كنا جلوسا حول مائدة في مكان عام ذات ليلة مقمرة من هذا الشهر . وكان العقد يتكون من اربعة اطباء ، ضرب كل منهم إلى حد ما بمهم في ميدان الشهرة المحلية ولا أدري - أولعلي أدري - لماذا طرقنا مواضيع مختلفة في شتى الفنون إلا الطب ! فالمريض والدواء يتعقباننا في كل دقيقة من حياتنا اليومية ، فلا اقل من ان نريح انفسنا حتى من ذكر اسميهما في ساعات الفراغ والاسترخاء .
تحدثنا عن نجوم السينما في الماضي والحاضر ، وأخذنا نقارن بينهم ، ودهش أحدنا : كيف كنا نطبق السينما الصامتة نرقب شفاها تتحرك ولا نسمع أصواتا نطمئن بوجودها في ظلام صالة العرض : فقلت له : هكذا الإنسان قلب لا يرضيه شئ ؛ عندما اخترع التليفون كبر له وهلل وقال : سبحان الله ! كيف أستمع إلي صديق بعيد عني وأنا جالس في عقر داري ؟ ثم بدأ يعتاد جمال الموقف فبرزت روحه الناقدة مرة أخرى وأصبح يتأفف لأي عطل ولو كان طفيفا ؛ وكان آباؤنا يصيحون في أذن العاملة المسكينة قائلين : " هذا عيب والله يا مدموازيل ، الصوت غير واضح . لقد مضت علي ساعة وأنا أستعطفك لتفتحي لي السكة كما يجب ولا حياة لمن نتادي . الله يلعن التليفون ومخترعه " ثم جاء عهد التليفون الأوتوماتيكي فدهشنا له أول مرة ، ثم بدأنا نضجر مجرد وجود أى خلل ولو كان بسيطا ، ولم تكن هناك عاملة نصيح في وجهها - أو بالأصح في أذنها ، فنكتفي برمي السماعة في غيظ وحنق ونلمن اليوم الذي اخترع فيه التليفون . هذا مجرد مثل بسيط يسري على أمثلة أخرى كالقطار الذي قرب المسافات ، تتأفف إذا
تأخر كسور الساعة في قطع مسافة كان يمشيها أجدادنا الأولون في أيام وأسابيع ، والراديو الذي يسمعك برامج القارات البعيدة وانت جالس في عقر دارك ، تلعنه في حنق وانفعال إذا حمل إليك صوت مطرب لا يعجبك ، فتنسي الفضائل العديدة وتتمسك في انانيه ممقوتة برذبلة غير مقصودة ، إذ يقول المثل السائر : إن إرضاء الجميع من المحال . حقيقة أن الإنسان كفور ولا يملأ عينه إلا التراب . وهناهب أحدنا قائلا - وكأنه لم يستمع إلي كلمة مما قلت : - على ذكر السينما هل تذكرون روداف فالنتينو معبود النساء القديم ؟ وهل تذكرون حزن النساء عليه عندما مات ؟ يا نري كم من سنين الزمان القادر مضت منذ خبا هذا النجم ؟ .
فآجبت قائلا : أذكر أن هذا كان في يوم ٢٣ أغسطس ١٩٢٦ ، والذي ساعدني على تذكر هذا أنه سبق وفاة سعد زغلول باشا بسنة تماما ، وإذا لم تخفي الذاكرة يمكنني أن أذكر أيضا سبب موته ، فقد أصيب بالتهاب في الزائدة الدودية ) المصران الأعور ( لم يمهله أكثر من يومين . ولم يكن في الأيام الخوالى سلفا تاميد ولا بتسلين ، ولا أدري كيف كنا نعالج مرضانا قبل اكتشاف هذين الساحرين ! هذه الالتهابات الداخلية كانت تفتك بالمرضى فتكا ذريا . كان إذا أسبب مثلا بتفييح في جرح بسيط بأصبعه نتيجة تلوثه أثناء إجراء عملية ، سلم أمره للقدر ، فقد كان عليه أن يموت بعد يومين أو ثلاثة نتيجة التسمم الدموي . أملكم يا إخواني تذكرون كيف مات المرحوم الدكتور على بك إبراهيم رامز مثلا . هذا الجراح العظيم الذي قل أن شهدت مصر مثله مهارة وعطفا على الرضى . ولعلي كنت آخر تلاميذه ، فقد حضر إلى غرفة العمليات ذات يوم خميس من صيف عام 1938 ، وكنت واقفا اقرأ قائمة عمليات اليوم ، فوجدت الأستاذ العظيم يقف فجأة إلى جانبي ، وبعد أن حياني تحية الصباح استعرض القائمة
معي ودخل في تواضع إلي غرفة العمليات ليؤدي عمله . وقيل لي بعد ذلك إنه أصيب بجرح في اصبعه قبل ذلك بيوم بينما كان يجري عملية في مستشفاه الخاص ، وشعر يوم اخميس بارتفاع بسيط في الحرارة ، ولكنه محامل على نفسه وحضر إلى مستشفى قصر العيني دون ان يظهر لمن حوله ان في الجو بينما يكاد يتحول إلي رعود وصواعق . ثم استمرت الحرارة في الارتفاع مساء الخميس ، وعندها استسلم للفراش ، فقد كان عليه أن يموت كالعادة ، وأخذ بروح تدريجيا في الغيبوبة المحتومة التي تنتهي إلي ميتة الأبطال الشهداء .
ولازلت اذكر يا إخواتي كيف شيعناه إلى مقره الأخير في حزن عميق . ولقد سرنا على أقدامنا حتى نهاية الرحلة دون ان نشعر بأي تعب ، ولما وصلنا إلى المقيرة ارتطم النعش نتيجة خطأ حامليه محافة الباب ، وكاد طربوشه أن يقع على الأرض ، ولكن النعش صمم على الاحتفاظ بوقاره حتى اللحظة الأخيرة ، إذ سرعان ما استرد توازنه ، وتابع نهاديه في جلال ، حتى وضعوه عند حافة القبر . ولما رفعوا غطاءه كان خادم الفقيد يضرب صدره بيبديه ، ويقول لحفار القبور : جاء لك على بك أخيرا . ترفق به وأنت تودعه بين ذرات التراب كنزا غاليا . وكان الحفار باردا هادئا كالثلج ، عند ما نظر إلي مساعدية ، دون مبالاة بتوسلات التابع المخلص . وقال لهم في لهجة آلية : هيا يارفاق اسرعوا ، ولا تضيعوا الوقت .
اذكر يا إخواني أنني حزنت كثيرا على هذا الرجل ، لقد نسبت مقدار حزنى عليه ، فلقد انتابني بعده سلسلة من الأحزان البعيدة والقريبة . والإنسان منا يلمق الجرح القديم بالحزن الجديد ، وفضيلة النسيان تطغي علي الجرح النازف حتى يصبح كان لم يكن ، وقه في خلقه شئون . وعندها قال أحدنا : ولماذا نذهب بعيدا ، ألم تكن وفاة سعد زغلول باشا نتيجة إصابته بالحمرة مع مضاعفات
رئوية حادة ، لو وجد قرص السلفاتاميد في ذاك الوقت لأطال الطب في عمره سنوات ، أفاد الوطن منها ، لان البلاد كانت مقدمة على مفاوضات هامة مع الإنجليز ، وكانت مؤتلفة ومتحدة في روعة أرغمت المحتل ان يخطب ودها ألستم موافقين على أن يضعة أقراص من السلفاناميد ، أو بضع حقن من البنسلين كان في إمكانها أن تغير تاريخ المشكلة المصرية وتطوراتها في العشرين سنة التي مضت منذ وفاة سعد باشا ! لقد كان وجوده في ذاك الوقت لازما لجمع الشمل وإخافة العدو ؛ فقد كان رحمه الله (بعبع) الإنجليز ولكن مصر سيئة الحظ لأن الوحي الإلهي لم ينزل علي مكتشف مركبات السلفاتاميد إلا في عام ١٩٣٥ ، أي بعد وفاة سعد باشا بثماني سنوات !
فقال آخر : إن حظ الافراد والأمم من الحياة قسمة ونصب . فلماذا لا تعودون من رحلتكم في بيداه الروحية وتتأملوا هذه الفتاه التي تراقص رفيقها ، الا ترون أمها تتلوي كالثعبان بين ذراعي رجل يتحرك في جمود وآلية ، وكأنه تمثال مسير ، لابد أنه زوجها !
