوع خاص من الوحدة والانساق والثبات محت تأثير الميول الموروثة والإرادة المركزية وضغط الظروف الخارجية .
وواضح أن الفرد الواحد فى العادة يبدو أكثر تماسكا وتوحدا وثباتا من الجماعة ، والسبب فى ذلك أن إرادة الفرد قوة أكثر تركزا مما يسعى " الإرادة المجتمعة " ، وأن الجماعة تحوي عناصر أكثر تنوعا من عقل الفرد ، وأن الجماعة أطول عمرا من الفرد ، فهي من ثم أكثر قابلية للتطور والتغير وتعديل أحوالها فالحديث عن الخلق القومي من قبيل انجاز والتشبيه ، وربما كان استعمال كلمه " التقاليد القومية " انفى للغموض واقرب إلى الوضوح من استعمال كلمة " الخلق القومي " . على أن عقلية الأمم لا تتأثر بالتقاليد وحدها ، وإنما تتأثر كذلك إلى حد كبير بالبناء الاجتماعي والشخصيات القوية الممتازة ، وربما كانت " العقلية القومية " التى تكومها مجموعة التقاليد والمصالح المشتركة والمثل العليا الدائمه هي الاصطلاح المناسب الواضح الدلالة المفهوم النشأة.

