انتشار الإسلام في غربي آسيا
أما القبيلة التي افتخر ذلك الشاب بانتسابه إليها فهي إحدى تلك القبائل التي اختارت أن تظل على المسيحية، بينما دخل في الإسلام غيرها من القبائل التي كانت تقطن ما بين النهرين كقبيلة بني نمير وبني قضاعة، وكانت قبيلة بني تغلب قد أرسلت من قبل وفداً إلى النبي (ص) في سنة ٩ هـ، فأسلم مشركو هذا الوفد وعقد الرسول (ص) تحالفاً مع المسيحيين منهم الذين استبقى لهم عقيدتهم القديمة على ألا يُعَمِّدوا أطفالهم بعد ذلك. وقد حدا هذا الشرط الذي يخالف تماماً ما عهد عن محمد (ص) من صفات التسامح مع العرب المسيحيين الذين سمح لهم أن يختاروا إما الدخول في الإسلام وإما دفع الجزية، ولم يكرهوا مطلقاً على ترك عقيدتهم، قد حدا هذا الشرط إلى الظن بأنه شرط اقترحته العشائر المسيحية نفسها من بني تغلب بسبب عوامل اقتصادية. غير أن بقاء المسيحية مدة طويلة في هذه القبيلة دليل على أن هذا الشرط لم يعمل به. وقد نهى الخليفة عمر ابن الخطاب عن استعمال أي ضغط عليهم أو إكراههم على الإسلام حينما ظهر أنهم غير راغبين في هجر دينهم القديم، وأمر أن يتركوا في أمن ليزاولوا شعائره على ألا يعارضوا في دخول أي فرد من أفراد قبيلتهم حظيرة الإسلام، وألا ينصِّروا أطفال أولئك الذين أسلموا. وقد طلب إليهم أن يدفعوا الجزية، أعني ما فرض على غير المسلمين من الرعية؛ غير أنهم شعروا أن دفع هذه الجزية شائن لفخرهم القَبلِّي، لأن هذه الجزية قد فرضت نظير حماية
الأرواح والأموال، ورجوا الخليفة أن يسمح لهم بأن يدفعوا من الأموال كما يدفع المسلمون، ولهذا دفعوا بدل الجزية كفلاً من الزكاة - أو الصدقة - التي هي مال فرض للفقراء من عقار المسلمين ومواشيهم. نعم تضجر المسلمون حقاً أن تبقى قبيلة عربية محافظة على العقيدة المسيحية. وقد أسلم أغلب بني تنوخ سنة ١٢ هـ حينما خضعوا لخالد بن الوليد1 مع قبائل أخرى مسيحية من العرب. غير أنه يظهر أن بعضهم ظل محافظاً على العقيدة القديمة نحواً من قرن ونصف، فلقد روي أن الخليفة المهدي (١٥٨ - ١٦٩) رأى عدداً منهم يسكن قريباً من حلب، فلما علم أنهم مسيحيون غضب وأمر بهم أن يسلموا، وقد أجاب ذلك منهم نحو خمسة آلاف شخص. وقد آثر أحدهم أن يقتل على أن يعتنق الإسلام2. وهنا تعوزنا - لتحقيق معظم هذه الروايات - التفاصيل التاريخية التي تشرح لنا زوال المسيحية من بين قبائل العرب المسيحيين الذين عاشوا في شمال الجزيرة. ومن الممكن أن يكونوا قد اندمجوا في العشائر الإسلامية المجاورة، وفي الغالب بطريق التسلل السلمي خفية، وإلا فلو أن المسلمين حاولوا إكراههم على الإسلام بالقوة حينما أصبحوا تحت سلطانهم لما كان من الممكن أن تظل المسيحية حية بينهم إلى عصر الخلفاء العباسيين. (3)
وهاك أهل الحيرة أيضاً فقد قاوموا كل الجهود التي قام بها خالد بن الوليد ليحملهم على قبول الإسلام. وقد كانت هذه المدينة (الحيرة) إحدى المدن الشهيرة في حوادث الجزيرة العربية. وقد حسب ذلك البطل الإسلامي المغوار أن التوسل إلى أهل الحيرة بصلة النسب العربية كاف لحملهم على أن ينضموا إلى اتباع الرسول العربي. ولما بعث سكان المدينة المحاصرة وفداً منهم إلى القائد المسلم ليتفقوا معه على شروط التسليم ويصالحوه سألهم خالد: (من أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب، أم عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟) . فقال له عدي، وكان نقيب القوم: (بل عرب عاربة وأخرى مستعربة) فقال خالد: (لو كنتم كما تقولون
فلم تحادونا وتكرهوا أمرنا) . فقال له عدي: (ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا العربية) . فقال: (صدقت) ، وقال: (اختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا؛ إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة) . فقال عدي: (بل نعطيك الجزية) . فقال خالد: (تبّاً لكم، ويحكم، إن الكفر فلاة مَضلَّة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان: أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي) 1.
وقد اتخذت كل الوسائل اللازمة لوعظ أولئك الذين اعتنقوا الإسلام حديثاً وإرشادهم وتعليمهم، لأنه كان من الضروري - وقد أخذت القبائل تدخل في دين الله بهذه السرعة - أن يؤخذ الحذر حتى لا يخطئوا في العقيدة أو العبادات والشعائر، كما يخشى هذا طبعاً إذا كان إرشاد حديثي الإسلام غير صحيح. ولهذا بعث الخليفة عمر بالمعلمين لكل الأقاليم. وقد كانت وظيفة هؤلاء المعلمين أن يعلموا الناس القرآن، وأن يرشدوهم إلى كيفية القيام بشعائر الدين الجديد. وكان على حكام الأقاليم، شباناً كانوا أو شيوخاً، أن يحافظوا على حضور صلاة الجماعة، وبخاصة صلاة الجمعة، وفي شهر رمضان. ويمكننا أن نحكم على مقدار العناية التي وجهت إلى تعليم من دخلوا الإسلام حديثاً وإرشادهم من هذه الحقيقة؛ وهي أن وظيفة التعليم والإرشاد هذه لم توكل إلى شخص أقل خطراً ومقداراً من خازن بيت المال نفسه. (2)
ومن تلك الأمثلة السابقة التي تدل على تسامح المسلمين الظافرين مع العرب المسيحيين في القرن الأول الهجري، ذلك التسامح الذي ظل خلال القرون التالية. نستطيع أن نستنبط واثقين أن تلك القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك باختيارها وطوع إرادتها. والدليل الواضح على ذلك التسامح
هو بقاء العرب المسيحيين حتى اليوم في وسط الجماعات الإسلامية. ويحدثنا (لايارد) أنه مر بعشيرة من المسيحيين في ناحية الكرك، شرقي البحر الميت، وأن هؤلاء لا يختلفون عن العرب المسلمين لا في لباسهم ولا في عاداتهم.(2) ولقد ذكر رهبان جبل طور سينا لبوركهارد أن بضعة بيوت من البدو المسيحيين ظلت حتى القرن الثامن عشر على دينها، وأن أخرهم امرأة عجوز توفيت سنة ١٧٥٠ ودفنت في حديقة الدير. (3)
وكذلك لا يزال على المسيحية كثير من العرب من قبيلة بني غسان الشهيرة، وهم عرب خلص، وقد اعتنقوا المسيحية حوالي أواخر القرن الرابع الميلادي. وهم يستعملون اللغة العربية في صلواتهم الدينية منذ أن خضعوا للكنيسة الرومانية في القرن السابع عشر. (يتبع)

