-٢-
قص علينا الشاعر الفرنسى " الفرد ده فينى " حديث المعركة التى نشبت بينه وبين الذئب ، وانتهت بموت الذئب ميتة سكينة وطمأنينة ، بعد أن تظاهر عليه أربعة من الرجال ببنادقهم ومداهم ، يشد ازرهم فى هذه المعركة كلب من الكلاب الضارية ، سقط هو قتيلا ، وأنياب الذئب الحادة فى عنقه قبل أن يسقط الذئب قتيلا برصاص بنادق الصائدين ومداهم
فصور لنا فى هذه الحكاية صورة واضحة تمثل إقدام الذئب وجرأته ، وثبات الأم ورصانتها , تستبقى لتعلم أولادها تحمل الجوع ، وتحيا لتحذرهم من احتمال الخضوع . وتمثل كذلك احتقار الذئب للحياة وزرايته بها ، فقد تركها بعينيه الواسعتين ، وأستودعها بنظرتين قويتين ، أولاهما الى اعدائه ، وثانيتهما الى أعضائه ، ثم اغمضهما ومات ميتة جبار ، بل أستاذ فى الجبروت يحق أن يتتلمذ عليه " فينى " ليلقى عنه هذا الدرس الأخلاقى . فكيف كان أمر شعرائنا مع ذئابهم ؟..
ذئب الفرزدق :
كان كل ما عرضه علينا الفرزدق من حديثه مع ذئبه أنه عشاه وصرفه :
وأطلس عسال وما كان صاحبا دعوت لنارى موهنا فاتانى فلما دنا قلت أدن دونك أننى وأياك فى زادى لمشتركان فبت أقد الزاد بينى وبينه على ضوء نار مرة ودخان فقلت له لما تكشر ضاحكا وقائم سيفى من يدى بمكان تعش فان عاهدتنى لاتخوننى نكن مثل من يا ذئب يصطحبان وانت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما أخيين كانا أرضعا بلبان ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى أتاك بسهم أو شباة سنان
وانا لترعى الوحش آمنة بنا ويرهبنا إن نغضب الثقلان
لا يريد بذلك الا أن يدلنا على ما عنده من كرم وسخاء ، وشجاعة عند اللقاء ، لا يصرفه عن طعامه أقبال الذئب عليه ووقوفه بين يديه ، فهو الذى قد بينه وبينه الزاد ، وأناله منه ما أراد ، مع أنه يعرف ما للذئب من طبيعة الفتك والغدر ، ولكنه يعتمد على ساعد قوى وسيف باتر .
فقصيدته اذن قصيدة بدوية ليس فيها غير التمدح بالكرم والشجاعة ، والجمال الفنى فيها قليل .
ذئب البحترى
أما البحترى فقد قدم لناقصة سينمائية جميلة عن نفسه وذئبه : وأطلس ملء العين يحمل زوره واضلاعه من جانبيه شوى نهد له ذنب مثل الرشاء يجره ومتن كمتن القوس أعوج منأد
طواه الطوى حتى استمر مريره فما فيه ألا الروح والعظم والجلد يقضقض عضلا فى اسرتها الردى كقضقضة المقرور أرعده البرد سما لى وبى من شدة الجوع ما به ببيداء لم تعرف بها عيشة رغد كلانا بها ذئب يحدث نفسه بصاحبه ، والجد يتعسه الجد عوى ، ثم أقعى فارتجزت ، فهجته فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد فأوجرته خرقاء تحسب ريشها على كوكب ينقض والليل مسود فما ازداد الا جرأة وصرامة وأيقنت أن الأمر منه هو الجد فاتبعتها أخرى فاضللت نصلها بحيث يكون اللب والرعب والحقد
فخر وقد أوردته منهل الردى على ظمأ لو أنه عذب الورد وقمت فجمعت الحصى فاشتويته عليه وللرمضاء من تحته وقد
فأرانا ذئبه رؤيا عين ، فى لونه الأطلس ، ومتنه الأعوج المقوس ، وجسمه المنهوك ، وعظامه المقضقضة ، حتى ملأ قلوبنا رهبة منه ، وخوفا على صاحبه ، ثم صور لنا المعركة التى نشبت بينهما حتى كأننا نراها ، وكما أنه أجاد فى تصوير تلك المعركة وابرازها الينا محسوسة مشهودة ، لم يقصر فى تصوير جرأته وجرأة ذئبه ، واستماتة كل منهما فى الذب عن نفسه والغيلة على عدوه ، حتى جعلنا نؤمن . بعظمته وعظمة ذئبه .
كل ذلك فى قوالب متينة محكمة فى وضوح وجلاء ، وفن بديع مونق يملأ البصر والبصيرة ، ولعله قد وفق فى هذا شعرا إلى ما لم يوفق اليه أديب نثرا .
ذئب الرضى :
اما ذئب الشريف الرضى فانه ذئب البحترى نفسه ، وأما الرضى فانه أبو عبادة :
وعارى الشوى والمنكبين من الطوى أتيح له بالليل عارى الاشاجع أغيبر مقطوع من الليل ثوبه انيس باطراف البلاد البلاقع قليل نعاس العين الا غيابة تمر بعينى جاثم القلب جائع اذا فات شىء سمعه دل أنفه وان فات عينيه رأى بالمسامع تظالع حتى حك بالأرض زوره وراغ - وقد روعته - غير ظالع ولما عوى والرمل بينى وبينه تيقن صحبى أنه غير راجع تأدب والظلماء تضرب وجهه الينا باذيال الرياح الزعازع له الويل من مستطعم عاد طعمة لقوم عجال بالقسى النوازع
أخذ ظاهر ، وانتحال بين ، وهو مع ذلك قد أفاض على حديثه من جمال الفن ما كاد ينسينا حديث أبى عبادة ، فلئن فاته حسن تصوير البحترى للمعركة فلم يفته حسن اجمالها وتصويرها فى صورة صغيرة فى بيت واحد : له الويل من مستطعم عاد طعمة لقوم عجال بالقسى النوازع
دل به على جرأة فى مبتداها ، وظفر بالعدو فى منتهاها .
فاذا وضعنا القصة الفرنسية الحديثة بجانب القصة العربية القديمة وجدنا الفرق بينهما جليا واضحا ، فالقصة العربية كل الغرض منها التمدح بالكرم والعطاء ، والأفتخار بالثبات عند اللقاء ، وما هذه الصورة المخيفة التى صور به الذئب الا لينفذ منها الشاعر الى ما يريد من مدح نفسه بالشجاعة
فليس فيها صورة خاصة لموت الذئب وساعة نزعه ؛ بل ان الشريط لينقطع عند خبر موته ، لأنه لا يهم هؤلاء الشعراء الأسترحام عليه ، أو الرثاء له ، فهو عدو غدار نال حتفه بسيف الشاعر البتار وكفى ، فليس بين موت ذئابهم اذن وموت أى حيوان فرق .
وأما القصة الفرنسية فهى على وحدة موضوعها وصورة ذئبها الخالدة التى ما تبرح مخيلة القارئ ، ولا تنفك تعاوده كلما ذكر الذئب ، سامية الغرض جليلة المغزى نبيلة القصد ، فالغرض منها اجتماعى تربيوى ذو شأن ، فهو يريد أن ينبه القارئ الى ما يجب عليه من أجابة دعوة القدر بهدوء وسكون ، وتلبية نداء الموت فى سبيل الواجب برزانة وصمت ، لان الصمت هو العظمة ، والبكاء والأنين وأشباههما جبن ونذالة .
فقصيدة " فينى " إذن مجلية فى الحلية التى أنشأناها ، وهى وحدها تقرب من المثل الأعلى ، لأن العقلية غير العقلية والعصر غير العصر وثقافة " فينى " غير ثقافة هؤلاء الشعراء .
