منذ أيام قلائل كنت أعود طفلا في العاشرة من عمره اصبب فجأة بفقد قوة الإبصار في إحدي عينيه ، بينما كان بلهو وبلعب علي شاطئ البحر، غير عابئ بالمستقبل القريب أو البعيد، شأن غيره من الأطفال ، ينظر إلى الأفق من بعيد فيخالة في قبضة يده . ويعيش للساعة التي هو فيها ، غير مفرق بين أمسه وغده . كان صاحبنا الصغير يشكو في السنوات الأخيرة من قصر في النظر ، اضطر بسببه أن يلبس نظارة طبية ، عملت طبق إشارة وإرشاد طبيب إخصائي . وكان يستعملها أثناء النهار ، وفي استذكار دروسه بالمنزل او المدرسة، وهذا الطفل من طبيعته التنادر وحب الفكاهة . فكان يتساءل دائماً: ألا يمكنني أن ألبسها أثناء النوم أيضاً حتى أتبين بوضوح وجلاء الوجوه التي أراها في منامي وأحلامي ؟
عاد الطفل إلى منزله ذات يوم بعد أن ارتوى وشبع لهوأ ولعباً على الشاطئ ، وإذا يقول لوالده فجأة ؛ إني لا أري بالعين اليمنى ، فإذا أغمضت اليسري بدا العالم ظلاماً حالكاً على غير ما اعتدته . ثم عاد إلي لعبه وكان لم يحدث شئ ، أو كأنه لم يقل شيئاً ذا بال، ولم يلاحظ شهقة الجزع التي صدرت من والدته المثقفة العليمة بما ينطوي عليه كلامه ، ولا باضطراب والده المرهف الحس الذي اسرع باستشارة الإخصائي تلو الآخر ، والمريض الصغير يعجب من اهتمامهم ، ويقول لهم في تفكه وبساطة ، وماذا لو فقدت بصر إحدى العينين ، وبقيت لي الأخرى سليمة أتلمس بها طريقي ، واستذكر بها دروسي وغالبت الام البكاء ، وحبس الوالد دمعة أسي ، ونظر الاثنان إلى تلك العجينة
الآدمية المحشوة بالسذاجة والبراءة والسخافة ، وعدم القدرة على تقدير عواقب الأمور ، وسبحان الذي يخلقها أول مرة ، ثم يسويها ويجعل منها مخلوقاً كامل التكوين والتفكير ، بديع التصوير.
استقر رأي الأطباء على حدوث انفصال في شبكية العين ، وهو مرض يكثر حدوثه بين المصابين بقصر البصار الذين يضطرون بسببه إلي الإلتجاء إلي النظارات الطبية ، يستعينون بها علي المضي في عملهم اليومي في سبيل الحياة وكسب القوت . ويقلل استعمال النظار المناسب من حدوث هذا العارض المفاجيء المضايق . ولذا يجب على من يشك في ضعف نظره أن يلجأ إلي طبيبه ليصلح له ما افسده عامل الوراثة - إذ المعروف أن قصر النظر قد يورث عن الوالدين - وإجهاد العين في سبيل القراءة وكسب العيش . وكلما كان قصر النظر شديدا تعرض الشخص أكثر وأكثر للانفصال الشبكى ، وهو في ذاته قابل للشفاء في حالات كثيرة ، ولكن العملية التي تجري لأجله شاقة مرهقة للمريض والطبيب معاً . فعلى المريض مثلا أن ينام على ظهره أو أحد جانبيه مدة طويلة ، قد تتجاوز الشهر دون حراك . وإذا تمسك الشخص البالغ بأهداب الصبر شاكرا إنك على بلواه ، فأين من هذا الطفل القاصر الذي لا يصير على البقاء في سريره أياما ، بل ساعات ، بصبر بعدها في إلحاح مضايق ممل ، على برنامج نزهته اليومي ، ولا يثنيه عن تصميمه إلا الإقناع المضني ، تارة باللين ، وأخرى بالشدة ، من والدين أرهقهما القلق المميت على مستقبل طفلهما .
أعود إلي بطل قصتي ، فأقول إنه ظل مرحا كعادته طوال مدة إقامته بالمستشفي ينتظر إجراء العملية ، وكان يطمئن نفسه طول الوقت بأنه - حتى في حالة عدم نجاحها - قانع بعين واحدة ، يرى بها النور وجمال الحياة.
وأما التي ألقت شبكتها محاولة صيد ما أمامها ، فلتذهب إلي غير عودة ، فهي قد ثارت على حالة الركود السائدة في محيطها ، وياليتها ما فعلت ، لأنها اعتادت الهدوء الجميل . وأي ثورة ، ولو كامنة ، عرضة لأن تعصف مظاهر الحيوية في هذا الجزء الحساس من الجسم البشري .
وأخيرا أجريت العملية ، وهدى الله المريض لطبيبه ، فنام على ظهره شهرا كاملا يرقب تباشير الشفاء ، ولما رأي النور لأول مرة تمتم قائلا : هذا هائل ، هذا عظيم . وأدرك المرة الأولى أن العين التي ترمي شبكتها - حتى دون أن تهدف إلي صيد جديد - قد تفكر ثانية في الاستقرار والعودة إلى قواعدها بعد أن تهدأ العاصفة ويقوم الطبيب والريض بواجبهما كما يجب .
