الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

الدكتور محمد سامي الدهان، فى المغرب الأقصى

Share

وقفت حيال ناطحات السحاب ، وشلالات نياغرا ، والجبال السحرية لكران كانيول ، ومغاني هوليود ، وشطآن الهادى ، ووقفت امام قاعات الكرملين وساحات لننغراد ، وعظمة الفولغا ، وامجاد ستاليغراد ، وآثار سمر قند وطاشقند وطوفت مرارا فى العواصم الغربية والشرقية سعيا وراء المخطوطات العربية وبحثا عن تواريخنا القديمة ، فرحا مغتبطا باصطياد الكنوز الثمينة ، قرير العين بما ارى ، ولكن هاتفا كان يهزنى هزا عنيفا كلما استسلمت للتفكير العميق ، فتردد شفتاى على غير ارادة مني أبياتا قالها المتنبي ، وهو يطوف في ارض فارس بشعب بنوان:

مغاني الشعب طيبا في المغاني      بمنزلة الربيع من الزمان

ولكن الفتى العربى فيها       غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها        سليمان لسار بترجمان

أجل ، انه شعور غريب كان يصحبني في هذه الولايات والممالك ، بمشرق أوربة او غربى الاطلنطى ، فى العالم القديم او العالم الجديد على كثرة الاعجاب والفتنة والسحر التى كانت تغمر نفسى . . فقد رأيت كيف اتحدث شعوب مختلفة وأعراق متباينة ، والسنة متنافرة ، واقوام فى تواريخ شتى متباعدة فكونت مع ذلك اقليما واحدا ، وامة متحدة ؟ حتى لكأن الجن قد عبثت بأيديها فقلبت الصحارى الى جنائن ، والجبال الجرداء الى مساكن والانهار المتباعدة الى اتصال فخرقت تحت الارض ، ووصلت بين السماء والسماء وركزت في كل مكان عبقرية جنية عجيبة .

ولكن هذا الربوع على فتنتها وسحرها ومن فيها من إنس وجن ليست في شعور العربى الا لوحات تظهر ثم تختفى ، وتقبل ثم تنطوى فهى كالاحلام والآمال ، بل انها كسراب بقيعة يحسبه الضمان ماء ، لانه لا يملك منها أمرا ولا

بشركها فى ذكرى ، وليس له منها الا هذا الجمال العارض ، والفتنة العابرة ، ثم يزول كل شئ ، فلا تاريخ ولا وشائج ولا انساب ولا امانى عميقة ولا ذكريات مشتركة .

فلما بلغت المغرب العربي رأيت الفتنة والسحر كذلك ، ولكننى عجبت للشعور الجديد ، وتساءلت أنى للربوع ان تتحدث ، وللجبال ان تتنفس ، وللشجر ان يلتف ويحنو ، لكأن هذه المرابع روح من روحى ونفس من نفسى وضلوع فى صدرى ، يخفق القلب للتاريخ ويتحرك الجنان بالذكرى ، وتطوف بى صور الماضى . لذلك تمسكت بكل جدار ، وانتسبت الى كل اثر ، وعادت روحي الى ، وغبت عن دنيا الجمال الى دنيا المفاخر والمآثر.

ذلك لان قومي مروا هنا منذ احقاب ، فصنعوا التاريخ ، وسكبوا على جدران الاسوار قطرات من دمائهم الزكية ، وتركوا فى خزائن الأثار مداد قلوبهم ونفحات عقولهم ، وعطروا الوديان بأنفاس الشعراء والادباء والكتاب واثاروا الرمل والترات بحوافر خيولهم ، وخطوا فى الارض سطورا من النضال والقتال وكتبوا فى هذه الدنيا الجديدة البعيدة ، اسفارا لا تقل عن اسفارهم القديمة العتيدة . قام خالد للشام فى المشرق فنهض طارق لطنجة فى المغرب ، ووقف ابو عبيدة بن الجراح للفتح فى ربوع سورية ، كما وقف عقبة بن نافع للفتح في ربوع المغرب ، فدوى نداء ونداء واستجاب المشرق واستجاب المغرب لهذه الامة وتغنت البطاح بأهازيج النصر فى كل مكان ، وتساقطت الاعلام امام هذه الجيوش الفتية ، تزرع الخير والامان ، وتبذر العلم والايمان . وتنشئ في كل بلد وصقع من مشيد البناء والعمران ، والاسوار والقلاع ، والمدارس والمستشفيات ما يملا الصفحات و يشغل الباحثين قرونا وقرونا .

وهذه الوجوه التي أرى فى المدن المغربية وجوه قومى وابناء أمتى قد لوحتها الشمس ، ونضرها الريح ، والتفت بثياب عربية بيضاء ناصعة في قامات طويلة فارعة ، وعبون سوداء تلمح فيها سطور الماضى وتقرأ فيها عبر الاجداد ، ولهجة مغربية عجيبة تقف حيالها حيران اول الامر فاذا ادركت نغمتها ، وما اتصل من حروف وما تقطع ، وما تمد من الفاظ وما تجمع ، رايت العربى القديم يتحدث في ثياب هؤلاء القوم ، واحسست بالوجوه الكريمة تتضاحك مستبشرة للقائك وشعرت انك فى قومك ، وليس لك الا ان تسير فى الارض فتنظر كيف عمر الاجداد هذه الربوع ، وكيف قامت دولنا خلال القرون ، وتبحث عن التاريخ لتحدث قومك عما قرأت ، وعما سمعت ، وعما رأيت . وما اظن الا ان قومى يهشون لهذا الحديث ، ويهرعون الى ابناء هذه

الامة الكبيرة التى شاركت فى امجادهم وتاريخهم ، يحبون ان يعرفوا كيف حال الحال ، وكيف وقع الاستقلال ، وما كان قبل ذلك من انحلال واحتلال . فالمغرب العربى جناحنا الايسر وعدتنا في الملمات اذا تأزمت الملمات . ولا ينهض طائرنا العربى الا بجناحيه جميعا ، ولن يعود هذا الطائر خفاقا فى السماء مدويا فى الدنيا الا اذا تعاضد الجناحان ، وقامت الولايات المتحدة العربية من جديد على نمط عربى موروث ، فى وحدة اللغة وشركة التاريخ ، وعود الامجاد والمفاخر . وما الرحلة الى المغرب اليوم بالامر العسير ، فقد أخذ اخواننا المغاربة بامر التمثيل الخارجي ، يمنحون الاذن فى يسر ورعاية وحفاوة وحدب ، فكأنك تتنقل من قومك الى قومك .

ليس من الخير ان نعرف انهار امريكا ، وحروب المانية ، وعشيقات الملوك فى فرنسة ، واخبار الوحدة الايطالية ، قبل ان نعرف من امر امتنا ما يجب ان نعرف فقد كان التعليم لزماننا خلال الانتداب ، يقيم وزنا لكل هذه الاخبار اليسيرة ولا يعرفنا بأقاليمنا ، فادا جاءنا كتاب القاضى عياض ، او الروض الانف للسهيلى . او القانون للجزولى ، والمعجب للمراكشى ، ونزهة المشتاق للادريسى . تساءلنا آين تقع سبته ، واين تكون مراكش ، وما هى جامعة القرويين ، وما شان رباط الفتح ، وما امر الادارسة والسعديين والمرينيين والعلويين ، ثم ما البربر والعرب ؟ ونظر بعضنا الى بعض فسارع المتفيهقون الى الكتب الاعجمية ، فاذا هى تلقننا الدسائس فى الاخبار والمعلومات . ونحن على ذلك اصحاب الارض ووارثو التاريخ ، لا نعرف عن التاريخ والارض ما ينقع الغلة او يشفى العلة ، كما كان القدماء يقولون .

وانما سكنت قلوبنا صورة عن هذا المغرب لا تقع من الكرم والنبل فى شئ ، فنحن نحسب انه صحارى واسعة ، تسكنها خيام كثيرة ، وقبائل عديدة ، ونظن ان البربر لا يفهمون العربية ، وان العرب والبربر اقتسموا الارض ونزلوا منها منزل الجاهلية الاولى فى السلب والنهب ، فعاشوا على اللبن والتمر فلا حضارة ولا جوامع ولا ثقافة ولا مؤلفات .

هذه الصورة للمغرب الاقصى ورثناها عن كتب الانتداب ، فقد اراد المستعمرون ان يعلموا القاصى والدانى هذه المعلومات المشوهة ليقولوا ان المغرب فى حاجة الى وصاية ورعاية ، وهو ما يزال على وحشية مريعة وزادنا ايمانا بهذه المعلومات ما تثر الغربيون من بطاقات وصور عن المغرب كما نثروا عنا من قبل

منذ نصف قرن ، وهى وحدها سارت فى العالم تعلمه عن امرنا وحياتنا . لذلك يعجب الغريبون حين يقعون على سورى فى ثياب نظيفة ، وطلعة شريفة ، ولغة طلقة ، ومعلومات تقف لمعلوماتهم يعجبون ويظنون ان افرادا قلائل قد بلغوا مبلغ هذا السورى . واما الشعب فى جملته فهو كما تصوره البطاقات والصور . لهذا تتحدث البرقيات عنا كما تتحدث عن اكلة لحوم البشر ، وباعة الجوارى ، وتجار الزوجات ، نفرح للآلات الغربية ونذهل خشعا لها . ولذلك قلوا ان عندنا فراغا يملؤونه بوجودهم الكريم وعقلهم العظيم وتفكيرهم السليم . فدبروا امورنا وقلقوا لمصيرنا ، ورسموا مستقبلنا ، لان الله ارادهم بنا آباء يخافون علينا الريح والحرير ، فهم انسانيون أبدا ، يكرهون الاستعمار والقتل والنهب . وتاريخهم منذ استيقظوا مملوء بالخير ، فلم يقتل بعضهم بعضا ولم يهجموا على الشرق. وهم مخلصون للتعاليم السماوية ، بل كالملائكة في سلامة طويتهم .

نسى الامريكيون امر الزنوج وهم يفكرون بالفراغ عندنا ويقلقون لتمديننا . ففى قلب نيويورك وجنوبى الولايات المتحدة يخلع الشباب من الزنوج قمصانهم فى الطريق ويقفون على خطوط طويلة ينتظرون ان تجف وتكوى لعلهم يلبسونها ، فهم لا يملكون غيرها . وحين يركب الاميركى سيارة النقل في الصفوف الامامية يرمى بالزنجى الى الخلف ، فاذا امتلآت المقاعد بالاميركيين وغصت الامكنة نزل الزنوج عن اماكنهم للبيض . وفى مدينة ( نيو أورليانز ) محطة يدخل اليها الامريكيون من باب والزنوج من اخر ، لئلا ترتطم يد الشريف الابيض بيد العبد الاسود .

اما العرب المتخلفون فهم حين بلغوا المغرب فاتحين تآخوا مع البربر ، وتجاوروا فى السكن والعيش واللسان منذ سنة ٦٢ للهجرة فقام عقبة بن نافع وهو صحابى جليل يعتمد على قبائل البربر فى الفتوح . ونهض طارق بن زياد وهو من البربر لقيادة الفتح العربى فى بلاد آلاندلس ، يعضده العرب والبربر جميعا ، فاستوى فى ذلك لونان وعرقان ، وكان منا قائد ومنهم قائد ، ومنا أمير ومنهم امير ، وتآلف الشعبان وذابا فى بوتقة هذه الحضارة العظيمة ، وغردا جميعا فى عربية فخيمة . ووقف طارق بن زياد لبلاغة زياد بن أبيه وبلاغة الحجاج حتى اختلط الامر على النقاد ، واصبح هذا البربرى من أئمة البيان العربى .

هذه هي البلاد التى اريد ان أبسط معجزتها ، فأروى لكم قصة حياتها ، منذ دخلها العرب ، حتى وقع الاحتلال ، وهي قصة ثلاثة عشر قرنا نطويها معا في سرعة وايجاز .

(يتبع)

اشترك في نشرتنا البريدية