الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 916الرجوع إلى "الرسالة"

الدين والسلوك الإنساني

Share

توطئة:

يواجه الدين في العالم المعاصر موجتين من التحدي: أحداهما الحادية لا ترى في الدين إلا   (تخلصا من الواقع)  ولجوءاً إلى  التحذيرات الروحية التي أبرز ما فيها أنها توجه السلوك الإنساني  توجيها سلبياً إزاء مشاكل الحياة، ومن ثم إزاء عناصر التقدم  والسعادة البشرية15. هذه الموجة هي محور الهجوم الماركسي  على الحياة الدينية.

والموجة الأخرى لا تمت إلى الفلسفة الماركسية إلا بصلة غير  مباشرة ولكنها تماثلها في الابتعاد عن الحقيقية الدينية. أعنى بها  موجة التحلل من القيم الدينيه التي ابتدات في اوروبا الغربيه في القرن الماضي والتي تتزعمها الآن الحضارة الأمريكية وتنقلها إلى  سائر بقاع الأرض مواصلات فكرية أتقن الأمريكيون وسائلها

إتقانا بارعا في الأفلام السينمائية والصور الفوتوغرافية والصحافة  ومؤسسات الإعلان والدعاية والقصص الحديثة، وألف نوع ونوع  من وسائل الاتصال الفكري الذي يهيمن الآن على القسم الأعظم  من صحافة العالم وإنتاجه الأدبي والفني.

ووجه الخطورة في الموجة الثانية أنها في حل من أن تتهم  بالدعوة إلى التفسير المادي للتاريخ على النحو الذي يدعو إليه  الشيوعيون. ولكنها في الواقع تفعل ذلك، وفوقه عنصر من  أخطر العناصر في السلوك الإنساني وهو تركيز النشاط الفكري  والنفساني في حرية الغريزة والعاطفة والأهواء.

ومن أوجه الخطورة كذلك في هذه الموجة التي تتزعمها  الحضارة الأمريكية المعاصرة إحاطتها بهالة من التقدير والإعجاب  بدعوى أنها من الشواهد الأصلية على التقديم الحضري وتوجيه  السلوك الإنساني نحو قسط وافر من السعادة والهناء.

فحرية الغريزة وانطلاق الشهوات والأهواء التي تمخضت عنها  حضارة فرنسا اللاتينية في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن  الحاضر والتي تحمل الآن لواء الدعوة لها الحضارة الأنجلو سكسونية،  هذه الحرية أصبحت الآن جزءا جوهريا من مبادئ التحرر  السياسي والفكري الذي هو بحق؛ أفضل ما في الحضارة الغربية  من تراث.

فالتحرر  (ليبيرالزم)  في ثقافة الغرب المعاصرة عامة والأنجلو سكسونية  منها على وجه الخصوص علم على الإصلاح في مجالات الاقتصاد  والسياسة والصلات الاجتماعية والانطلاق الفكري. وهذا يشمل  الدين والحياة الروحية والنفسية، واتجاهات الثقافية الأنجلو سكسونية  في هذه الآونة تقف التحدي لجوهر العناصر التي تضمن  التكافل الاجتماعي. فالصراع الفكري في أوربا وأمريكا الآن  يكاد ينحصر في توجيه السلوك الإنساني لا على أساس العقل كما  شرحه فلاسفة القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر ولكن  على أساس الغريزة والانطلاق النفساني   (الفيزيولوجي والسيكولوجي)   كما بشر به   (زيجموند فرويد)  وأتباعه من علماء التحليل النفساني  والمدارس الفكرية والأدبية والفنية العديدة التي تأثرت به وتفرعت  عنه، وكما تدعو إليه   (هوليوود)  وكتاب القصة الحديثة وبعض  أئمة الفن في أوربا وأمريكا.

فإذا حق لحضارة الغرب أن تفتخر بأنها خلال القرون الأخيرة  الماضية قد أسدت إلى تراث الفكر وانطلاقه من قيود الجمود  والبلادة العقلية فإن هذه المثل الآن تواجه حملة عاصفة تدفع  بالسلوك الإنساني نحو فلسفة بدائية في جوهرها ومضمونها  تمجد الغريزة النظرية وتناقض العقل وهدوءه وحكمته فتستهوى  بذلك الجماعات التي تعيش على الصحف السيارة ووسائل التسلية  الرخيصة واللهو والمتعة ممثلة الأفلام والقصص الحديثة. هذه  الألوان من الفنون والآداب التي تجد سبيلها إلى صميم العلم  ومعاقله الراقية في كثير من بقاع الأرض منها العالم العربي؛ وذلك  لأن هذه الديكتاتورية الفكرية التي تفرضها الحضارات الأخرى  لا تقتصر على أنصاف المتعلمين، بل إن سلطانها يمتد فيؤثر تأثيراً  فعالاً في الاتجاهات الفكرية والعاطفية لكثير من المثقفين الممتازين  الذين يخلفون حضارات جديدة كما هو الحال في حاضر الثقافة العربية.

وأحب ألا يساء الفهم في هذا الصدد. فالتعاون الفكري  أمر لا مفر منه، بل هو في الواقع من الدعائم الجوهرية لبناء  الحضارات الحديثة أو إحيائها والنهوض بها. ولكن المشكلة  ليست في مبدأ التعاون الفكري ولكنها في تفهم العناصر الجوهرية  في الحضارات التي تفرض نفسها - خيراً أم شرا - على حاضر الثقافة

العربية2. ويخيل إلى أن الذين يوجهون الثقافة العربية الآن لم يفطنوا  بعد فطنة جدية إلى إصلاح الأسلوب الذي اتخذه بناة الثقافة  الجديدة في الباكستان مثلا، والباكستان مثل فريد. فقادة الفكر في الباكستان جماعة استوعبوا استيعاباً غير  قليل العناصر الجوهرية التي تكون حضارات أوروبا وأمريكا  فاستبانوا في نباهة وحكمة عناصر القوة والضعف فيها فتنتج عن  ذلك هذه النهضة الفكرية والأسس الإيديولوجية التي لم يتأثر بها  بعد - مع الأسف الشديد - قادة الفكر في الشرق العربي  فلإيديولوجية في الباكستان ليست   (رجعية)  تعيش في جو  من القرون الوسطى كما يصمها بذلك بعض المغرضين من أعداء الشرق  وبعض أبنائه. وإنما هي أسلوب في الحياة الفكر استوحى التوجيه  من تراث الإسلام ومبادئه ومن روح الشرق ونظمه الاجتماعي  والمتأصل من الاتجاهات العاطفية والتكوين النفسي. فحين  تبين لمحمد إقبال وغير من جهابذة الفكر من القارة الهندية أن الإسلام  كمذهب وكنظام للحياة الدنيوية برئ من هذا الجمود وهذه التفسيرات المغالطة وهذا السلوك الشائن الذي كاد يؤدي بالمسلمين  إلى المذلة والانحطاط ويثقافهم إلى الانحلال والموت - حين  تبين لمسلمي الهند والباكستان ذلك يقفوا عند حد الوعظ والإرشاد والنفخ في أبواق لا نؤثر دعوتها في صميم النظم السياسية  والاقتصادية والاجتماعية والإحياء الفكري والعملي، وإنما استعاروا  من الغرب مناهجه في البحث والتوجيه واقتبسوا عنه أساليب  العمل والإنتاج وصاغوا تعاليم الدين الإسلامي في قالب لا يجيد  عن جوهر العقيدة المحمدية، وإنما يتميز بأنه لا يختلف عن القوالب  التي ولدت حضارات عصور النهضة من إيطاليا وفرنسا والبلاد  الأنجلوسكسونية. وتبين لمسلمي الهند والباكستان كذلك بأن  إنتاج الفكر الأوربي في الحياة الدستورية وفي التنظيم الاقتصادي  وفي التكافل الاجتماعي لا يمكن أن يكون مناقضا للنظم التي شرعها الإسلام، وإنما هو في الواقع متمم له. وجاء ميلاد الدولة  الباكستانية فدمج الفكر بالعمل وحقق الأسس الهجرية

للإيديولوجية الإسلامية الحديثة على نحو أثار إعجاب العارفين به3 وليس من أهداف كاتب هذه السطور أن يستعرض  هنا أسس الإيديولوجية الإسلامية في الباكستان وإنما استشهد بها في  معرض الحديث عن البلبلة التي تعتري الحضارة الإنسانية وأزمتها  إزاء صراع العقل والروح من جهة، والغريزة البدائية من جهة  أخرى، هذا الصراع الذي أوجد تشويشا فكريا واجتماعيا في  كثير من بقاع الأرض منها عالم الغرب.

ولنعد إلى قضية الدين والسلوك الإنساني لنقرر حتما  في المستهل أن هذا الصراع الفكري يشغل الآن أذهان المثقفين  في الغرب وفي أمريكا على وجه الخصوص.

فقد نشأ العالم الجديد أول ما نشأ على مذهب التحرير من  القيود الثقيلة التي فرضت على العقيدة والسلوك الديني في أوربا.  فحملت سفينة   (مايلفور)  في القرن السادس عشر هؤلاء  المضطهدين من القارة الأوربية إلى أرض كولومبوس لتدفع  عنهم شر هذه القيود. فأسس الحضارة الأمريكية إذن أسس  روحية للدين فيها شأن كبير لا تزال عناصره الأصيلة تناضل موجات  الإلحاد والانطلاق الغريزي الذي ولده نشوة النظم الاقتصادية  الحديثةفي أمريكا على النحو الذي شرحه في عمق وبلاغة الكاتب  الألماني الكبير   (ماكس ويجر)4  وكذلك تسرب الأيدلوجية  اليهودية وتركزها في صميم الحضارة الأمريكية وعبثها فيه  فسادا5.

وحري بالذين استخفوا واستهجنوا دفاع رجال الأزهر  الشريف وعلمائه ورجال الدين المسيحيين في نصر عن الفضيلة  والقيم الدينية في حملتهم الأخيرة6 بأن مثل هذا الدفاع هو من  أهم ما يشغل العلماء وقادة الفكر في معاقل الثقافة الغربية التي يتطلع

إليها المستخفون من المثقفين العرب ليستمدوا منها الوحي والإلهام  والذخيرة لمناوأة الإحياء الروحي الذي نشط له رجال الدين في  مصر والشرق العربي.

قلت إن أهل الفكر في أوروبا وأمريكا يشغلون الآن بهذا  النزاع الحاد بين العقل والروح من جهة؛ والانطلاق الغريزي  البدائي من جهة أخرى وعلاقة السلوك الديني بهما.

فبعض أتباع فرويد في إنتاجهم الفني العلمي يرون في السلوك  الديني شاهداً ودليلا على الجهل والخوف والتفكك النفساني، وعلما  على الجمود الفكري والشخصية الضعيفة المنطوية التي لا تستطيع  ولا تود مواجهة الواقع.

ثم هناك ويليام جيمس البروتستانتي وغيره من فلاسفة  الكنيسة الكاثوليكية الذين يقولون بأن السلوك الديني القويم ليس  رمز لهذه العقد النفسية؛ وذلك لأن في الفرد غريزة دينية متأصلة  تشوب سلوكه دون ان يكون عرضه لكل هذه العقد او لبعضها  وأن النفس المطمئنة والشخصية الكاملة الناجحة   (بمعناها  السيكولوجي)  لم يتوفر لها هذه الطمأنينة وهذا الكمال إلا لأنها  لمست مبلغ القوة في غريزتها الدينية فهذبتها بالتروي والتبصر،  وأتهما سليمة مستقرة آمنة لا تزعزعها هذه المشاكل الدنيوية  النفسية التي لا يخلو منها مجتمع ما بدائيا كان أم حضريا. وتقول  مدرسة وبليام جيمس7- ولها اتباع من أئمة علماء النفس  المعاصرين - 8إن الخوف والبلبلة النفسانية ومشكلة السلوك  السيكوباتي ليست إلا وليدة إنكار الفرد على غريزته الدينية حقها  ووظيفتها وتجاهله لأهميتها والدور الذي تلعبه في السلوك الإنساني  ونفوره من إنمائها ورعايتها خالصة مطهرة.

ولنقف هنيهة هنا ولنحاول في أعداد الرسالة القادمة إن شاء  الله أن ندرس مسألة الدين والسلوك الإنساني على أضواء هذا  النزاع لعلنا بذلك نساهم في تفهم هذه المشكلة الاجتماعية التي أخذت  حدتها تتخذ طورا مخيفاً في حاضر الأمة العربية.

اشترك في نشرتنا البريدية