الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 188الرجوع إلى "الرسالة"

الخلود L'Immortalite

Share

أحبها فبادلته حبه، فراحا يرشفان أكؤس الغرام تحت ظلال  الأشجار الباسقة. في أفياء الأدواح المنتشرة غنى لها لحن غرامه. فسمعه الطير على  غصنه، وأنصت له العصفور على فننه. اختلسا النعيم ساعات معدودة.  حتى رمى الدهر سهم التفرقة، فسافرت بعيدة عنه إلى باريس.

انتظر كتابا منها يطمئنه على صحتها يرجع الأمل إلى صدره،  والى فؤاده أشعة الحياة. ولكن ساعي البريد أتاه بكتاب نعيها. مسكينة؟! أماتت (جولي) . أو يموت من عاش لأجل الحب؟  لم يصدق عينيه. سار يخبط خبط عشواء، يردد ألفاظها، يقف  الساعات الطوال مكانه يرجع أنشودة غرامها.

إنها أمل رحل. وحب مقيم) نظم قصيدته (الخلود) L,Immorialite' فكانت  قطعة من قلبه الملتهب، ونشيدا لفؤاده المضطرب. قضت (الفير) (كما يدعوها)  نحبها. فدبت إلى جسم (لامرتين)   يد المرض.

كان في ريعان الشباب. ظن نفسه أنه على طريق الآخرة  يسير. فلذا جاءت قصيدته  (الخلود)   جامعة لشتى معاني الفلسفة،  والحب والجمال، والخلود، والحياة والموت.(1)

إلى جولى شمس حياتنا اصفرت وهى فى فجرها . ترسل على جباهنا

الذابلة ووجوهنا المنهوكة المتعبة أشعتها المضطربة، وأضواءها  الحائرة، التي تغالب طلائع الظلام وتناصب هواجمه. الظل  يمتد، النهار يموت؛ كل شيء يزول، وكل شيء يفر ويحول.

كم يهلع المرء لهذا المنظر الرهيب ويرتجف! لشد ما يتراجع  وهو راعن الأوصال مضطرب الفؤاد عن شاطئ الهاوية  الماثلة أمامه! بل لكم يخفق قلبه الضعيف، إذ ينصت من بعيد  لتلك الأنشودة المظلمة!

تلك أنشودة الموت، مازالت تتردد في أعماق صدره،  وتنتشر في أنحاء نفسه. وتلك الزفرات المتصاعدة والتنهدات  المرسلة، والأنات المخنوقة، والأنفاس المتحشرجة، لهي آهات  الحبيب، وزفرات الخليل، وانتحابات الولهى، تضطرب وتتراجع،  تتقدم وتتأخر، حول سرير الموت.

الناقوس الصغير مازال يرسل الهمسات، ويعلو بالخفقات.  أصواته التي تطويها معالم الفضاء تنبئ الأحياء أن شقياً بائساً  رحل، ومكدوداً تاعساً إلى هوة القبر نزل

أحييك أيها الموت، أيها المنقذ السماوي، سوف لا تظهر  أمام ناظري بهيئتك المرعبة، وبزتك الموحشة، وطلعتك  المشؤومة. إن يمينك سوف لا تشارفني بمرهف ماضيك، أني  لا أرى تجهم وجهك، ولا أقرأ في عينيك معالم الجريمة والخيانة،  فأنت الذي تنقذنا من آلامنا، تخفف من أحزاننا، تأخذ بيمنانا  لتقودنا إلى حيث الرب الرحيم تستعدي رحمته على نكباتنا،

وتستنزل رأفته على ويلاتنا. إنك لا تميت بل تنقذ؛ إنك لا تهلك بل ترحم؛ إن يدك  يا رسول السماء تحمل إلي نبراساً إلهيا، يوم تغمض عيناي  الكليلتان أجفانهما. تأتي تحت الأضواء المنعشة لتبلل ناظري،  وتغمض عيني، والأمل إلى قربك يطفر، يظلله الأيمان، تشده  التقوى، فتفتح أمامي عالماً رائعاً

إلي أيها الموت. أقبل واكسر عني أغلال الجسد. بدد عن  نفسي قيود الأوصال. أفتح باب سجني واكسر مغالق حبسي  وأعرني أجنحتك الرفرافة، وقوائمك الهفهافة. ماذا يمنعك  عني؟. لماذا تتأخر؟ ماذا يعيقك عن زيارتي الأخيرة؟ تقدم  إلي. فإني أريد أن أرمي بنفسي نحو ذلك الكائن المجهول، حيث  أعرف سر حياتي ومماتي

أي شيء فصل عني؟ من أنا؟ ومن سأكون؟. أموت ولا أعرف ماهية الحياة وسر الوجود، وأذهب  وأنا أجهل ما البقاء! ما أنت أيتها الروح المبهمة، أيها الطيف

المجهول؛ أيها السر الغامض. قبل أن أردى في لحدي أريد أن  أسألك: أية سماء بحقك تسكنين؟ وفي أي عالم تعيشين؟ وأي  قدرة إلهية رمتك إلى هذه الكرة المحطمة، حيث عالمنا الضعيف  الهشيم، وأي يد إلهية قذفت بك إلى سجنك الفخار، واعتقلك  في محبس الطين؟ وأي سر عجيب ربطك بالجسد وربط الجسد  بك وأي يوم تنسلخ الروح فيه عن المادة؟ وتصبح عالما بنفسها،

تقوم بأودها دون أن تعتمد على الجسد البالي والجسم الفاني؟ إلى أين تذهبين؟ أتتركين الأرض الجميلة لترحلي إلى قصر  منيف؟ هل نسيت كل شيء؟ أم لا زلت تذكرين؟ إن هناك  القبر، فهل ستبعثين إلى عالم مجهول جديد؟ أتعودين إلى حياة  أشبه وعالم أحكى وأمثل إلى حجر الله، حيث رأيت أشعة  الحياة ولمست معالم الوجود. أم إنك ستفصلين من كل شيء  تدب إليه يد الفناء؟ وتسير في عروقه دماء البلاء

أستنعمين بمناعم الخلود الأبدية وتلعبين في الجنان غير البالية؟ نعم، هذا أملي الوحيد يا نصف حياتي. تلك هي الأمنية  التي بها رأت الروح التي تضيء جوانب صدري طرق الحياة.  وكانت عزاء نفسي المتألمة التي قضي عليها بالسجن في هذا الجسد  البالي. شهدت ربيع حياتك يرحل وألوانه البهيجة تموت  وتذبل، وزهوره المتلألئة تسير نحو هوة الفناء، والحزن مازال  يفتك بي، والموت يدير مني الخطوات وأنا أجود بالنفس  الأخير، ترتسم على شفتي الابتسامة، وتنهمل من عيني دموع  الفرح، مقدماً إليك كلمات الوداع الأخير، منتظراً نظراتك  لتشع في عيني قبل أن يغمضهما الموت

أولئك الذين تعلقوا بأذيال المادة، وكانوا أشبه بالقطيع،  يسيرون وراء راعيهم (أبيقور ) Epicure سيهتفون (يا له من  أمل كاذب خلب قد مضى ورحل، عندما يرون معالم الدنيا قد  قضت وانتهت

وذلك العالم الذي مازال يفحص أسرار الطبيعة يود  اكتشافها، يدرسها في زاوية مهملة تسمى العقل. سيقطع الدهر

فى فهم كنه المادة , يعيش فى عالم الملموسات , يغفل عن الروح ولكنهم سيهتفون به .

أيها الأحمق , أى كبر سخيف يكسوك ؟ انظرحولك ! تأمل بناظريك ! كل يبتدئ لينتهى , وكل يدب نحو الفناء دبيبه . إن سيرك نحو هدف ممثل , و إلى غاية نهائية هى " هوة الموت "

انظر إلى الحقل وقد علت أوراقه صفرة الذبول! ألا ترى  الزهرة تتعب وتضمحل ثم تلفظ الأنفاس؟ ألا تشهد في هذه  الأحراج الملتفة تلك السدرة العظيمة بجبينها الشامخ ونظراتها  إلى العلياء كيف هوت تحت ثقل السنين ورزحت تحت أعباء  الدهر، ثم امتدت على العشب النضير المنتشر على البطحاء الأرض؟

ألا تنظر الأنهار تنضب فى مجاريها , والبحار تجف فى قيعانها , وهذا الكوكب المتلالى فى السماء اخرت يد الزمن ولادته , وهذه الشمس , وما أشبهها بنا ! إنها تسير الى الفناء والعدم ، وفى السماء حيث الأموات ينتظرون يوما به ينعمون . تأمل حواليك الطبيعة . مرت الأجيال فتكاثقت أتربتها . وتحولتالأعوام إلى ذرات غبار تناثرت فى فضائها

إن الزمن بخطوة واحدة يذل من كيريائك , يخمد عزة نفسك , ويطفىء جذوة اشتعالك , يقبرفي جوفه العميق الحوادث ، ويرمس فى لحده المخيف الأيام .

ولكن الانسان , الانسان وحده , المجنون الأكبر فى هذا الكون ! إنه ليظن أن القبور لتسعد بسكانها , ويأمل أن يعيش الحياة ثانية فيها , فيظفر طياتها بالحياة أثر الحياة ، ويحلم بالأبدية والخلود ، وهو كريشة فى مهب زوبعة العدم الهائجة

ليجبكم غيرى , يا عقلاء الأرض , يا مدعى الفلسفة . اتركوا لى خطأي . فأنا أهوى فلذا آمل , فاذا كان الخلود خطيئة لا توجد مرسومة إلا فى بعض العقول دون أخرى , فكم هذه الخطيئة عزيزة لدى !

اتركوني أيها العقلاء أنعم بجانب ضلتى , إني أحب أن أتمنى وان أعللل الأشياء ، إن عقلنا الضعيف المضطرب يتحير إن عقلناهيك عن الكلام أمام حججكم ، ولكن الادراكيحيكم أما أنا , عند ما أرى الكواكب تسبح فى السموات العلى ،

والنجوم تنحرف عن طرفها المدبرة وسيلها المقررة , واشهد النجم فى حقول الأثير اللانهائية يناطح النجم , والكوكب

يركض أثر الكوكب , فأنصت لصراخ الأرض , واستسكن لسماع صرخاتها المتوالية تتنهد , وقد شق جوفها , ومادت كرة هائمة تضطرب , بعيدة عن السموات وشموسها ، تبكى الانسان المحطم , ابنها العلنى , المسر ع فى طريقالموت الذي هام فى حقول الأبدية المظلمة , عندها أكون الشاهد الأخير , والحاضر الفرد ،

وقداحتاطتن المدلهمات , وأمسك سدىالموت إلى جوف الظلمات . وبالرغم من ضعفى سأنهض واثبا ، لا خوف يدب إلى ، ولا ذعر ممسك على فؤادى , أفكر فيك , ارقب بفارغ الصبر عودة الفجر الأيدى ليضىء العالم المحطم , حيث ارقب لقاءك وأرجو زورتك

كنت تذكرين دائما رحلتنا الهيئة وسفرتنا الرغدة , يوم نشاغرامنا الخالد وبدأ حبنا المقيم , فكنا تنعم على ذوائب الصخور القديمة التى شهدت يجدالاولين حينا , وحينا على ضفاف البحيرة الساكنة , نرقب أمواجها الهادئة , و نستمع الى أصوات مياهها العذبة , فتحمل نفوسنا على جناح النعيم حيث نسلو العالم الصاخب .

كتبت أخوض معك الظباء التي أنتجها التفاف الأشجار . وأسير جنبك تحت الظلال الوارفة والافياء المنتشرة , نهبط الربى لنصعدالجبال . لحظة سعيدة مرت أصغينا خلالهاالموسيقى النجوم . الغامضة , وأصخنا بسمعنا إلى غناء الكواكب الجميل , لال يتخلله ولاضوضاء تمسك ألحانه

كم دهشنا لهذه الصورة الجميلة التي تغطي العالم , عدناأدراجنا إلى المعبد , خشعنا أمام الضوء الخافت الذى يرسل أشعة متضائلة تيعث إلى القلب الرهيبة , و إلى الأجسام الرعشة . سكرىمن جمال الوجود , كنت ترددين النظر بين الأرض والسماء ثم تهتفين :

الله الغيب , هذه الطبيعة مآواك , عند ماتآمل بنظراتناصنع يديك , الروح تراك متمثلا فى كل صورة من إبداعك , فهذه الدنيا صورة كما لك النهار نظرتك , والجمال ابتسامتك . فى كل مكان القلب يعبدك , والنفس ترجو أن تدب فيها الامل وتنفخ طياتها روح العمل

" ايها الخالد اللانهائى القدير الجليل ! إن قلى ليعجز عن وصف اسمك وكتابة حسناتك , والروح التى حبيتها بنفختك

تممجد عظمتك حتى تخمد فيها الحركة , وتسكن بين جنباتها الخفقات

" أيها الالله القدير ! إن الروح لتخضع لحكمتك العليا وأنشودتك المثل . تريد أن تطفر نحو علاك , وتثب إلى سمائك . إنها لتشعر أن الحب هو ختام حياتها ، فهي تحترق لمعرفتك وتلتهب لمرآك

كذلك كنت تقولين و بهذه النفثات كنت تناجين . وقلبانا بجمعان التنهدات , بمزجان الانات، يصعدان الزفرات , يرسلانها صوب هذا الكائن العظيم الذي يدل عليه هو انا ،ويشهد لعظمته غر امنا ، نخشع بصلاتنا أمامه ، تحمل طات قلوبنامحبته واحترامه ،

يرسل إليه الفجر تخشعاتنا وتضرعاتنا , ويرفع نحوه المساء . تذللاتنا وابتهالاتنا , وعيوننا السكري بجمال ما صنعت يداه , تتأمل بين السفينة والفينة الأرض حيث نقينا , والسماء مسكنه . أواه ! فى هذه اللحظة والروح على وشك الفرار تريد اليعاد ،

تود تحطيم السجن . هو ذا الإله يطل علينا من عليا سمائه ، يستجيب دعانا , ينظر إلى شكوانا نظرة عطف تنقذ كلينا .

إن روحينا تريدان أن ترجعا إلى حيث وجدتا النور . واستشفتا الضياء . ثريدان أن تقطعا معا خضم هذا العالم إلى النهاية المحتملة , يدا بيد , ووجها إزاء وجه , حتى تصلا على جناح الحب إلى النهاية . فهى تصعد كضوء النهار إلى أن تنتهى إلى حيث الاله الخالد , وترتمي تحت أقدامه متعانقة باكية . هذه الافكار : أترانها تغشينا وتخدعا ؟

أواه ! أللعدم خلقت أرواحنا ؟ ألفناء كانت حياتنا ؟أتشترك الروح فى مصير الجسد إلى العدم , ويلتهمها جوف القبر الغامض كما تلتهم الضوارىاللحم , ويضيع بين ترابها العظم ؟ أتعود إلى التراب الذى منه نشآت , أم تطير فى الأجواء ولا تستحيل إلى هباء ؟ أم تراها تتبدد فى الفضاء ، كما تتبدد صرخات صوت قذفته عروس حسناء ؟

بعد حسرة ضائعة , وزفرة راجعة , وتوديعة باكية , أترى يفنى المحب , ويطوي الدهر فى صفحات كتابه غرامنا ؟ أواه !؟ إن هذا السر العظيم لايعرف كنهه إلا أنت . ألا انظري موت من أحبك , الغير , أجسي . ردي على

اشترك في نشرتنا البريدية