الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 455الرجوع إلى "الثقافة"

الخواطر، حديث كله شجون

Share

كانت الليلة هذه المرة مقمرة وممتعة معًا ، إذ كنا جلوسًا في النادي البحري الملكي بالإسكندرية بدعوة من صهري ، وكان العقد عائليًا صرفًا ، فأطل عليه القمر من عل دون عتاب أو ملامة . وعلام العتاب ، والجلسة بريئة لا تشوبها أية محاولة لاستغلال شعاع القمر الفضي . ولعل القمر تعمد أن يحلق فوق رؤوسنا مداعبا ، وحافزًا لنا على قطع حبل السكوت المخيم ، والوجوم الذي لابد منه عندما  يستقر غرباء في مكان عام ، فنظر أحدنا إلى القمر ، وقال في تأمل : ياله من كون عجيب ، إنه هاديء ساكن كالموت ، براق مضئ كالحياة ، مضت عليه آلاف السنين ، وهو يرسل الضياء على الأرض التائهة دون تبرم أو ملل ! هو مثل من نكران النفس يعطي ولا يأخذ ، وسبحان الذي سخره ليهدينا في الظلمات ، دون أن ينتظر منا جزاء أو شكورًا ، وسبحان الذي خلق هذه الشعلة الدائمة التي لا تنفد مواردها ، ولا يخبو نشاطها ! تأملوا معي كيف يتناوب القمر العمل مع أخته الشمس في نظام لا يبارى ، وجل من وجدهم في هذا الطريق منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا ، دون أن يختل ميزان العمل لحظة واحدة .

وهنا انبرت أنسة وقالت في صوت رقيق : لعل أجمل تعبير لهذه الظاهرة المعقدة هو قوله تعالى : " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم . والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم . لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار ، وكل في فلك يسبحون " .

ومن عادة هذه الأنسة أن تضغط على مخارج الألفاظ وخاصة منها الدال والتاء ، فنطقت بالآية في وضوح وجلاء جعلتني أغتبط بنضح الثقافة الدينية في فتاة من عائلتي رغم انتسابها إلى المدارس الأجنبية في مراحل تعليمها وكأننا اكتفينا من القمر بهذا الحد ، فرجعنا من العلياء إلى سفح الوادي ، وحولنا الدفة على طبيب من " الشلة " ينوي تأدية فروض الحج هذا العام ، وسألناه كيف يضحي بعيادته الناجحة مدة شهرين في سبيل أداء الفريضة ، رغم أنه سبق له أن أداها مرتين . فلمعت عيناء من وراء نظارته وبدأ يحدثنا في حماس هاديء عن الرياضة الروحية والبدنية التي يتمتع بها زائر ما حول الكعة وقبر الرسول . وبينما هو منهمك في سرد التفاصيل مالت علي زوجته الصغيرة ، وكانت قد رافقته في إحدى رحلاته إلى الحجاز ، وقالت لي في صوت أكثر هدوءًا وخفوتًا من زوجها : " إن التجربة بلا شك قاسية ولكنها تهون في سبيل تأدية الفرض المقدس .

أنا لن أنسى مثلا يوم ذهبت لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام . إن الرهبة تعميك من رؤية ما حولك ، والدموع تنهمر من عينيك ، وأنت لا تدري كيف تحبسها في مقلتيك ؛ أنت محدق في الأرض صوب العلامة التي تشير إلى المكان الذي دفن فيه الرسول ، ثم تدير برأسك في حركة آلية متأملا المقام الشريف والثريات الفاخرة ، وتشعر أن روح محمد عليه الصلاة والسلام معك طول الوقت تستحثك وتؤنسك ! أنا لن أنسى ذلك اليوم ما حييت . لقد غادرت المكان وأنا أبكي مع البا كبن وبودي ألا أفارقه ، وخيل إلى أني تركت قلبي هناك " .

وكان " بالشلة " شخص يميل إلى الدعابة ، فحاول معاكسة طبيبنا التقي الورع ، فقال له : أنا لاشك معجب بسلوكك الديني ، فأنت دائما تعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ،

إنك مثلا تحسن إلى الفقير ، وتؤدي الزكاة وفريضة الحج كلما استطعت إلى ذلك سبيلا ، وتواظب على تأدية الصلوات الخمس في سبيل إرضاء الله ، وضمان ركن يسعك ومن تحب في جنان الخلد التي وعد بها المتقون . لنفرض أن الحياة تنتهي عند فناء الجسم من عالم المادة ، فماذا يكون موقفك من نفسك وقد أشبعتها حرمانًا من لذائذ الدينار ؟ إن هذا يذكرني بقصة فقيه زنديق كان يبالغ في التملق إلى الله ويبشر بتعاليمه بطريقة متكلفة مفتعلة فاغتاظ منه أحد العقلاء المتزنين ، وحاول أن يكشف عن ريائه أمام جمع من الناس فسأله قائلا : ياشيخ فلان ! لنفرض أنك - بعد هذه المعركة الهائلة بينك وبين نفسك - ثبت لك بعد موتك أن الآخرة ويوم الحساب أبعد مما تظن ، فماذا يكون شعورك ، إذا كان للميت شعور يحس به ؟ فتردد الشيخ قبل أن يقول : يبقى خازوق !

فرأيت عند هذا الحد أن أتدخل قبل أن يندلع الشرر فقلت : إن الإيمان بالله واليوم الآخر أساس جميع الأديان السماوية . ألم يبلغك قوله تعالى : " ياأيها الناس إن كنتم  في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم  من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر  في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ، ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى  أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " وقوله تعالى أيضا : " إن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور " .

وهنا انبرت أنستنا المتدينة ، وقالت في تحد : وهل نسيت قوله تعالى : " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من  يحيي العظام وهي رميم . قل يحييها الذي أنشأها أول مرة  وهو بكل خلق عليم . الذي جعل لكم من الشجر الأخضر  نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السموات

والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم . إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . فسبحان  الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " .

وكان الإلقاء رائعا في رقته - وما أبدع نطق القرآن من أفواه السيدات والآنسات ! - فلم نتمالك جميعا أن قلنا بإيمان وقوة : صدق الله العظيم .

وتشعب الحديث بعد ذلك إلى حادث الطريق الصحراوي الذي كاد يذهب ضحيته نائب وصديقاه ، وعلق كل منا بما خطر له إزاء هذا الحادث المؤلم ؛ وأجمع الكل على أن هناك شيئين يسيء الجاهل استعمالهما إذا وجدا في متناول يديه : أولها البندقية ، وثانيهما عجلة القيادة من السيارة . إن المتعلم ينظر إلى البندقية كوسيلة لحمايته من عدوان المجرمين الجهلاء من بني الإنسان والحيوان ، أما الجاهل فهو يضرب بها ذات اليمين وذات اليسار ، غير مبال أي روح تزهق ، وأي أرواح سوف تتيتم أو تنكل من بعدها ، فقد انعدم الضمير الذي يميز بين الروح الغالية والروح الرخيصة . ثم تأمل بعد هذا سائق سيارة الأجرة الذي يزاحم زملاءه السائقين بمبرر ودون مبرر ، وتتسبب نتيجة طيشه حوادث أليمة قد تودي بأرواح غالية ، هذا فضلا عن وقاحته الممتازة التي يتحدي بها طبقة المثقفين من أصحاب السيارات . والأدهى منه سائق سيارة النقل الثقيلة ، إنه يجلس وراء عجلة القيادة مختالا فخورًا لا ينظر يمينا أو يسارًا ، فهو ملك وعلى الرعية أن تحسب له ألف حساب ، لأنه إذا لمس سيارتك أو سيارتي لمسة خفيفة كانت القاضية بإذن الله ! إنني كلما شاهدت أمثال هؤلاء الجهلاء يعبثون بالقوانين والنظم والأرواح أتمتم قائلا : ما ذنب المساكين ! لقد أعطوهم بندقية في يدهم !

اشترك في نشرتنا البريدية