- تابع - شرع مارك " يبتعد , وهو ممسك بذراعي : - و هى ..؟ هي ..؟ أه ! ليتني أستطيع مشاهدتها ! ليتني استطيع ذلك ..! انها لا شك مسرروة الآن كل السرور بل هى الآن فخورة بهذا الانتصار الذى هو انتصارها !!
ولكن أنى لي مشاهدتها أثناء التمثيل، والظلام يغشى القاعة كلها؟. . . خير لنا أن ننتظرها على بضع خطوات من منزلها. . . وانتظرنا. . . . . انتظرنا أكثر من ساعة، وإذا الستار ينزل بين إعصار شديد من الهتاف والتصفيق، فتسابق أصدقاء (سيريني) إليه، ليؤكدوا له نجاحه، وليقودوه إلى المسرح، لتحية الجماهير، ولكنه أبى أن ينزل على رغبتهم، لم يتحرك، بل لبث يحدق فى تلك النافذة، شاحبا كئيبا!!!
أخذت الجماهير تتدفق، وقصدت جموعها تلك القهوة الحقيرة، التى ربحت فى تلك الليلة ما لا يصدق؛ وبعد ساعة من الزمن، طفقت ترفض زرافاتها شيئا فشيئا، فأوى من أسعدهم الحظ باستئجار غرف فى (بونتاسياف) إلى مضاجعهم، وانطلقت سيارات القسم الآخر تعدو وتتسابق، فلم تلبث القهوة أن أقفلت أبوابها، ولم يبق أحد مستيقظا، غير جماعة النقاد المسرحيين، الذين كانوا يتهافتون على دائرة البرق، ليبرقوا إلى صحفهم بهذا الانتصار، وبآرائهم فيه.
اما " سيريني , فانه لبث واقفا يحدق فى تلك النافذة , ولايرفع بصره عنها , وقد كانت تلوح على وجهه أمارات الكآبة والحزن :
- طالع منكود .!! ..أنا الذي لم يرغب فى هذا الانتصار إلا لأتمتع برؤيتها عن طريقه
ماذا كنا ننتظر بعد تلك الساعة؟ ليس من شك أنها عادت إلى دارها من حيث لم تقع أبصارنا عليها. . . ليس من شك أنها عادت، ومن وقت غير يسير؛ وأنا كذلك، وإذا (سيريني) يتأكد أن منزل عروس أحلامه، لا باب له من واجهته !!!
طفقنا نبحث عن الباب، فاهتدينا إليه، فى زقاق ضيق. . . . لا شك أنها عادت، ولكن. . . لو كانت عادت، لأبصرنا الضوء من خصاص النوافذ، ولو برهة وجيزة. إلا أنا كنا إذا أمعنا فى التفكير قلنا: وما يدرينا؟ هل نحن واقفون على هندسة الدار، حتى نعلم إذا كان إشعال النور فى إحدى الغرف، لابد أن يظهر من تلك النوافذ؟
دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فى الكنيسة المجاورة، وكان التعب قد بلغ مني مبلغه، حتى كدت أسقط إلى الأرض إعياء وضعفا، فشرعت أتوسل إليه أن يعود، ومازلت به حتى أقنعته بذلك. . . وهكذا بفضل الله، وبعد سلسلة لا حد لها من التأوهات المحرقة، والتنهدات الملتهبة، وبعد كثير من الحدس والتخمين، وبعد نواح شبيه بمراثي أرميا، وبعد أن رسم خططا ليقوم بتنفيذها فى الغد، بعد كل ذلك، أوى (سيريني) إلى فراشه، وهو يزأر ويزمجر، وتركني أرقد بسلام؛ وأنا ألعن فى نفسي الحب الريفي الذى يحتل قلوب كبار رجال المدن!!!
-6- وفي الصباح، عند الساعة العاشرة، أحتشد الناس فى قهوة القرية الحقيرة. وكان (مارك) قد دعا رهطا من أصدقائه لتناول الطعام فى الهواء الطلق، رغبة منه فى استبقائهم حوله. وكان بين المدعوين الممثلة الشهيرة (تيريز اندرياني) وعدد غير يسير من أصدقائه فى فلورانسا وروما. وفريق من النقاد المسرحيين. الذين كان الشاعر الرصين، الذى يعرف كيف يدير أعماله لتكون موفقة حتى فى اشد أحواله اضطرابا - سيرجعهم بسيارته
إلى روما. وهنالك طفق اعظم أولئك النقاد مقدرة، وأبعدهم صيتا، ينقد الرواية نقدا وجيها. مسهبا، ويمتدحها فى غير تحفظ ثم أخذ يبين كيف كان يضعها لو عهد إليه بتأليفها. ولكنه لم يكد يدرك نقطة التدليل على سداد رأيه ببرهان جليل من علم الجمال حتى تحول عنه (مارك سيريني) ولم يعد يكترث به. وبأروع جمله. . .
حدث حادثان عظيمان. . . ظهرت عروس أحلامه. ومن ورائها أمها. تخطر وتتهادى فى ذلك الزقاق الضيق. متجهة نحو الساحة الكبرى. ولم يكد يتميزها تماما حتى كان أحد أصدقائه الفلورانسيين. قد هرع إلى السيدتين. ورفع قبعته لتحيتهما. . . وقد لبث يتحد إليهما زهاء عشر دقائق. كاد (سيريني) ينفجر أثناءها. . . وقد انفجر. . . واخذ يطلع الجميع على سره: (هل تريدون أن تعلموا أصررت على أن تمثل رواياتي لأول مرة فى (بونتاسياف) ؟. . . إذن فاعلموا. إني لم افعل ذلك إلا من اجل هذه السيدة. التى أهيم بها هياما جنونيا!).
وبكلمات قليلة اطلعهم على كل شىء . اطلعهم على قصة غرامة منذ وقوف سيارته تحت نافذنها . حتى انتظاره اياها فى الليلة السابقة الى ما بعد منتصف الليل بساعتين !
وكانت ترتفع عبارات الدهشة . والاستغراب . من هنا وهنا . وكانت ترافقها في بعض الاحيان تعليقات مختلفة متضاربة . ورغم هذا كله , ومع ان سيدة النافذة كانت ماتبرح تتحدث الى " جيورجينى " صديقه الفلورانسى فانها لم تلتفت الى جهتنا قط ... ولكن لا .. لقد جادت علينا بنظرة قصيرة عندما لفت " جيورجينى " نظرها الينا
اخذ " سيرينى " يلاحظ الاءم . كانت تحمل عددا من مجلة " الا لليستراسيون " وكتابا للصلاة تحت ابطها ... وقد فتحت المجلة وارت صديقنا صفحة فيها .لم يملك أن يكتم دهشته على أثر النظر اليها
- هي تريه رسمى بكل تأكيد .! ولكن ... لماذا يبدى " جيورجيني " هذه الدهشة ؟
وفى هذه اللحظة تماما . هز الفلورانسى يدى السيدتين , ورفع قبعته لتحيتهما و وداعهما , واتجهت السيدتان , دون ان تلتفا الى جهتنا ، نحو الكنيسة .
وعاد " جيورجينى , الينا مسرعا ، ولكن " مارك , كان قد . أسرع لمقابلته , وسؤاله :
- من هي ؟؟؟ - مدام (ازوري) . . . عرفتها وهي طفلة فى مدينة فلورنسا - وماذا قالت لك؟ - لم تقل لي شيئا ذا أهمية!!! - إذا لماذا نظرت إلي؟ - لم تنظر إليك قط!!! - . . . إني أؤكد لك إنها نظرت إلي. . . قال مارك ذلك. واحتد. . . فذكر (جيوجيني) ، وبعد مدة - ها. . . ربما كان ذلك عندما سألتهما إذا كانتا ترغبان فى التعرف إلى (مارك سيريني) . . . - وهي. . . ماذا. . . ماذا قالت؟ - لم تقل شيئا!! - كيف لم تقل شيئا؟. . . هذا محال!. . . تكلم!. . . تكلم!. . . تكلم!. . . - إني أستميحك عذرا يا (سيريني) من اطلاعك على جوابها!. . . إني لا أجد فى نفسي الجرأة الكافية لذلك!!!. . . إني لا يسرني أن أسمعك ما لا يسرك!!!! - قل!!!. . . قل!!!. . . قل وإلا سحقتك!!! أما نحن، فقد كنا فى غاية الدهشة، والاستغراب. . . و (جيورجيني) المسكين لم يك يفهم سببا لهياج الشاعر وثورته، وكان كلما شدد المؤلف عليه النكير، أزداد هو جمودا واضطرابا - قلت لهما: هل ترغبان فى التعرف إلى (مارك سيريني) . . . هذا هو!. . . فنظرتا إليك. . . ولكن. . بعد ذلك. . - ماذا بعد ذلك؟؟؟. . قل. . . تكلم. . - وبعد ذلك. . . وبعد ذلك سألتني. . . - ماذا سألتك؟؟ - سألتني. . . سألتني: ومن هو (مارك سيريني) ؟؟ يا للصاعقة!!! كان (سيريني) واقفا، فهوى على كرسيه متهالكا، ثم قال بصوت ضعيف: - وأنت، ماذا أجبتها؟ - لم اجبها بشيء. . . فقد تذكرت وقالت: (آه. . . أجل. . . أليس هو (مارك سيريني) مؤلف الأوبرا التى مثلوها مساء البارحة؟)
- (الأوبرا) !!!. . . (الأوبرا) !!!. . . - إن التعبير غريب، أليس يسمون كذلك؟ ولكن ينبغي أن نتلمس لها عذرا، لأنها ريفية. وسكان الريف يسمون كل شئ يمثل فى لغتهم (أوبرا) . . . - ولكن. . . قل لي. . . (استطرد (سيريني) بصوت يكاد لا يسمع). . . قل لي، هل ذهبت على الأقل لمشاهدة (الأوبرا) ؟ - كلا!!! لم تحظر التمثيل. . . لقد سألتها ذلك. . . لم تحضره لان زوجها مسافر. . . ومن جهة ثانية ليس لها رغبة فى مشاهدة الروايات التمثيلية. إذ لديها ما يشغلها عن ذلك من الأعمال البيتية. . . لقد اعترفت لي بذلك. . . وقد اصبح لها ثلاثة أولاد فأنى لها ذلك؟؟؟ اخذ يردد (مارك) فى نفسه. كيف لم تذهب؟. وكلمة (أوبرا) كادت تسحقه. . . ثم التفت إلي: (أوبرا) . . . (أوبرا) أهذا يصدق؟؟؟ وعرض له خاطر آخر فسأل (جيورجيني) ، ولكن. . . لماذا أرتك رسمي؟ - رسمك؟. . . أي رسم؟ - آه!. . . هل أصبحت أنت أيضا (خبيثا) ؟ لقد أرتك رسمي. . . أرتك إياه. . . إني موقن من ذلك!!! أولم تفتح لك الأم مجلة (الليستراسيون) ؟؟؟
- مجلة (الليستراسيون) ؟. . . آه. . . هذا صحيح. . . تذكر (جيورجيني) . . . ولكنها لم تريني رسمك!!!. . . لعل من المستحسن أن أعلمك، بان زوجها مسيو (ازوري) كيماوي، وبكلمة اصح، صيدلي، وقد اخترع فى المدة الأخيرة حبوبا تقوي نهود النساء متى ما بلغن سنا معينة، وهو يحسب انه سيكسب بذلك الملايين، ولو سمعت السيدتان تتحدثان عن هذه الحبوب، لأيقنت إنها حبوب عجيبة جدا، ولقد أرتني الأم الإعلان الذى نشرته مجلة (الليستراسيون) عنها، وهو إعلان طريف، يصور الإلهين (جينون) و (فينيس) يتشادان من شعورهما وهما يتنازعان علبة من هذه الحبوب التى دعاها الصيدلي: مجددة الشباب!!!
-٧- كان هذا الحديث ضربة قاضية على آمال " سيريني " وأحلامه فارتمى على كرسيه خائرا , مضعضعا , وأشار الى " جيورجيني " بيده ، ألا يتابع حديثه , والا يعود اليه ..أما نحن , فقد كنا غارقين فى صمت رهيب , لا يعدله غير صمت المقابر , ولا أظننى
بحاجة لأن أعلمكم، بان الدعوة وقفت عند هذا الحد، وان المدعوين عادوا إلى فلورنسا عادوا إليها ليتناولوا الطعام فى مطاعمها. وقد تناولت الطعام مع (سيريني) فى مطعم (ميليني) ، وإذا الشاعر قد أضاع رشده، وفقد صوابه، وأعاد النقاد المسرحيين بالقطار إلى روما. . .
ولما فرغنا من الطعام , جعلنا نتناول الفاكهة , واذا به ينفجر : - أرأيت ...؟ لقد صادفت فى حياتى انتصارات واندحارات عديدة , ولكني لم أشعر في حياتى على أثر اندحار , بالخجل القاتل الذى تركه فى نفسى انتصار البارحة ..كلا ...! لم أشعر قبل اليوم بمثل هذا الخجل السام !!!
- إن الألفي شخص الذين أطاعوا هواي، وتسابقوا إلى (بونتاسياف) لمشاهدة روايتي الحديثة، وتحيتها بأعاصير داوية من الهتاف والتصفيق. . . والجرائد الصافحة بالتقاريظ والانتقادات الفخورة بنشر اسمي ورسمي. . . والسياحة الموفقة التى ينتظر أن تصادفها فرقتي. . . وبرقيات التهنئة التى ما برحت تتقاطر علي من كل حدب وصوب. . . إن كل ذلك يا صديقي قد تلاشى واندثر!!!
ولإطفاء هذا اللهيب. . . ولإحداث الظلام بتلك الأضواء، لم تتكبد تلك الريفية التى كنت احسب إنها تعجب بي إعجابا، لا يعد التأليه بجانبه شيئا مذكورا. . . لم تتكبد مشقة كبيرة. . . إنما كفاها أن تسال ذلك الأحمق (ولكن من هو مارك سيريني؟)
كم يبدو لنا العالم كبيرا . وكم هو صغير !! ان أعظم العظماء ، اذا خرجوا عن دائرة بضعة آلاف شخص ؛ يصبحون مجهولين ؛ لايعرفهم أحد , ولا يأبه بهم أحد !!
انظر هذه جريدة (لاناسيون) قد شغلت اكثر من نصف صفحة بالحديث عن روايتي، وهذا اسمي قد كتب فيها بحروف بارزة على أربعة عواميد. . . ويخيل إليك بعد ذلك إن جميع الناس أصبحوا يعرفون هذا الاسم، بل ربما ظننت انه ينبغي عليهم بعد ذلك أن يعرفوه. . . ولكن الحقيقة هى إن لا أحد يتذكره، عندما يقلب الصفحة. . هو ذا الجارسون يتأهب ليقدم لنا القهوة، وهو قد طالع جريدة هذا الصباح، ادعه واسأله. من هو مارك سيريني)؟. . . إني أراهنك على زجاجة شمبانيا: انه سيسخر منك، وسيفتح لك عينين كبيرتين دهشتين.
الا ان مارك " لم يقدم لي شيئا من الشمبانيا , لأنى أحسنت صنعا بعدم دعوة " الجارسون ،" ولكن المؤلف لم ينقطع عن
الشكوى والتذمر ، وأخذ ينعى على نفسه جهوده الضائعة , ولم يتردد عن لصق بعض الوصمات بنفسه , لانه زرع بذورا قوية من العمل الدائم , ليحصد بعد ذلك الموقف المزرى الذى تقفه بلاده العاقة من نبوغه وعبقريته !!!
وأخيرا دعونا (الجارسون) لندفع له الحساب، وبينما (مارك) يعيد محفظته إلى جيبه، ابتسم الجارسون، وقال وهو يلتقط البقشيش: - عفوا. . . ألم أحرز الشرف بخدمة (مارك سيريني) ؟ فانتفض هذا الأخير وقال: - وكيف عرفتني؟ - لقد أبصرت اسمك هذا الصباح منشورا فى مجلة (الليستراسيون) وذهب يبحث عن العدد. ولم يلبث أن عاد به. وفتحه عند الصفحة التى نشر فيها رسم (سيريني) جديد بمناسبة تمثيل روايته الحديثة فى (بونتاسياف) فنظرت أنا و (مارك) إليها. ولحظنا فجأة على الصفحة اليمنى. إزاء الرسم المنشور على الصفحة اليسرى تماما.أبصرنا يا لسخرية الصدف! أبصرنا (جينون وفينيس) يتنازعان علبة من الحبوب المجددة للشباب!!!
فخرج مارك " من مطعم " ميلينى " وقد هدأت أعصابه . وسكنت نفسه
هل ينبغى تهنئة " الجارسون " لانه عرف " سيريني ...؟" هل ينبغى تخطئة سيدة النافذة لانها لم تعرفه ؟
..كلا أنها الأصدقاء ! ان سيدة " بونتاسياف " الفاتنة قد ألقت علينا درسا مفيدا , ومفيدا جدا : ينبغي علينا أن ندير الاوركستر و أن نضع الروايات لا لغيرنا ، بل لأنفسنا !!!
أما الشهرة، فهي كلمة جوفاء أيها الأصدقاء الذين أرادوني على الكلام كثيرا. الشهرة؟. . . كلمة لا أفكر فيها عندما أشير بعصاي اللدنة إلى أعضاء الاركستر. . . وهي الكلمة التى لم يعد (سيريني) يفكر فيها عندما يأخذ اليراع ليضع رواية جديدة. . . تمت حلب.
