أما الأولى فقد عرفها التاريخ وعاشت فى جسدها مع سائر نساء زمانها ، ولكنها ارتفعت بنفسها عن عصرها وبيئتها ، وتجلت كرمز حى للعاطفة تحثها الإنسانية من تراثها المعنوى مكانا جليلا عزيزا ، فجمعت إلى أثيرية الجمال والشعور ثبات الواقعية واللاكمال يصلان فيما بيننا وبين تلك المرأة ، فكأنها منا خير ما فينا ، وكأننا منها أقل ما فيها .
وأما الثانية فبنت الأسطورة نتيجة عمل فنى مشترك بين القلب والعقل يحوران فى مظاهر الحياة ويجردانها من كل شائبة وعيب . فبدت أنتيفونة آية فى المثالية ، كأنها العاطفة نفسها فى إحدى نواحيها تجسدت أمامنا ، ولم تعد الفتاة اليونانية نموذجا ، نادرا نعم ، ولكن نموذجا على كل حال ، لتلك العاطفة التى ترتكز عليها الأسطورة ويقوم عليها الأثر الأدبى .
ومهما كان من أمرى فهما مثالان فريدان لعاطفة الأخت تجاه أخيها ، ظهرا فى بيئتين تختلفان كل الاختلاف من حيث الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية ، فتشابها فى نواح وتباينا فى غيرها .
أما الأولى فقومها من سادات مضر ، وكان لها على أبيها وأخويها من الدلال ما نعرفه . قضت حياة طويلة ، توفرت فيها دواعى الحزن والأسى فرزنت بأبيها وشقيت بأزواجها وفجعت بينها ، ولكن الحادثة الجلى التى أثرت فى حياتها فحورت مجرى شعورها وأفاضت شاعريتها الحساسة ، هى مقتل أخيها معاوية يوم الحوزة الأول ، ثم ، وخاصة ، مقتل أخيها صخر يوم كلاب أو يوم ذات الأنل . فأصبحت الحياة أمامها كصحراء تهج فيها ولا تلوى ، مرددة :
ابكى أبى عمرا بعين غزيرة
قليل ، إذا نام الخلى . هجودها
وصنوى : لا أنسى معاوية الذى
له من سراة الحرتين ، وقودها
وصخرا ، ومن ذا مثل صخر إذا غدا
بساهمة الآطال قب بقودها
أو:
من حس لى الأخويين كالعصنين ، أو من رآهما وغيره من الشعر ، وهو أشهر من أن يذكر ، وكان لصخر فيه الحظ الوافر .
وأما الأخرى ، أنتيغونة ، فهى بطلة من بطلات الأساطير اليونانية ، من بنات عائلة اللبا كيديس Labacides وهى الأسرة الملكية فى بلدة ثبيا Thebes هى ابنة الملك أوديب ولدتها له أمه جوكست Jocasie وكانت الأقدار قد شاءت أن يتزوجها بعد أن قتل أباه ليوس Laius. ولا حاجة فى أن نذكر أن كل ذلك كان على غير علم منه . وكان لأوديب من هذا الزواج المشئوم ابنة غير أنتيغونة ، إيسعيني Ismene وابنان اتبوكليس Eteocle وبولينيكيس Polynice وما إن اطلع على أمره حتى فقأ عينيه بإصبعيه ، وطرده ابناء وخالهما وخاله كربون Creon، من وطنه ، فصحبته ابنتاه ، وأنجبهما وأشدهما حزما ، أنتيغونة ، تهدياته فى طريقه ، حتى نزل قرية كولونا Colone قرب أثينا . أما انبوكلبس وبولينيكيس ، فاتفقا على أن يملك كل منهما سنة . فإذا أقبل دور انبوكليس وأحس بلذة الحكم ، أبى أن ينزل عنه لأخيه فى سنته . فخرج هذا من مملكته ثائرا وقصد الأرجبين Argieus يستنجدهم . وقبل أن يسحب بجيشهم على وطنه ، فقصد أباه الشيخ فى كولونا يستغفره ما كان قد سبق وفات منه نحوه من قبح وشناعة ، فلعنه الملك الضرير وتنبأ عليه وعلى أخيه بأنهما سيتطاعتان وسيتضاربان ويقتلان على أسوار مدينتهما ومدينته . وحدث كل ذلك على محضر ومسمع من أنتيغونة . فأخذت تحاول
أن تنهى أخاها عن عمله هذا وإساءته إلى وطنه . ولكنها عبثا فعلت ، فغادرها الفتى مستسلما إلى المصير الذى قدره له القضاء .
وبموت أوديب ، فتسرع أنتيغونة مصطحبة أختها اييسمينى إلى تيبا لتصلح ذات بين أخويها ؛ ولكن عند وصولها ، كان القضاء قد حم ولعنة الأب قد تمت على ولديه العاقين ، وانهزم الأرجيون . فاستتب الحكم لكربون ، أخى زوجة أوديب وخاله ، فكرم جثة اتيوكليس ودفنها بالأبهة والاحتفال الدينى اللائق ، وأما جثة بولينيكيس فأمر بالا توارى فى قبر ، بل بأن تترك مكانها حيث وقعت حتى تتغذى منها طيور السماء ووحوش الأرض ، وتنفر روائحها منها الناس . وكان هذا أكبر عار يلطخ به إنسان فى شخصه واسمه وسمعته فى اعتقادهم . فإن من كان هذا نصيبه بعد موته ، ولم توار جثته أو تحرق على حطب جزل . فإن الأموات فى منازلهم تحت الأرض ، لا يرضون بنفسه رقيقة لهم ، بل يطردونها فتصبح لا مقر لها ، تحيط هائمة بين السماء والأرض .
وأعلن كربون إلى كل ذلك ، بأن كل من لا يمتثل لهذه الأوامر ، ليوارينه حيا فى قبر مظلم ، وليدخلنه هكذا عالم الأموات قبل أوانه ، قبل أن تفارق روحه جسده . ولم يكن ذلك لترضى به أنتيغونة ، فإن هذا التشنيع والتشكيل ما كانا ليليقا بأخيها وابن أمها . فأدت نحو جثته ما كانت القوانين الطبيعية السابقة للقواميس الوضعية تفرضه على الأهل من طقوس وواجبات ، وطيبتها ووضعتها فى التراب . وفعلت باطمئنان وهدوء . قائمة راضية بما ستئول إليها تلبيتها هذه لعاطفتها الأخوية من عذاب وويلات . فووريت حية ولم تزف إلى رجل ، ودخلت مقرها الأخير وهى تبكى وتنوح لما التصق بها من عيب بسبب ذلك .
وكل هذا الذى أسلفنا وذكرناه ، مادة المسرحيات الثلاث المتتابعة ، للشاعر المسرحى اليونانى المشهور سوفوكليس ، وهى : أوديب الملك ، ثم أوديب فى كولونا ، ثم أنتيغونة . وعقدة العمل فى المسرحية الأخيرة ، ترتكز
على ما سردناه من معاملة أنتيغونة لأخيها بولينيكيس بعد موته ، وما أدى بها إليه ذلك من مصير
ولا يسعنا بعد كل هذا ، إلا أن تقارب بين هاتين المرأتين ، الخنساء أنتيغونة ، ولو كان بينهما بعض التباين من وجوه . فإن الخنساء " هرمت ودبت ، من الكبر ، على العصا (١) . وأما أنتيغونة ففارقت الحياة غضة فتاة . وأن الخنساء وإن توفرت دوامى الحزن والأسى فى حياتها ، فهى لم تشق بسبب أسرتها ، بل كانت عزيزة الجانب فيها ، يدللها أبوها ويعززها أخواها ولاسيما صخر ، الذى كان يشاطرها ماله كلما أتلف زوجها أمواله . وأما أنتيغونة ، فإن عائلتها كانت مصدر مصائبها وعذابها الدائم المستمر ، شقيت فى مولدها ، وشقبت بأخويها اللذين طرداها مع أبنها وأبيهما ؛ ومع ذلك فإنك تراها دائما مثال الحنان والحب على ذويها من أبيها لأنها خلقت لكى " تقاسمهم وتبادلهم الحب لا الحقد .
وإلى جانب ذلك ، فإننا نري الخنساء فى حياتها الاجتماعية ، أعنى فى ناحية اتصالها بالناس ، لا تقيم شأنا لأزواجها ولأولادها . فبينا نحرف لها الآبيات والقصائد عن أخويها ، فإننا لا نسمع منها أو عنها كلمة عن رجالها الأربعة وبنيها ، إلا ، اللهم ما ورد عنها من كلام قالته لتتعزى به عندما يلقها خبر استشهاد أولادها الأربعة فى موقعة القادسية . فكان عاطفة الأخت عندها طفت على عاطفة الأم والزوجة . وها هي أنتيغونة تصرخ ، وهى تساق إلى حيث تحجب عن الناس ويمنع عنها النور والهواء ، إن ما قامت به نحو أخيها ، ما كانت لتعمله لزوج أو لابن ، لأنها تستطيع أن تستغنى بزوج عن آخر بعد موته ، وبابن عن ابن رزقت به . وأما أخوها فكيف السبيل وقد أصبح أبوها وأمها فى عالم الأموات ؟ .
ثم إن الخنساء كان لها " فى نفسها ما ليس لغيرها " ( ٣ ) كما يصفها أبوها لدريد بن الصمة حين غدا عليه ليخطبها إليه ، والمعروف عنها أنها كانت تشارك الرجال فى شعورها
بعزتها وكرامتها وفى صلابة تمسكها برأيها ونظرتها إلى الحياة والناس . أبت إلا أن تبكي صخرها طوال دهرها ، وبالرغم من أن بعضهم كانوا يرون لها عن ذلك رادعا علوميا دينيا . حتى إن عمر بن الخطاب ، وكان من العارفين الدين يقدرون النفوس والرجال بما هم له أهل ، امتنع عن لومها على ذلك بعد أن استفهمها وحاول ، ثم رد من شكوها إليه ودفعوه إلى عذلها ، قائلا : " خلوا سبيل عجوزكم ، لا أبالكم ، فكل امرئ يبكي شجوء " وهذه أنتيغونة تتجاوز حدود قوانين وضعها ساسة أمور وطنها ، فكانت تعد كمقدسة ذات صبغة دينية ، إلى قوانين أسمى وأعمق لم تكتب بالمداد ، ولم تنقش على الحجر ، بل كانت تحمس بها مطبوعة فى ثنايا صدرها ، وتشعر بنفسها مجبولة عليها جبلا ، مقطورة عليها قطرا . فما كانت لترى بغيا وعارا وإنما فى أن ترمى الحرمة والكرامة لهذا الشخص الذى خرج من الأحشاء التى خرجت منها هى(1) بعد أن قضى بائسا ، وسجاه الموت بجلاله . وهى تمضى فى عملها بعزم هاىء واطمئنان ، تذكرنا بتماثيل الإلهات ، تلك التى حفرها فيدباس وتلاميذه فوق أبواب البرنتون ، متجليبة بجمال غاب عنا سحره وسره ؛ فيه الجلال والبساطة ، وفيه العظمة والاستقرار ، وفيه الصفا ، والحلاوة ؛ ولا نرى على وجهها خطوطا ومعالم تشف عن نفس تضطرب فيها الخواطر المبرحة أو تتوهج فيها الأشواق والأهواء والغابات .
إن الخنساء بكت على أخيها وناحت ، وكانت فى قلق مستمر لبعده عنها ، وأحبته لأنه أحبها وساعدها وأعزها فى حياته . أما أنتيغونة فقد ضحت فى سبيل إكرام أخيها ورفع العار عنه وأدت نحوه واجبات الحى لقيت الذى من لحمه ودمه ، برغم ما كان يعترضها من عوائق أودت بها ، بعد أن كان لها منه . فى حياته ، ما لم يكن ليرضها كلاما وعملا . . فأحبته من دون تبادل ، استجابة منها لمجرد عاطفة الأخت فيها . .
الخنساء موقف من مواقف الإنسانية الفذة ، ومصدر أثر أدبى تفاخر به العروبة . أنتيغونة قمة من قمم الأدب
الإنسانى القوى الرائع . الخنساء نتيجة بيتها وذوبها ، أنتيغونة نتيجة تفكير أبناء بيتها ومقدرتهم على التحوير والتجريد وضبط التصورات التى يجب الإنسان أن يتغنى بها فى جفاف حياته ووحشتها . الخنساء امرأة وأخت عاشت وأحبت أخاها وأبت أن تتعزى عن موته ، أنتيغونة فكرة وعاطفة تعانقنا وتمازجنا واتحدنا وبرزنا كوحدة وجودية حية دير لها صاحبها ومبدعها كل الوسائل الفنية حتى تبدو كشخص فى لحم ودم تتمثل فيها عاطفة الأخت لأخيها ، ظاهرة الخطوط والمعالم ، واضحة الحدود والحواجز ، منفصلة تمام الانفصال عن كل ما قد يصلها من ناحية ، بالضعف وباللاكمال الإنسانى .
لا ندرى أيتهما تقدم على الأخرى . فإنا كنا نرتاح ونطمئن إلى واقعية الخنساء ، فإننا نطرب ونبتهج لمثالية أنتيغونة ، ويسرنا على كل حال أن نجمع بين اسميهما وشخصيهما . حتى يقارن كل منا بينهما ، فتبتل جوانحنا لذكرهما كمظهرين من مظاهر عاطفة الحب الشريف الخالص فى الانسانية . .
