اعن الله السياسة وألاعيبها ، فقد أفسدت علينا كل شئ ، حتى الطبيعة وجمالها كنا ننتظر القمر ننعم بجماله ، وتمرح نفوسنا فى ضيائه ، فإذا الغارات تنتهزه كما كنا ننتهزه ، وترقبه كما كنا نترقبه ، فاقترنت هالته بالقتل والدمار ، وتلون بياضه بحمرة الدماء ، وأصبح ضياؤه وخير منه الظلام ، وبياضه وخير منه السواد ، وفقد شعريته وفضيته وجماله وبهاءه ، إلى حين
وعدت أيضا على الربيع الذى لم يمس جماله أحد ، ولم ينتقص جلاله أحد ؛ فأخرجت لنا " لعبة " شيطانية سمتها " هجوم الربيع " أفقدته جماله وجلاله ، وأحلت بها الخوف محل الأمن ، وكراهة الاستقبال مكان بهجة الاحتفال .
ومع هذا فسنتناسى ألاعيبها وإفسادها ، ولنخلص للربيع نستقبله ونحييه ، فألاعيب السياسة موجات لا تعلو حتى تفنى ، ولا تخلق حتى تنعدم . ولا تكون حتى تفسد ؛ والزمان باق ، والقمر باق ، والربيع باق ، وقلوب الناس لا ستقبال الجمال والاحتفاء به باقية .
هذا أنت - أيها الربيع - أقبلت فأقبلت معك الحياة بجميع صنوفها وألوانها ؛ فالنبات ينبت ، والأشجار تورق وتزهر ، والهرة تموه ، والقمرى يسجع ، والحمام يهدر ، والغم تشغو ، والبقر يخور ، وكل أليف يدعو أليفه ، و " يا حسنها حين تدعوه فينتسب " ؛ حتى الأغصان فى الأشجار تغار فتمايل
وتتعانق ، ولا تهدأ حتى تمثل دور الأحباب . فكل شئ - بك - يشعر بالحياة ، ويمتلئ بالحياة ، ويستولد الحياة ، ويستجمل الحياة ، وينسى هموم الحياة ، ولا يذكر إلا سعادة الحياة ؛ فان كان الزمان جسدا فأنت روحه ، وإن كان مظهرا فأنت سره ، وإن كان عمرا فأنت شبابه .
هذا أنت تغار على النهار المضئ ، وقد اعتدى عليه الليل وظلمته ، فسلبه قطعة منه ، صبغها بأديمه ، وأمده الشتاء القاسى فأعانه على ظلمه ، حتى اعتدلت فى منصبك ، واستويت على عرشك ، فرددت ظلامته فى رفق وأناة ، بالثانية والدقيقة ، حتى اعتدل الليل والنهار ؛ ثم أبيت إلا أن يظلم النهار كما ظلم الليل ، فالجروح قصاص ، فكنت فى ظلمك عادلا ، وفى محاباتك منصفا ، وكان لك المجد إذ وقفت بجانب النور والبياض ، على حين وقف غيرك بجانب الظلمة والسواد .
وهذا أنت - بسحرك العجيب - استطعت أن تجعل من الشمس حائكا وشاه نساجا ، يحوك أجمل الروض ويوشيه ، ويبدع فى النقش والالوان والتصوير ، فإذا الدنيا كلها جمال ألوان وجمال تصوير ، بقلده أ كبر فنان فيفشل ، ويحا كيه أ كبر مصور فيعجز ، فأين المادة من الروح ؟ وأين التقليد من الإبداع ؟ لقد حولت فعل الشمس فى السماء إلى الأرض فجملت الثرى بنجوم الثريا ، ونسقت فيه ألوانا تزرى بقوس قزح ، وألفت من أزهاره أشكالا وألوانا وهندسة أين منها نهر المجرة ، حتى خيلت أن أهل السماء يرحلون منها ليروا ما أبدعت الشمس فى الأرض .
أيدى لنا فصل الربيع منظرا
بمثله تفتن ألباب البشر
وشيا ولكن حا كه صانعه لا لابتذال اللبس لكن للنظر
عاينه طرف السماء فانتفت عشقا له نبكى بأجفان المطر
فالأرض فى زى عروس فوقها من أدمع الفطر بشار من درر
جعلت الدنيا ملء العيون بما أبدعت من ألوان وما مايلت من أغصان ، وما حكت من وشى ، وما صنعت من جمال ؛ فأبيض ناصع فى أخضر ناضر ، وتعاريج سوداء فى زهرة صفراء أو بيضاء ، وأشكال مهندسة تستخرج العجب وتأخذ باللب .
من زهرة جميلة المنظور ضاحكة كالوافد المحبور
باكية كالعاشق المهجور شذرها الغيث بلا شذور
شقائق كناظر المخمور وأقحوان كثغور الحور
ونرجس كأعجم الديجور والطل منثور على النثور
يرصع الياقوت بالبلور
تذكرنا قدود الأشجار بقدود الحسان ، وحمرة الورد بحمرة الخد ، وبياض الزهر ببياض الثغر ، وتعانق الأغصان بتعانق الخلان ! فأنت تعرض الجمال وتوحى بمعانى الجمال .
أرتك يد الغيث آثارها وأعلنت الأرض أسرارها
فما تقع العين إلا على رياض تصنف أنوارها
يفتح فيها نسيم الصبا خياها ويهتك أسئارها
ويدفى إلى بعضها بعضها كضم الأحبة زوارها
كأن تفتحها بالضحى غذارى تحلل أزرارها
تغض لترجسها أعينا وطورا تحدق أبصارها
إذا مزنة سكبت ماءها على بقعة أشعلت نارها
وعلى الجملة فقد كانت الدنيا - كما قال أبو تمام - بغيره معاشا ، فأصبحت به منظرا .
وكما جعلت الدنيا ملء العين جعلتها ملء السمع ، فرأت الأطيار ما وشبته فى أرضك ، فحرك اشجانها ، وأطاق أصواتها ، وجعلت منها موسيقى مختلفة النغمات متعددة الأصوات . هذا البلبل يغنى ضاحكا ، وهذا الحمام يغنى باكيا .
من كل دبسى (١) له رنين و كل قمرى له حنين
كانت عجماء فأفصحت فى أيامك ، وكانت خرساء فأنطقها جمالك ، وكانت بكماء فراعها منظرك ؛ فوقفت على السرو والدوح من خطبائك ، فلما غنت حر كت أشجان الانسان ، وأوحت إليه بالمعانى الحسان ؛ فأفاض الشعراء فى وصفها ، وبكوا لبكائها ، وتغنوا من غنائها .
ثم هذا أنت ملأت الجو عطرا بأزهارك الطيبة ، وثمارك العطرة ، فأنعشت النفوس ، وبعثت الأمل . فلما خاف الناس من غبيتك ، وانقطاع شذاك ، أممنوا الفكر فى الاحتفاظ برائحتك ، فاستخرجوا الروائح من أزهارك ، وتحايلوا للانتفاع بها فى غيابك ، فاخترعوا الغوالى والندود ، وعنوا بالاستعطار والتصعيد ، يتعطرون بها ذكرى لعطرك ، ويتفننون فيها تقليدا لعبيرك .
لقد اعتدلت فى حرارتك فلم تغلى فى بردك غلو الشتاء ولا فى حرك غلو الصيف ، فكنت جميلا فى جوك كما كنت جميلا فى كل شئ من آثارك .
ليت الزمان كان ربيعا كله ، إذا لتذوق الناس الجمال كما ينبغى ، فكان كل ما يصدر عنهم جميلا لا قبح فيه ، خيرا لا شر فيه . فهل الرذيلة والشر إلا قبح كقبح الشتاء والصيف ؟ وهل الفضيلة والحق إلا جمال كجمال الربيع ؟

