الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 110الرجوع إلى "الثقافة"

الديكتاتورية وعقلية الجماعات

Share

كان لماسماه بعض الناس فشل الدمقراطية وإفلاسها وتغلب حكومات الطغيان على دول أوربية ، وقع أليم وتأثير بالغ فى نفوس عامة المفكرين ، وقد هالهم ذلك وأثار ظنونهم ومخاوفهم وشغل بالهم ، وعدوه نكسة أصابت الأمم وأضلت العقول، وأخذوا يرودون مكمن الداء ويستقصون أسبابه . وقد خدع الكثيرون بزخرف  الدعاية الديكتاتورية ، وغرتهم أباطيلها وفتنتهم عن  عقيدتهم الدمقراطية ، وأوهمتهم أن الديكتاتورية أسلوب جديد مبتكر فى الحكم ورباضة الأمور ، وفلسفة حديثة من فلسفات السياسة ملائمة لمطالب العصر الحاضر ومستلزمات المدنية الحديثة ، وانها تختط فى الحياة سبلا غير مطروقة ، وتسن سننا صالحة تقوم الأخلاق ، وترم

بناء المجتمع ، وتقود الناس إلى أرض الميعاد ، وأنها توقظ قوى الأمم الخامدة ، وتبرز مذخور فضائلها ، وتنشر مطوى محاسنها ، وأنها الوسيلة الفذة لعلاج ما يبهظ الأمم فى العصور الحديثة من أعباء وما يستقبلها من مشكلات ، وأنها تنشىء الجيل الجديد نشأة حسنة ، وتربيه تربية نظامية حربية ؛ وقد ألقى دعائها فى روع بعض من غم عليهم أمر الديكتاتورية أن الديكتاتوريين مبعوثو قدر ومندوبو عناية ، وأنهم يعرفون من موارد الأمور ومصادرها ما يند علمه على غيرهم ، ولا يطيقه سواهم ، وخلقوا منهم أسطورة جديدة لها سحرها الخلاب ، وتأثيرها الخادع .

ولكن برغم مهارة الدعاية الديكتاتورية ظل كبار

المفكرين على سوء رأيهم فى هذا الأسلوب الرجعى العتيق من أساليب الحكم ، وإن بدا فى ثوب قشيب ليموه حقيقته ويستر عيوبه ، وأشد ما يفض إليهم النظام الديكتاتورى عمل الديكتاتورية على خنق حرية التفكير ، وتكبيل الخيال ، وإرهاق النفوس ، وإفساد الجماعات الانسانية واستعبادها ، ليفتات الديكتاتور برأيه ، ويستشرف إلى صفات الألوهة ، ويمكن لصحابته وحوارييه ، ويثير فى نفوس الجماعات هوج العواطف وبواعث الإجرام ؛ ومن أمثلة ذلك تحريك نزعة كراهة الساميين فى ألمانيا ومعسكرات الاعتقال ، وتدبير الجرائم والاغتيالات ، وحوك الأشراك والدسائس ، للفتك بمخالفيهم فى الرأى . والديكتاتورية تلقن الشعب أن العدالة والحرية والرحمة اشياء مزهود فيها ولا لزوم لها ، وتجعل الإنسان لا يصدر عن رأيه ، ولا يعتمد على تفكيره  الخاص ، وبذلك يصبح الانسان حيوانا اجتماعيا مهدر الكرامة مضيع الحق .

ومما يسترعى النظر أن أكثر المفكرين الذين كتبوا عن الديكتاتورية ، ونعوا عليها عيوبها ، وأوضحوا مساوئها وسوء آثارها ، لم يشيروا بوجه خاص إلى ما يبذله الديكتاتوريون من جهد لخلق ما يسمى " عقلية الجماعات " أو " تفكير الجمهور " ؛ وبيان ذلك أن كل نظام صارم سواء كان سياسيا أم دينيا أم اجتماعيا يفرض على الناس فرضا، ويأخذون به  أخذا ينزل العقل من عليائه . ويستنبع ذلك خضوع الفرد خضوعا تاما مزريا ، وتخاذل تفكيره ورقدة ضميره وانحلال شخصيته ؛ وإذا طال الحال على ذلك أصبح الميل إلى التفكير رذيلة من الرذائل ونقيصة يحاسب عليها الفرد ، وتنزل به من أجلها العقوبة الرادعة ، ويسوء تفكير الجماعات التى استطارتها العاطفة وأفسد عقولها التعصب والضيق ، وهذا اللون من تفكير الجماعات من أخطر مظاهر الديكتاتورية وأبعثها على النفور والتفزز . وجميع المربين الأحرار يسلمون بأن أول غاية يجب أن يتجه

إليها التعليم هى تشجيع استقلال التفكير وحرية الرأى وإنماء القدرة على تكوين الأفكار الصحيحة والآراء الصائبة البعيدة عن مؤثرات الدعاية وبواعث الإغراء ؛ وهذا نقيض المتبع فى الدول الديكتاتورية ، لأن الطفل معتبر هناك عجينة تشكل بحسب ما يتراءى لولاة الأمور ، وهو ينشأ على المثال المطلوب ليكون شخصا صناعيا وآلة طيعة تلبى الأوامر وتخضع لإرادة الغير ، وتدين بعبادة الأصنام الحديثة ، ويمكن بذلك أن يحشر فى زمرة العبيد ، ويشغل موقفه من القطيع ، وتعمل الدعاية من ناحية وفرط الخضوع للأوامر من ناحية أخرى على سحق كل امتياز فردى والقضاء على كل نزعة للثورة على هذه القيود الضرورية والأصفاد الموهنة ، وتقضى على الملكات الفنية ، وتعرقل الذكاء وإنماء الشخصية ؛ ويمقت هذا الأسلوب علماء الاجتماع والتربية ، وينفرد بترجيحه وتمجيده المفكرون المنكوبون بالخضوع للديكتاتورية والذين يشك فى إخلاصهم لآرائهم وتحريهم الحق فيما يقررون . وقد جربت الأمم التربية القائمة على هذا النمط العسكرى فوجدتها تشجع على خلق تفكير الجماعات ، وتؤدى إلى عبودية العقل ، وانحطاط التفكير ، وفقدان القدرة على الابتكار ، وشدة الاحساس بالحزبية والخضوع التام للتقاليد والصبغ ، والاستمساك بالأوامر والنواهى الخالية من المعنى ، وهى فى الدين تؤدى إلى التعلق بالقشور ، وعبادة الشعائر والخضوع التام للمذهبية والتعصب وتؤدى فى السياسة إلى تطليق التفكير والإبتعاد عن مواجهة المشكلات ، والأكتفاء بالانقياد لأوامر الحاكمين .        ولا نزاع فى أن الجماعات المختلفة المقاصد ، والأحزاب المتباينة الآراء ، والطوائف المتعددة ، لها مكانها فى التفكير الاجتماعى ؛ ولكنها عندما تزعم لنفسها حق احتكار الآراء وفرض المذاهب ، وتلجأ إلى الضغط على الحريات فى سبيل ذلك ، يبطل نفعها ويعظم ضررها ؛ وبدلا من أن تكون عوامل لحفز الهمم وخلق الأفكار ، وبيان وجوه الآراء المختلفة ، وطريقا للاهتداء إلى الحق والنافع ، تعمل

للأغراض الصغيرة والمآرب الوضيعة والاستغلال الدميم ؛ ويستلزم ذلك ظهور محطمى الأصنام والثائرين على الأوثان ؛ ومثل ذلك واضح فى التربية ، فإن الأب الذى ينشىء ابنه على أن يعتمد عليه فى كل شىء ، ويرجع إليه فى كل كبيرة وصغيرة ، يقضى على ابنه بأن يظل طفلا عاجزا حتى عندما يبلغ سن الرجولة ، ويستوفى أطوارها ، ويبقى طول عمره خاضعا لإرادة غيره ! فهل يقال إن مثل هذا الأب قد نجح فى تربية ابنه ؟ إذا كان النجاح هو الطاعة العمياء والخضوع المطلق ، وفقدان الشخصية والاستقلال والقدرة على التفكير ، فلا شك أن هذا الوالد البار بأبنائه قد نجح ذلك النجاح الذى يطلب له الحامدون والذين يعبدون التقاليد المزيد منه ! ولكنه فى رأى العقلاء والمستنيرين قد جنى على ابنه أكبر جناية ، وخان واجب الأبوة الحقة خيانة يستحق من أجلها العقوق والعقوبة . وأول واجبات الآباء هو تعويد أبنائهم الاستقلال والاعتماد على النفس ؛ وكذلك فى النظم السياسية ، فالنظام الذى يعتبر الرجال أطفالا قاصرين تحت الوصاية ، ولا يقيم وزنا لعقولهم وأفكارهم ، بل ولا لآدميتهم وكرامتهم الإنسانية ، ولا يرضى منهم بأقل من الخضوع التام ، والاستسلام الخالص ، وبهدم بناء شخصيتهم ويسلبهم استقلالهم ، لا بد أن يكون نظاما فاسدا ومسرفا فى الفساد مهما افتن دعائه فى الإشادة به ، بمنطقهم المتهالك ، وحججهم المردودة ، وثرثرتهم الوضيعة المرذولة . وليس الناس فى حاجة إلى التبحر فى العلم والكرع من حياض الفلسفة ليهتدوا إلى هذا السر الواضح ، ويعرفوا أن أكبر غاية للتربية والتعليم هى بناء الشخصية وتحرير العقل وتشجيع الاستقلال ؛ وليس معنى ذلك بطبيعة الحال البحث عن العزلة فى جزيرة نائية ليكمل الاستقلال وتتم الحرية ، أو الثورة على كل قيد والخروج على كل شىء ، ورفض التأثر بأى عقل من العقول ؛ فقد اعترف أكثر أئمة المفكرين وأعيان الفلاسفة بتأثرهم بآراء غيرهم وسيرهم فى السبيل

التى عبدها من سبقوهم ؛ ولكنهم كانوا يقبلون من الآراء ما يلائم تفكيرهم الخاص وما يعينهم على حل مشكلاتهم وجلاء غوامض نفوسهم ، ويربأون بأنفسهم عن الاستسلام الهين للآراء والانقياد الأعمى للدعايات ، ولا يخضعون لرأى مهما كانت مكانة قائله إلا بعد وزنه بميزانهم ، وعرضه على بصيرتهم لرفضه أو قبوله ؛ وبذلك يستطيع المفكر أن يتقدم بالفكر الإنسانى خطوات إلى الإمام ، ويؤدى ما عليه من الديون للمتقدمين والقدماء ، وينهض بواجباته نحو الفكر الانسانى ؛ وقد يرى بعض السطحيين فى ذلك ضربا من الأثرة والترفع عن الفناء فى غمار الجماعات وامتناعا عن مشاركة الأكثرية تفكيرها ووجهات نظرها ؛ ولكنها أثرة لازمة لحياة المفكرين وحرية الأفراد ؛ ولا يستطيع الإنسان أن يعطى الجزيل وينهض بالاعباء إلا إذا وجد نفسه فى بادىء الأمر ، وتقررت شخصيته ، وتعين اتجاهه ؛ وهذا هو شأن طلاب المعرفة والحق والاستقلال والحرية ؛ فطلب المعرفة والبحث عن الحق من نصيب العقل الباحث الجوال والنفس القلقة المتطلعة العاملة الجاهدة ؛ وصاحب العقل الخاضع والنفس الذليلة لا يتوق إلى الحق ولا يحرص على الاستقلال ، ولا يرغب فى الحرية . وعمل المربين والكتاب والقادة والزعماء والسياسيين هو أن يشجعوا ظهور " العقل المستقل " ويجنبوا بلادهم خطر " عقلية الجماهير " ، وإيجاد العقل المستقل . وإبعاد خطر عقلية الجماهير واجب من ألزم الواجبات ، وعمل من أقدس الأعمال فى هذه الأيام الحالكة التى نشطت فيها الدعايات المختلفة ، وكثر الإرجاف بالأباطيل وزائف الآراء . وخلق عقلية الجماعات فى الأمم الديكتاتورية هو الذى مكن القادة من التغرير بها وتوريطها فى المآزق الضنكة دون أن يستطيع أحد أن يشد طرفه إليهم ويناقشهم الحساب على أخطائهم وجرائمهم ،

اشترك في نشرتنا البريدية