كان للمتقدمين من العلماء آراء مختلفة فى بناء الأجسام ، ولكن لم يعن أحد منهم بمقارنة رأيه وما يترتب عليه من نتائج ، بالمشاهد من صفات المادة ، فجاءت هذه الآراء اجتهادية لا أساس لها من الواقع . فلما جاءت النهضة العلمية فى القرن السادس عشر ، أخذت العلوم الطبيعية تبنى علي أساس جديد من المشاهدة والتجربة والاستقراء . وفى النصف الأخير من القرن الثامن عشر تقدم بحث الظواهر الكيميائية من الوجهة الكمية تقدما عظيما ، وتراكمت النتائج فى انتظار قانون جامع ينظمها ويظهر ما بينها من الصلات . وجاء ذلك فى السنين الأول من القرن التاسع عشر ؛ إذ تقدم جون دالتون John Dalton (١٨٠٣ - ١٨٠٧ ) بنظريته الذرية ، وهى تنص على أن كل جسم بسيط يتركب من ذرات تامة التشابه وزنها ثابت لا يتغير ، ولكنها تختلف نوعا ووزنا عن ذرات الأجسام البسيطة - العناصر - الأخرى . كما تنص على أن الأجسام المركبة تتكون من اتحاد ذرات العناصر بنسب بسيطة . وأتخذت ذرة الايدروجين وحدة للوزن الذرى ، فجاءت الأوزان الذرية لكثير من العناصر المعروفة حينئذ مضاعفات صحيحة تقريبا لوزن هذه الذرة ، مما دعا بروت Prout ( ١٨١٥ ) إلى القول بأن جميع الذرات مركبة من وحدات متشابهة متساوية هى ذرات من الايدروجين . ولكن بتقدم البحث وجدت أوزان ذرية بعيدة عن الأعداد الصحيحة ، فحاول بروت تفسير ذلك بأن جعل وحدته نصف ذرة الايدروجين ثم ربعها وهكذا ، ولكن لم تجد هذه المحاولات ، واضطر القائلون بهذا الرأى إلى التخلى عنه .
ولكن البحث أدى بعد ذلك إلى اكتشاف صلة وثيقة بين العناصر المختلفة لا تجعل هناك شكا فى أنها ليست مختلفة عن بعضها اختلافا تاما ، بل أن هناك عوامل مشتركة بينها جميعا ؛ فقد وجد مندلييف Mendeleev الروسى ولوثار ماير Lothar Meyer الألمانى ( ١٨٦٩-١٨٧٠ ) أن العناصر إذا رتبت ترتيبا تصاعديا بحسب أوزانها الذرية ، كان كثير من صفاتها الكيميائية والطبيعية الهامة دوريا يتكرر بعد عدد معين من العناصر ؛ فالعنصر الثانى يشبه العاشر والثامن عشر . ويشبه الثالث الحادى عشر والتاسع عشر ، وهكذا ، أى أن الصفات تتكرر كل ثمانية عناصر فى أول الأمر ؛ ويسمى هذا الترتيب للعناصر النظام الدورى أو الجدول الدورى ، وتسمى رتبة العنصر فى هذا الجدول العدد الذرى . ولكن بالرغم مما دل عليه هذا الكشف من الصلة بين العناصر ، فمنذ تقدم دالتون بالنظرية الذرية فى أوائل القرن إلى قرب نهايته كان الاعتقاد السائد هو أن الذرات جسيمات مصمتة خلقت من جواهر مختلفة عددها كعدد العناصر الموجودة ، وأن أصغر الجسيمات فى الكون هى ذرة الايدروجين . استمر هذا الاعتقاد إلى أن اكتشفت الأشعة المعروفة باسم أشعة المهبط ، وهى جسيمات صغيرة جداً مشحونة شحنة كهربائية سالبة تصدر عن القطب السالب عندما يحدث تفريغ كهربى فى أنبوبة فيها غاز مخلخل ، وبين عامى ١٨٩٧ - ١٨٩٩ استطاع سير ج . ج تومسون J. J. Thomson تقدير وزن هذه الجسيمات فوجده دون وزن ذرة الايدروجين ألفى مرة تقريبا ، ووجد كذلك أن هذه الجسيمات تصدر عن المهبط مهما
كانت المادة المصنوع منها ؛ بل إنه يمكن أيضا الحصول عليها من جميع أنواع المادة بطرق أخرى ، مثل التسخين وغيره ؛ كما وجد أنها تتشابه تماما مهما كان مصدرها . لذلك كان أغلب الظن أنها تدخل فى تركيب جميع الذرات ، ووجد أن لا مناص من التخلى عن الرأى القائل بأن الذرات متباينة لا صلة بينها ، وقد سميت تلك الجسيمات الصغيرة الكترونات واتخذت وحدة الكهرباء السالبة .
بعد ذلك أخذ العلماء يبدون آراء متعددة فى تفاصيل بناء الذرة ، وكان أول من وفق إلى رأى مقبول هو رثرفورد Rotherford عام ١٩١١ ، وقد تطور رأيه بعض
التطور فى السنين الأخيرة ، ولكنه لا يزال أساسا صالحا لشرح تركيب الذرة ، ولذلك سيوصف كما وضعه رثرفورد ولكن بتعديل بسيط .
تتركب الذرات حسب هذا الرأى من نواة مركزية ، بها معظم كتلة الذرة ، تدور حولها الكترونات كما تدور الكواكب السيارة حول الشمس ، وإن اختلفت عنها فى أن أفلا كها ليست فى مستوى واحد ، فهى أشبه بطبقات حول النواة يلى بعضها بعضا ، ويشغل كلا منها الكترون أو أكثر . والجزء الأ كبر من جرم الذرة خال تماما من المادة ، فلو أن الذرة كبرت مليون مليون مرة لأصبحت النواة بحجم حبة الحمص وحولها الالكترونات تشغل محيطا قطره ١٠٠ ياردة ، ولكنها لا تملأ هذا الفراغ كما
يملأ الماء الحوض ، بل أنها مبعثرة هنا وهناك ، ومع ذلك لا تتدخل الذرات فى بعضها .
وتتركب النواة من نوعين من الجسيمات . بروتونات . كتلة كل منها تساوى كتلة ذرة الايدروجين ، ومشحونة بشحنة تساوى شحنة الالكترون ، ولكنها موجبة ، وعددها فى ذرة أى عنصر يساوى العدد الذرى لهذا العنصر ، أى ترتيبه فى الجدول الدورى . ونيوترونات وكتلتها أيضا تساوى كتلة الايدروجين ، وهى غير مشحونة بأية شحنة كهربية ، وعددها مضافا إليها البروتونات يساوى الوزن الذرى للعنصر .
وعدد الالكترونات المحيطية فى كل ذرة يساوى عدد البروتوبات فى نواتها ، وهى تتوزع حول النواة بنظام خاص لا تحيد عنه مطلقا ، فأقرب الطبقات إلى النواة لا تحتوى على أكثر من الكترونين ، والطبقة الثانية لا تحتوى على أكثر من ثمانية وكذلك الثالثة . مثل ذلك إذا كان بالذرة الكترون واحد ( الايدروجين ) فانه يختص بطبقة قريبة من النواة ، فإذا كان بها الكترونان (الهليوم) اختصا معا بنفس الطبقة السابقة ، أما إذا زاد عدد الالكتروات عن اثنين ، فان الثالث يبدأ طبقة ثانية تلى الأولى من الخارج ، ويشغل هذه الطبقة كذلك الإلكترونات من الرابع إلى العاشر ؛ فاذا تمت هذه الطبقة الثانية ثمانية الكترونات أخذت طبقة ثالثة فى التكون ، إلى أن تتم
ثمانية الكترونات أيضا ، فتتكون طبقة رابعة ، ولكن بعد ذلك يأخذ التوزيع فى التعقيد مما لا شأن لنا به .
وهذا التوزيع ذو شأن عظيم فى تعيين الخواص الكيميائية والطبيعية للذرة ؛ فكل الذرات تميل إلى أن تكون جميع طبقاتها كاملة الإلكترونات ، وذلك إما بالتخلى إلى ذرة أخرى عن الطبقة الناقصة - وهى لا تكون إلا الخارجة لأن الطبقات الداخلة تكمل إلا فى القليل النادر قبل أن يتكون ما يليها من الخارج - أو بأكمالها من ذرة أخرى ، ولذلك فهى تميل إلى الاتحاد بغيرها من الذرات التى تمهد لها ذلك . مثل ذلك الذرة من الفلور ( غاز فعال شديد التأثير ) بالطبقة الثانية منها سبعة الكترونات ، فهى تتحد دائما بالعناصر التى بها الكترون واحد فى الطبقة الخارجة ، فتكمل هى طبقتها ثمانية الكترونات ، بينما تتخلى الذرة الأخرى عن الألكترون الواحد ، فتبقى كذلك طبقاها الباقية كاملة . ومما سبق ينتظر أن تكون جميع العناصر التى بطبقتها الخارجة سواء أكانت الثالثة أم الرابعة أم غيرها سبعة الكتروونات مشابهة تماما للفلور فى صفاتها الكيميائية ، وهذا هو الواقع ؛ فالكلور والبروم واليود فى طبقاتها الثالثة والرابعة والخامسة على الترتيب سبعة الكترونات ، وهى جميعا تشبه الفلور فى صفاتها الكيميائية .
والعناصر التى طبقاتها تامة لا تتحد مع غيرها مطلقا ، مثل ذلك الهليوم فى طبقته الاولى الكترونان فهى تامة ؛ والنيون والأرجون والكريبتون والزنون تحتوى طبقاتها الثانية والثالثة والرابعة والخامسة على تمانية الكترونات ، وهذه العناصر جميعا غازات موجودة بمقادير صغيرة فى الجو وهى لا تتحد مع غيرها مطلقا .
وعدد البروتونات الموجودة فى النواة هو كما سبق القول الذى يعين عدد الالكترونات المحيطية ، فهو الذى يحدد "شخصية " الذرَّة ، فإذا فقدت الذرة الكترونا أو أكثر من الكتروناتها المحيطية ، بل حتى لو فقدتها جميعا ، فان وجود هذه الشحنة الموجبة فى النواة كفيل بأن يجتذب إليها الإلكترونات السالبة من هنا ومن هناك حتى يتم بناؤها ثانية وتعود سيرتها الأولى . وزيادة نيوترون أو أكثر على نواة الذرة لا يؤثر مطلقا فى صفاتها جميعا ماعدا وزنها الذرى ، بل إن الذرات المتساوية فى عدد البروتونات ، المختلفة فى عدد النيوترونات ، لا يمكن فصلها عن بعضها بالطرق الكيميائية ، ولم يهتد إليها إلا حديثا لتشابهما تماما من جميع الوجوه . أما إذا تغير عدد البروتونات في النواة فان العنصر يتحول إلى عنصر آخر .
