الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 462الرجوع إلى "الثقافة"

الخواطر, " عودة الأسير " أو " بعث من جديد "، أو " طلقة بائنة "

Share

الحمدلله في الذي عاد بالأسير إلى سجنه الأول . والحمد لله الذي غرس الوفاء في قلبه فما عن حبه القديم تحول . منسوه بالمستقبل والآمال ، ثم فكوا عنه الاصفاد والأغلال ، وقالوا له : انطلق إلي الأرض الموعودة فهناك مجال أي مجال ! انتفض المسكين ولكنه بكلمة واحدة ما نطق ، وبعد

أن نظر إلي الأفق جمح قليلا ثم انطلق . غاصت قدماه في الرمال حتى الركبتين ولكن أغراه السراب ، وأذي الشوك أصابعه ولكنه تجاهل المذلة والعذاب . فالأمل كذاب مخائل خداع ، يكيل لك اليوم بصاعين وفي الغد بنصف صاع . وهمس الأسير لنفسه بعد أن أرهبه الطريق المجهول : ما الذي دهاني حين انقدت لهذا الأمل المعسول ؟ ! لماذا لا أتناسي خجل الشباب ، وأقنع من الغنيمة بالإياب ؟ لقد أحبت سجني وسجاني ، ولن يحولني عن حبهما حب ثاني ! تري على أية حال ساجد سجني الجديد ، وهل ستكون أغلاله قضبانه من ذهب أم من حديد ؟ . ياويلتاه ويا حسرتي ! ما أتعسني وما أشد حيرتي ! أللهم ألهمنى

وسيلة أتخلص بها من ورطني ، فقد كنت دائما في ساعات الشدة موئلي وملاذي وقبلتي ! وأخيرا جاء الخلاص ونزل الوحي والإلهام ، كما سأقصه على قارئي العزيز بالكمال والتمام

لقد استعرضت معك يا قارئي العزيز في مقال سابق تاريخ حياتي كطبيب منذ تخرجت حتى وجدت نفسي -  بعد سلسلة من المتاعب والصعوبات - أشغل منصبا يتمناه أي طبيب طموح . ولقد استأذنت منك في آخر المقال لتتركني وحدي قليلا كي أتمتم صلاة شكر لله على ما أنعم به على عبد مؤمن وفي يتحدث بنعمته في الصبح والعشية . ولكن قتل الإنسان ما أكفره ! إذ ما وطئت قدماي مقر عملي الجديد حتي غمرتني ذكريات الماضي البعيد والقريب عن السنين الطوال التي قضيتها في مستشفى قصر العيني ، وهو المكان الذي نشأت فيه ولم أبرحه لحظة منذ تخرجي . لقد أدبني فأحسن تأدمي ، وعلمني فأحسن تحرجي ، ولقد تغلغلت عظمته العلمية الفنية في كل ذرة من جسمى وفي كل قطرة من دي . أصبحت هذه المؤسسة العظيمة جزءا مني ، وصرت أنا كما غير مهمل منها . ومهما قيل عنها فهي عنوان الثقة عند الجمهور ، لأنه يهرع إلي عيادات الأطباء المنتسبين إليها في مختلف الفروع وهو مطمئن إلي مستواهم العلمي . وإن قصتنا معها - نحن الأطباء - لعجيبة حقا ! فنحن نفخر في مبدأ الأمر بشرف الانتساب إليها ، ونذكر هذا في كل مناسبة ، كأن نكبه بالخط العريض تحت أسمائنا في التذاكر الطبية ولافتات العيادات الخاصة ، آملين أن يلمع الأسم في نظر الجمهور . فإذا ما ذاع الصيت وارتفع نتيجة لعوامل شتي أهمها الاجتهاد والمثابرة والأمانة في المعاملة ، بدأت الأم الكبيرة تنظر إلي أبنائها الناجحين في غبطة واعزاز ، ثم تضمهم إلي صدرها وتقول : هؤلاء لن أتركهم أبدا مهما

هفوا وتمردوا وجفوا . ويتمتم الأبناء بدورهم : ونحن أن ننساك أبدا مهما قربت الدار أو شط المزار .

وهكذا تبدأ معاهدة وفاء وولاء، لا يمكن فصم عراها . ولكني ، كأي ولد عاق ، نبذت أمي لقاء ثمن بخس دراهم معدودات ، استهواني بريق النصب الجديد فهجرتها وهي تحاول أن تضمني إليها حتى اللحظة الأخيرة . بكت في صمت وأنا أتجاهل نحيبها المكتوم . ودمعت عيناها فتعاميت عن حرارة دموعها وهي تلسع خدي المصمر . وبينما أذرع طريق إلي الباب لم أحاول النظر خلفي لا تغريني دموعها على الاستسلام إلي العاطفة السماوية التي ألفت بين قلبين دون غاية أو مصلحة . واندفعت السيارة نحو البيت الجديد ، ولما وصلت إلي هناك وجدت بوابته وقد قفزت قائما كأنها قبر يتأهب لاستقبالي . دخلت منها فاحتواني فراغ كاد يكتم أنفاسي رغم سعته . حاولت التنفس فشممت هواء غير الهواء ، وعبيرا غير العبير الذي لم أعتد غيره خلال ثمانية عشر عاما طوال . ولما نزلت من السيارة وطئت قدماي أرضا غير التي لازمتها طول هذه المدة ، والتي سيرت نحوها حتى عرفت كل تفاصيلها لدرجة يستحيل معها أن أنعثر في شرك منصوب أو لغم مخبأ بين طيات رمالها . همست لنفسي وأنا أدب بقدمي النها السكنين على طرقات البيت الجديد ؛ " ما الذي دفعك إلي هذا يا مصطفي ؛ أتترك مستشفى قصر العيني بعد كل ما فعله لأجلك مقابل عرض زائل ؟ ما الذي يرغمك على طرق هذا الجو الجديد ، وإضاعة الوقت في دراسة هذه الوجوه الجديدة وأنت في ففي عن كل هذا ؟ لقد عكس مستشفاك القديم عليك كل أنواره فعرفك الجمهور ، ثم أخلصت لمرضاك فالتفوا حولك ، وبادلوك حبا بحب وإخلاصا بإخلاص . وها قد كونت لنفسك مملكة صغيرة تربعت فيها في تواضع الحامد الشاكر لله ولعبيد الله إنها مملكة محبوكة منظمة لا يتطرق الخلل إليها ، فحافظ عليها ، ولا تحاول التوسع خارجها وإلا أفلتت من يديك .

لا تحاول الطفرة ، بل دع الأمور تجري في تباطؤ وثبات . آه لو قسم الله لي بالعودة ثانية إلى مستشفاي القديم! والله لأنبر كن يلمس جداره كل يوم كما يفعل الناس في مساجد الألياء الصالحين !" .

إن الإنسان لا يدرك عظمة القصر العيني إلا بعد أن يحرم من الاحتماء في حظيرته . إنه وحدة ناضجة ! إنه مثال الاستقلال الجامعي ! إنه سياح لا تنتطرق إليه وساطة أو محسوبية ! إنه غني بالرجال الذين تسلم إليهم قيادك ومستقبلك وانت آمن مطمئن . ليت أصدقائى وزملائى أطباء القصر العينى يحمدون الله على الأرض التي قسم الله لهم أن يعيشوا فيها ما بقى لهم من العمر ! إنها الأرض الطبية بحق ! ليتهم يطلقونها طلقة بائسة كما فعلت ليدركوا

النعيم الذي يتمرغون في أحضانه وهم لا يعلمون !

وفاض بى الحنين ، وغلب على الحزن والأسى ، وتشبثت كالطفل الصغير مطالبا بالرجوع إلى أحضان أمى . ولما تم لى ذلك بعد طول السعي دخلت مستشفاي القديم وأنا مرفوع الرأس ، منتعش الفؤاد .

لقد بعثت من جديد !

ونظرت إلي الأرض الطيبة التي مشيت عليها ووجدتني أنحنى نحوها وأفبض بيدى على بعض ذراتها ثم أقف منتصبا ، وبعد أن تطلعت إلى السماء الزرقاء فتحت يدى ودققت النظر إلى ما كانت تحويه في سرور ونشوة عظيمين .       لقد كانت حفنة من أرض الوطن !

اشترك في نشرتنا البريدية