الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 685الرجوع إلى "الثقافة"

الدكتور زكى مبارك

Share

إذا كان نتاج طه حسين غديرا هادئا جميلا حينا وعيدا نجاجا حينا آخر ، وإذا كانت كتابات أحمد أمين نغما رزينا مفلسفا ناطفا بالحق والخير والجمال . وإذا كان أدب الزبات لوحة فنية للشروق يتبدى فيها الطبع والصنعة بقوة وتماسك ونظام ، فإن روائع الدكتور زكى مبارك - رحمه الله أشبه بالعواصف الثائرة . . غير أنها تهدم لتبنى ، وتقتلع لتنبت شجرا مثمرا طيبا .

وليست الترجمة للفقيد هى رجائى فى هذا المجال . فإنى لا أعدو الصواب إذا قررت أن الدكتور زكى مبارك هو العلم الوحيد فى العربية على الإطلاق الذى لا يحوج المشتغل بالأدب فى الترجمة له إلى شىء من عناء . فقد سجل فى كتاباته كل كبيرة وصغيرة عن ذاته وكفاحه وصوائحه . وإنما هى ذكريات وأصداء يمليها الواجب على قلمى ، ويهز الوفاء ، بها نفسى فأرسلها هدية متواضعة إلى الحقيقة والتاريخ . .

كنت فى مطلع حياتى أهيم بالقراءة والتأمل فيما أقع عليه من منظوم ومنثور ، وكان لى فى ذلك الحين نتاج لا أعيره التفاتا ولا اهتم بالاحتفاظ به أقل اهتمام ، وإنما كنت أسجل خواطرى فى قصاصات لا تلبث أن تتمزق أو نضيع ، وسمعنى يوما شاعر فاضل من المبرزين على المبرين الخالدين الرسالة والثقافة . . سمعنى أنشد شعرى . . ومنذ ذلك اليوم عشت فى عالم الأدب والأدباء محوطا بعناية ذلك الشاعر ، وأصبحت أصون كل ما أكتب من شعر ونثر كما يصون الأباء أكبادهم التى تمشى على الأرض ! وفي مكتبته القيمة فهمت الأستاذية الخالصة والتلمذة الوفية ، وفى مكتبته عرفت أيضا مجلة الرسالة وقرأت للمرة الأولى . . أدب زكى مبارك .

ثم ماذا ؟ ثم بدأت قصتى مع زكى مبارك .

لقد اكببت على كتبه ورسائله ومقالاته وفصوله إكبابا يصعب وصفه ، وحينما أرنو إلى الماضى أكاد ألمح أمى تبكى وهي تلح على إلحاحا أن أطفئ مصباحى لأستريح من السهر والنظر فى ذلك " الورق الذى ليس وراءه كسب " فإذا

كان الشاعر الفاضل استادى الأول . فإن الدكتور زكى مبارك أستاذى الثانى بلا مراء .

كاتبت العقيد كثيرا قبل أن أتشرف بلقائه . وكانت ردوده النافعة هى المنار الذى لا أجحده ولا أنساه ما حبيت لقد هدانى دائما إلى كريم الغابات ونبيل الأهداف ، وكنت أشكو إلى العقيد إهمال بعض رؤساء التحرير لكل ناشئ مهما كان فى أدبه من سمو ، واحتفاءهم بكل مشهور مهما كان فى أدبه من إسفاف ، فكان يشاطرنى الرأى فيهم ، ويفرظ شعرى ويحتفظ به وينشر بعضه كما ينشر ردوده الفياضة على رسائلى فى جريدة البلاغ القراء وغيرها ، وكان يرشدنى ويطمئنى قائلا : إن الشهرة ليست كل شئ ، وإن الشهرة الصحيحة ليست بعيدة السبيل ولا محفوفة بالأزاهير ، ولكن دونها الصخور والأهوال . وكثير من الناس باعوا انفسهم ليشتهروا ، فلا تبع نفسك لتشتهر ، وأرهف السمع للقائل :

ليس الخمول بعار        على امرئ ذى جلال

قليلة القدر تخفى      وتلك خير الليالى

ولما لقيت الدكتور تبينت صدق رأى يوفوت "وإن الأسلوب هو الرجل نفسه " ولعل الدكتور من أول من يصح فيهم هذا الرأى .

والحق أن الدكتور من القوى التى لا يستهان بها فى الفكر الحديث ، وإذا ذكر الأدب والفلسفة والتاريخ الفرنسية والسياسة والصحافة والعروبة والأزهر والكفاح الشعبى والتعليم ، فإن زكى مبارك يجب أن يذكر فى احترام عميق . فله فى ذلك كله جهود غير ضئيلة . أجل . إن الدكتور أدى رسالة عظيمة ، وأداها فى صبر وجرأة وصراحة وإيمان يندر فى هذا الزمان ، وحسبه خلودا - كما كان يردد فى غفخر - أنه فلاح بهر القاهرة وبغداد وباريس بروعة النبوغ المصرى .

ومما هو ثمين بالذكر انه على الرغم من أن الدكتور كان عدوا لدودا للمرأة ، فقد كان له في الحب فنون وفنون . وأحاديث ذات شحون . سواء ذلك فى الصبا والشباب

( البقية على الصفحة التالية )

والكهولة ، وديوانه الأول مهدى إلى حسناء ترقد فى قبر مجهول تحت سماء سنتريس ، وكان يستمهل الربيع الناضر قبل أن يأتى الخريف بالجدب والإمحال . قال :

لنجواك استبقى شبابي فعاطنى

                  كئوس الهوى قبل ايضاض المفارق

وبعد ، فهذه لمحة خاطفة عن فقيد الأدب العربى الدكتور زكى مبارك ، العبقرى الذى كرس عمره وطاقته وأعصابه جميعا لخدمة الفكر والبيان والتعليم ، مجدرا ثائرا غيورا ، ومع ذلك عاش مهضوم الحق . ولكم عبر عما كاده من جحود مرير ، ومن ذلك قوله :

أساهر فى ليلى كتابى ولا أرى

                  لنفسى حظ الساهرين على النرد !

فماذا  وهي الدنيا وماذا أصابها ؟

           أسقت فأمست وهى فى خمسة الفرد

ولاشك أن المعنيين بالآداب فى مصر سيعملون على تخليد ذكراه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وأنسب ما أختم به هذه النظرة السريعة أبيات من الشعر للدكتور مختار الوكيل قالها فى رثاء الفقيد :

مات زكى الفنى الأديب              والناقد الكاتب الأريب

شاكى سلاح البيان ولى             فمن ترى ترهب الحروب ؟

ودوحة الشعر طار عنها            فى هدأة الليل عندليب

غنى القواق فنى معنى              جارت على فنه الخطوب

أذاب فى شعره شجاه              فرددت لحنه القلوب

اشترك في نشرتنا البريدية