الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 453الرجوع إلى "الثقافة"

الخواطر, العيون اللواتي رمين شباكهن

Share

منذ أيام قلائل كنت أعود طفلا في العاشرة من عمره اصبب فجأة بفقد قوة الإبصار في إحدي عينيه ، بينما كان بلهو وبلعب علي شاطئ البحر، غير عابئ بالمستقبل القريب أو البعيد، شأن غيره من الأطفال ، ينظر إلى الأفق من بعيد فيخالة في قبضة يده . ويعيش للساعة التي هو فيها ، غير مفرق بين أمسه وغده . كان صاحبنا الصغير يشكو في السنوات الأخيرة من قصر في النظر ، اضطر بسببه أن يلبس نظارة طبية ، عملت طبق إشارة وإرشاد طبيب إخصائي . وكان يستعملها أثناء النهار ، وفي استذكار دروسه بالمنزل او المدرسة، وهذا الطفل من طبيعته التنادر وحب الفكاهة . فكان يتساءل دائماً: ألا يمكنني أن ألبسها أثناء النوم أيضاً حتى أتبين بوضوح وجلاء الوجوه التي أراها في منامي وأحلامي ؟

عاد الطفل إلى منزله ذات يوم بعد أن ارتوى وشبع لهوأ ولعباً على الشاطئ ، وإذا يقول لوالده فجأة ؛ إني لا أري بالعين اليمنى ، فإذا أغمضت اليسري بدا العالم ظلاماً حالكاً على غير ما اعتدته . ثم عاد إلي لعبه وكان لم يحدث شئ ، أو كأنه لم يقل شيئاً ذا بال، ولم يلاحظ شهقة الجزع التي صدرت من والدته المثقفة العليمة بما ينطوي عليه كلامه ، ولا باضطراب والده المرهف الحس الذي اسرع باستشارة الإخصائي تلو الآخر ، والمريض الصغير يعجب من اهتمامهم ، ويقول لهم في تفكه وبساطة ، وماذا لو فقدت بصر إحدى العينين ، وبقيت لي الأخرى سليمة أتلمس بها طريقي ، واستذكر بها دروسي وغالبت الام البكاء ، وحبس الوالد دمعة أسي ، ونظر الاثنان إلى تلك العجينة

الآدمية المحشوة بالسذاجة والبراءة والسخافة ، وعدم القدرة على تقدير عواقب الأمور ، وسبحان الذي يخلقها أول مرة ، ثم يسويها ويجعل منها مخلوقاً كامل التكوين والتفكير ، بديع التصوير.

استقر رأي الأطباء على حدوث انفصال في شبكية العين ، وهو مرض يكثر حدوثه بين المصابين بقصر البصار الذين يضطرون بسببه إلي الإلتجاء إلي النظارات الطبية ، يستعينون بها علي المضي في عملهم اليومي في سبيل الحياة وكسب القوت . ويقلل استعمال النظار المناسب من حدوث هذا العارض المفاجيء المضايق . ولذا يجب على من يشك في ضعف نظره أن يلجأ إلي طبيبه ليصلح له ما افسده عامل الوراثة - إذ المعروف أن قصر النظر قد يورث عن الوالدين - وإجهاد العين في سبيل القراءة وكسب العيش . وكلما كان قصر النظر شديدا تعرض الشخص أكثر وأكثر للانفصال الشبكى ، وهو في ذاته قابل للشفاء في حالات كثيرة ، ولكن العملية التي تجري لأجله شاقة مرهقة للمريض والطبيب معاً . فعلى المريض مثلا أن ينام على ظهره أو أحد جانبيه مدة طويلة ، قد تتجاوز الشهر دون حراك . وإذا تمسك الشخص البالغ بأهداب الصبر شاكرا إنك على بلواه ، فأين من هذا الطفل القاصر الذي لا يصير على البقاء في سريره أياما ، بل ساعات ، بصبر بعدها في إلحاح مضايق ممل ، على برنامج نزهته اليومي ، ولا يثنيه عن تصميمه إلا الإقناع المضني ، تارة باللين ، وأخرى بالشدة ، من والدين أرهقهما القلق المميت على مستقبل طفلهما .

أعود إلي بطل قصتي ، فأقول إنه ظل مرحا كعادته طوال مدة إقامته بالمستشفي ينتظر إجراء العملية ، وكان يطمئن نفسه طول الوقت بأنه - حتى في حالة عدم نجاحها - قانع بعين واحدة ، يرى بها النور وجمال الحياة.

وأما التي ألقت شبكتها محاولة صيد ما أمامها ، فلتذهب إلي غير عودة ، فهي قد ثارت على حالة الركود السائدة في محيطها ، وياليتها ما فعلت ، لأنها اعتادت الهدوء الجميل . وأي ثورة ، ولو كامنة ، عرضة لأن تعصف مظاهر الحيوية في هذا الجزء الحساس من الجسم البشري .

وأخيرا أجريت العملية ، وهدى الله المريض لطبيبه ، فنام على ظهره شهرا كاملا يرقب تباشير الشفاء ، ولما رأي النور لأول مرة تمتم قائلا : هذا هائل ، هذا عظيم . وأدرك المرة الأولى أن العين التي ترمي شبكتها - حتى دون أن تهدف إلي صيد جديد - قد تفكر ثانية في الاستقرار والعودة إلى قواعدها بعد أن تهدأ العاصفة ويقوم الطبيب والريض بواجبهما كما يجب .

اشترك في نشرتنا البريدية