طفل من عشرات ، بل مئات الأطفال الذين تزخر بهم القرى المصرية ، حبا كما يحبو الأطفال . ومشى كما يمشي الأطفال ، ونما كما ينمو الأطفال ، غذاؤه الشمس والهواء ثم الخبز والماء . ولد لأبوين فقيرين يمتهنان الفلاحة شأن سكان القرى المصرية جميعا ، ولما بلغ الرابعة من عمره أرسله أبوه إلى الكتاب فتعلم مع أقرانه القراءة والكتاب وحفظ القرآن ؛ فلما اكتمل نموه واشتد عوده انضم إلى أبيه وأمه يعاونهما في فلح قطعة من الأرض يزرعانها ويأكلان وبنوهما من ثمارها .
غير أن الصبي لم يكن خاملا كالباقة من الصبية الآخرين ، بل كان فيه نشاط دافق وحيوية كامنة ، فانطلق في أوقات فراغه مجرب حظه تاجرا ، يشتري بعض الحبوب من ذرة أو قمح ، وبعض الثمار من بلح أو بطيخ أو خيار ، ويبيع هذا كله فيصيب نصيبا من الربح الحلال ، والأبوان يلاحظان هذا النجاح الذي أدركه ابنهما ، وهذا الربح الذي ناله فيشجعان ويباركان .
ومضت الأيام والحياة في هذه الأسرة تجري رتيبة كعادتها . وزرع الأبوان في إحدى السنوات أرضهما بطيخا ، وبارك الله جهودهما فأنبتت الأرض ثمرا وفيرا حلوا طيبا أكله ، ففرحت الأسرة بما أوتيت من خير ، وجلس أفرادها تحت ضوء القمر في الليل يتشاورون - بعد أن جمعوا الثمار - في خير طريقة لبيع هذا المحصول للحصول على أكبر ربح ممكن . وطال النقاش وكثرت الآراء : إنهم لو باعوه في قريتهم " نبروه " لما جنوا من ورانه ربحا يذكر ؛ فالأسعار في القرية دائما بخمسة . وأبدى الوالد اقتراحا أن يذهب الصبى بالمحصول إلى طنطا عاصمة المديرية لبيعه هناك عله يصيب ربحا أوفر ، غير أن الصبي كان
أكثر طموحا من أبيه فأبدى رغبته في أن يذهب بالمحصول إلي العاصمة الكبرى - إلى القاهرة ؛ وأعجب الوالد بالفكرة ، وشجعهما على قبولها ما أصابه ولدها من مجاح في صفقاته القليلة التى مارسها في القرية . ونامت الأسرة ليلتها تلك والأمل الحلو يداعب خيال كل فرد من أفرادها . وأذن مؤذن الفجر وخرج الأب وابنه إلى مسجد القرية فصليا ودعوا الله مخلصين أن يبارك لهما تجارتهما ، وعادا محملا الجمال بالثمار وشاركهما في ذلك الام والصبية الصغار ؛ فلما انتهوا جميعا من عملهم قبلت الأم فتاها وباركه الأب ودعا له بالنجاح ، وهلل الصبية الصغار له مودعين .
وسار الفتى في طريقه والجمال تتهادى من خلفه وليدة في سيرها ، واستهوته مناظر القرى والمدن التى مر بها ؛ فهذه أول رحلة له خارج قريته فانطلق يغني مسرورا ، وانتهى به السير إلى القاهرة ، وقصد إلى حي الحسين والأزهر كما أوصاه أبوه ، فهو حي عامر بالسكان ، وبضاعته فيه لا شك رائجة
وانتحى الفتى ركنا من أركان السوق ورص بطيخاته أمامه ، وراح يعلن عنها في صوت حلو رخيم وبكلمات مليحة مغرية ، وأقبل مشتر وثان وثالث ، غير أن السعر الذي عرضوه كان أقل مما أمل الفتى ومما أمل أبوه ، فرفض أن يبيع ، وظل على رفضه حتى انتصف النهار أو كاد وظن الفتى أول أمره أن المبتاعين ربما لاحظوا عليه سمات الفلاحين الغرباء فأرادوا أن يستغلوا سذاجته ، فانتقل إلى جاره الذي عن يمينه. وإلى جاره الذي عن يساره وسالهما عن الأسعار ، فإذا هى أسعار قليلة ضئيلة ، فصدمته الحقيقة وزال عنه سروره وانشراحه .
هكذا قضى إبراهيم - وكان هذا اسمه - اليوم الأول في القاهرة ؟ فلما أقبل الليل أخذ يفكر ويعيد التفكير ، ويدير ويعيد التدبير ، وانتهى به الرأي أخيرا إلى أنه لا بد من بيع محصوله ولو كان في البيع خسارة ، لأنه لو لم يبع افسدت عليه ثماره ولكانت الخسارة أفدح .
وباع إبراهيم بطيخاته . وكانت الخسارة فادحة ، فخشى أن يعود إلى قريته فيناله الأذى من أبيه ، وجلس إلى الركن الذي كان عامرا منذ قليل ببطيخاته ، بل بأمله وأمل الأسرة المفقود ، وراح ينظر إلى المارة من أهالي الحي وهو يلعنهم ويلعن بلدهم في نفسه . وجذب انتباههه منظر غريب طريف ولقد نظر فرأى شخصا ذا لحية طويلة بيضاء بيده كتاب ويده الآخر سبحة يرسل حباتها الواحدة بعد الآخرى ، وعن يمين الشيخ وعن شماله ومن ورانه عدد كبير من الفتية المعممين ، والشيخ يسير في تؤدة ووقار ، والفتيان يتبعونه في أدب جم واحترام بالغ ، وتتبع إبراهيم هذا المنظر بناظريه ، واستعاد في الحال صورة شيخ القرية وكتابها ولداته من الصبية الصغار .
وانتهى السير بالشيخ وتلاميذه إلى باب المسجد فدخلوه ، ومال إبراهيم إلى جار له وسأله عمن يكون الشيخ وعما يكون المسجد ، وعلم أن هذا المسجد هو الأزهر ، وأن هذا أحد شيوخه ، فبهرته الصورة ، واستهواه وقار الشيخ الأستاذ وبزة الفتية التلاميذ ، ولمعت الفكرة في خياله لمعان البرق ، وانتفض واقفا واخذ طريقه إلى المسجد ، ودخل مع الداخلين ، وراعه كثرة حلقات الدرس ، فانضم إلى إحداها ، واستمع ثم استمع ، ثم انتقل إلي غيرها وغيرها ؛ ولم يكد ينتهي اليوم حتى كان قد قر عزمه أن يصبح أزهريا يطلب العلم كما يطلبه مئات غيره من المكبين على الكتب حوله ، وسيؤهله هذا إلى أن يكون شيخا للقرية ، يقبل الجميع يدء ، ويسعون إلى رضائه ، أو على الأقل في هذا حل مؤقت لمشكلته ومشكلة تجارته الخاسرة .
وتبع إبراهيم ونال الكثير من تقدير شيوخه وأساتذته ؛ فقد كان بحق موقور الذكاء . ورضى بهذه الحياة الجديدة التي حملت عنه عبء ، التفكير في المأوى والغذاء ؛ فالرواق فيه مأواه والجراية فيها غذاؤه .
ومضت الأيام يتابع بعضها بعضا وإبراهيم مطمئن إلى حياته الجديدة ، منصرف إلى دروسه وكتبه ، إلى ان كان أحد الأيام حين أرسل إليه شيخه يستدعيه ، فهرول مجيبا ، ولكنه لم يكد يقبل عليه حتى وجد في حضرته جماعة من الناس لا يعرفهم ، فيهم من يتزيا بزي أمراء الجيش ، ومنهم من ينزيا بزي الشيوخ ، وتقدم فقبل يد استاذه ، وأقبل عليه الأستاذ مرحبا ، ثم قدمه لهؤلاء الضيوف تقدمة كلها أثناء على كفايته وتفريظ لمواهبه . وفهم إبراهيم من الحديث أن هؤلاء السادة قدموا ليختاروا نخبة من نوابغ الطلاب ليكونوا نواة أولى لمدرسة الطب التي يزمع إنشاءها ولي النعم محمد علي باشا .
وهكذا انتقل به القدر نقلة جديدة من طالب بالأزهر يزمع أن يكون شيخا صاحب كتاب في القرية إلى تلميذ بمدرسة الطب ) الجديدة حيث يدرس علوما جديدة لم يسمع بها من قبل ، من كيمياء وطبيعة وتشريح ودراسة للأمراض والأدواء ، ويستمع فيها إلى أساتذة ليسوا من دينه ولا من جنسه ، فهو لا يعرف لغتهم ، وهم لا يعرفون لغته ، إنهم أساتذة من أوربا وخاصة من فرنسا .
ونبغ إبراهيم النبراوي - نسبة إلى بلده نبروه - في مدرسة الطب ، كما نبغ في الأزهر من قبل ، وقضى سنوات الدراسة جميعا بنجاح وتفوق .
ولما تخرجت الدفعة الأولى من طلاب هذه المدرسة أراد محمد على أن يبعث بالنابغين إلى فرنسا ليتموا هناك علومهم ، ووكل إلى ناظر المدرسة كلوت بك أمر اختيار المبعوثين ، فكان إبراهيم واحدا منهم .
وسافر إبراهيم النبراوي إلي فرنسا في سنة ١٨٣٢ ، فرأى دنيا غير التي كان يراها في مصر ، الرجال غير الرجال ، والنساء غير النساء والأخلاق والعادات والمدن والقرى والمدارس وطرق التعليم والتفكير به . الخ كل أولئك مختلف في باريس عنه في القاهرة وعنه في قريته المتواضعة
" نبروه " .
وكان إبراهيم في عنفوان شبابه ، فخفق قلبه في بارس كما يخفق قلوب الشبان ، وأحب باريسية وتزوج منها ، ولم يلهه هذا عن واجبه ، بل أقبل على دروسه إقبال النهم ،
وحصل على إجازته بنجاح وعاد إلي مصر في سنة ١٨٣٦ تصحبه زوجه الباريسية .
وعين إبراهيم النبراوي بعد عودته مدرسا بمدرسة الطب المصرية ؛ فقد كان محمد على يهدف من وراء هذه البعثات إلى إحلال المصريين محل الأجانب .
ونجح إبراهيم طبيبا ومدرسا كما نجح تلميذا . وأظهر مهارة فائقة في فنه . فقصد ، المرضي من كل فج ، وأقبلت الدنيا عليه إقبالا .
ولم يشغل إبراهيم النبراوي بهذا كله عن المشاركة في النشاط العلمي لمدرسته ؟ فترجم ثلاث رسائل طبية لأستاذه كلوت بك عن الفرنسية إلى العربية ، وطبعت هذه الرسائل في بولاق سنة ١٢٥٣ ه ، ثم ترجم كتابا فرنسيا آخر عنوانه " الأربطة الجراحية " طبع في بولاق أيضا سنة ١٢٥٤ .
وذاع صيت النبراوي وبلغت أخباره الوالي المصلح محمد على ، فاختاره طيبا خاصا له ، وقربه إليه وأغدق عليه النعم ، وظل طبيبه الخاص إلى آخر حياته ؛ وعندما مرض محمد على مرضه الأخير وسافر إلى أوربا للاستشفاء صحبه النبراوي في رحلته طبيبا معالجا
يقول على مبارك باشا في ترجمته له : " ولنجابته وحسن درابته في فنه اختاره العزيز محمد على باشا حكيميائي لنفسه . وقربه وتخصص به ، وبلغ رتبة أميرالاي ، وكثرت عليه ) غداقات العزيز ، وانتشر ذكره ، وطلبته ) الفاميليات ( والأمراء
وظل ) إبراهيم النبراوي وفيا لزوجه الفرنسية مخلصا لها لم يتزوج غيرها إلى ان ادركتها الوفاة في مصر ، فانعمت عليه والدة عباس باشا الأول بفتاة بدوية فتزوج منها .
وفي غضون تلك السنين استقال كلوت بك من نظارة مدرسة الطب ، خلفه طبيب فرنسي آخر هو الدكتور " برون " وفي سنة ١٨٤٦ استقال برون أيضا ، فعين الدكتور إبراهيم النبراوي باشا وكيلا لهذه المدرسة فكان أول مصري على هذا المنصب .
وظل النبراوي باشا يتمتع بمكانته المتازة لدى الأسرة العلوية الكريمة حتى بعد وفاة العاهل العظيم محمد على الكبير ، فقد اختاره عباس باشا الأول طبيبا خاصا له بعد توليه
العرش ، ونال لديه ولدى والدته الحظوة الكبرى ؛ فلما سافرت لأداء فريضة الحج اصطحبته معها ليشرف على صحتها وعلى صحة من معها من الحجيج .
وقد نبغ من أولاده ولدان رزقهما من زوجته الفرنسية ، احدهما يوسف باشا النبراوي ، تلقي علومه الاولى في مصر ، ثم أرسل في بعثة إلى فرنسا سنة ١٨٥٥ في عهد سعيد باشا للتخصص في الفنون والعلوم الحربية ، وعاد إلى مصر في سنة ١٨٦١ فعين ضابطا بالجيش المصري ، غير أنه لم يمكث به إلا قليلا ، ثم عاد إلى فرنسا فأقام بها طويلا ، وزوج هناك من سيدة فرنسية ، وكانت له جهود حميدة في إقناع أولى الأمر من الفرنسيين للموافقة على إنشاء المحاكم المختلطة ، ثم استدعى إلى مصر بعد إنشاء هذه المحاكم وعين رئيسا لواحدة منها .
والثاني خليل النبراوي ، تلقى علومه الاولى بمصر ، ثم التحق بمدرسة الطب المصرية ، وبعد إتمام الدراسات بها أرسل في بعثة طيبة إلى النمسا وفرنسا ، وعاد إلى مصر في عهد إسماعيل وعين طبيبا بالمصلحة الطبية . ومن نسل هذا الرجل العظيم أيضا الأنسة الأدبية الصحفية سيزا نبراوي سكرتيرة الاتحاد النسائي .
هذه قصة فتى من قلب الريف المصري تنقل به القدر السبب من بائع بطيخ فاشل إلى طالب في الأزهر ، وانتقلت به عناية منشئ مصر الحديثة إلى مدرسة الطب ، ثم إلى فرنسا حتى أصبح طبيبيا ومدرسا ووكيلا لمدرسة الطب وطبيبا خاصا لوالى مصر ، وارتقى به نبوغه إلى أن حصل على اكبر لقب في وطنه وهو لقب " الباشوية " وكم فى عصر محمد على من صور مشابهة فهذه ؛ فقد كان محمد على حقا وليا للعم وخالفا للرجال .
وقارئ هذه الصورة لا بد سائل نفسه بعد ذلك كم في قلب الريف المصري حتى اليوم من نبوغ دفين محتاج إلى يد رحيمة كيد محمد على للكشف عنه وتوجيهه للعمل لخير مصر ؟ .
